نشأة الإمام الحسن بن علي العسكري ( عليه السلام ) *
نسبه الشريف :
هو الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) . وهو الإمام الحادي عشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) (1) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً .
وأُمه أُم ولد يقال لها : حديث ، أو سليل ، وكانت من العارفات الصالحات(2) . وذكر سبط بن الجوزي : أنَّ اسمها سوسن (3).
محل الولادة وتأريخها :
ولد الإمام أبو محمد الحسن العسكري (عليه السلام) ، كما عليه أكثر المؤرِّخين ، في شهر ربيع الآخر ، سنة (232هـ) من الهجرة النبوية المشرَّفة ، في المدينة المنورة . ويلاحظ هنا اختلاف المؤرِّخين والرواة في تاريخ ميلاده الشريف من حيث اليوم والشهر والسنة التي ولد فيها . فمنهم مَن قال : إنّ ولادته كانت سنة (230هـ)(4) ، وقال آخرون : إنَّها كانت سنة (231 هـ ) (5) ، أو سنة (232هـ) (6) ، أو سنة (233هـ) (7) .
وروي أنَّها كانت في السادس من ربيع الأوّل ، أو السادس أو الثامن أو العاشر من ربيع الآخر ، أو في رمضان (8) .
ولا نرى غرابة في هذا الاختلاف ، فربَّما يعزى إلى إجراءات كان الإمام الهادي (عليه السلام) يقوم بها من أجل المحافظة على حياة الإمام العسكري (عليه السلام) ، أو يكون لغير هذا من أسباب تعزى إلى ملابسات تاريخية خاصة .
ألقابه ( عليه السلام ) وكناه :
أُطلق على الإمامين علي بن محمد والحسن بن علي (عليهما السلام) : (العسكريّان) ؛ لأنّ المحلة التي كان يسكنها هذان الإمامان ـ في سامراء ـ كانت تسمى : عسكر (9). و (العسكري) هو اللقب الذي اشتهر به الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) . وله ألقاب أخرى ، نقلها لنا المحدِّثون والرواة وأهل السير ، وهي : الرفيق ، الزكي ، الفاضل ، الخالص ، الأمين ، والأمين على سرّ الله ، النقي ، المرشد إلى الله ، الناطق عن الله ، الصادق ، الصامت ، الميمون ، الطاهر ، المؤمن بالله ، وليّ الله ، خزانة الوصيين ، الفقيه ، الرجل ، العالم (10) .
وكل منها له دلالته الخاصّة على مظهر من مظاهر شخصيته وكمال من كمالاته . وكان يكنّى بابن الرضا ، كأبيه وجدّه . وكنيته التي اختص بها هي : ( أبو محمد ) .
ملامحـه :
وصف أحمد بن عبيد الله بن خاقان ملامح الإمام الحسن العسكري بقوله : إنَّه أسمر ، أعين (11) ، حسن القامة ، جميل الوجه ، جيد البدن ، له جلالة وهيبة (12) . وقيل : إنّه كان بين السمرة والبياض (13) .
النشأة وظروفها :
نشأ الإمام أبو محمد (عليه السلام) في بيت الهداية ومركز الإمامة الكُبرى ، ذلك البيت الرفيع الذي أذهب الله عن أهله الرجس وطهّرهم تطهيراً . وقد وصف " الشبراوي " هذا البيت الذي ترعرع فيه هذا الإمام العظيم قائلاً :
( فللّه درّ هذا البيت الشريف ، والنسب الخضم المنيف ، وناهيك به من فخار ، وحسبُك فيه من علوّ مقدار . فهم جميعاً في كرم الأرومة وطِيب الجرثومة كأسنان المشط متعادلون ، ولسهام المجد مقتسمون . فياله من بيت عالي الرتبة ، سامي المحلة ، فلقد طاول السماء عُلاً ونُبلاً ، وسما على الفرقدين منزلةً ومحلاًّ ، واستغرق صفات الكمال فلا يستثنى فيه بـ (غير) ولا بـ (إلاّ) . انتظم في المجد هؤلاء الأئمة انتظام اللآلي ، وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي . وكم اجتهد قوم في خفض منارهم ، والله يرفعه ، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم ، والله يجمعه ، وكم ضيّعوا من حقوقهم ما لا يهمله الله ولا يضيّعه ) (14) .
لقد ظفر الإمام أبو محمد بأسمى صور التربية الرفيعة وهو يترعرع في بيت زكّاه الله وأعلى ذكره ورفع شأنه ، حيث ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ...) (15) ، ذلك البيت الذي رفع كلمة الله لتكون هي العليا في الأرض ، وقدّم القرابين الغالية في سبيل رسالة الله .
وقطع الإمام الزكي شوطاً من حياته مع أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) ، لم يفارقه في حلّه وترحاله ، وكان يرى فيه صورة صادقة لمُثل جدّه الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) ، كما كان يرى في أبيه أنّه امتداد الرسالة والإمامة فكان يوليه أكبر اهتمامه ، ولقد أشاد الإمام الهادي (عليه السلام) بفضل ابنه الحسن العسكري قائلاً :
( أبو محمد ابني أصحّ آل محمد (صلَّى الله عليه وآله) غريزةً وأوثقهم حجة ، وهو الأكبر من ولدي ، وهو الخلف ، وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها )(16) ، والإمام الهادي بعيد عن المحاباة والاندفاع العاطفي مثله في ذلك آبائه المعصومين .
وقد لازم الإمام أبو محمد (عليه السلام) أباه طيلة عقدين من الزمن ، وهو يشاهد كل ما يجري عليه وعلى شيعته من صنوف الظلم والاعتداء . وانتقل الإمام العسكري (عليه السلام) مع والده إلى سرَّ من رأى ( = سامراء) حينما وُشي بالإمام الهادي (عليه السلام) عند المتوكّل ، حيث كتب إليه عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي : ( يُذكر أنَّ قوماً يقولون إنَّه الإمام ( أي علي الهادي (عليه السلام) ) ، فأشخصه عن المدينة مع يحيى بن هرثمة حتى صار إلى بغداد . فلمَّا كان بموضع يقال له الياسرية ، نزل هناك ، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقّيه ، فرأى تشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته ، فأقام إلى الليل ، ودخل به في الليل ، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ، ثم نفذ إلى سرَّ من رأى) (17).
ولقد أسرف المتوكّل العباسي في الجور والاعتداء على الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) ، ففرض عليه الإقامة الجبرية في سامرّاء وأحاط داره بالشرطة تحصي عليه أنفاسه ، وتمنع العلماء والفقهاء وشيعته من الاتصال به . وقد ضيّق المتوكّل على الإمام في شؤونه الاقتصادية أيضاً ، وكان يأمر بتفتيش داره بين حين وآخر ، وحمله إليه بالكيفية التي هو فيها .
وكان من شدّة عداء المتوكّل لأهل البيت (عليهم السلام) أن منع رسميًّاً من زيارة قبر الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) بكربلاء ، وأمر بهدم القبر الشريف الذي كان مركزاً من مراكز الإشعاع الثوري في أرض الإسلام .
وكانت كل هذه الظروف المريرة هي الظروف التي عاشها الإمام الزكي أبو محمد العسكري ( عليه السلام) وهو في نضارة العمر وغضارة الشباب ، فكَوَتْ نفسه آلاماً وأحزاناً ، وقد عاش تلك الفترة في ظل أبيه وهو مروّع ، فذابت نفسه أسىً وتقطّعت ألماً وحسرة (18) .
وكان استشهاد والده (سنة 254هـ) وتقلّد الإمامة بعده ، وكانت فترة إمامته أقصر فترة قضاها إمام من أئمة أهل البيت الأطهار ، وهم أصح الناس أبداناً وسلامة نفسيّة وجسديّة . قد استشهد وهو بعد لمّا يكمل العقد الثالث من عمره الشريف ؛ إذ كان استشهاده في سنة (260هـ) (19) ، فتكون مدة إمامته (عليه السلام) ست سنين . وهذه المدة القصيرة تعكس لنا مدى رعب حكّام الدولة العباسية منه ومن دوره الفاعل في الأُمة ؛ لذا عاجلوه بعد السجن والتضييق بدس السم له وهو لم يزل شاباً في الثامنة أو التاسعة والعشرين من عمره الميمون (20) .
ولا بد من الإشارة إلى أنّ المنقول التاريخي عن الإمام العسكري (عليه السلام) في ظل حياة والده الإمام علي الهادي (عليه السلام) ومواقفهما ، لا يتعدى الولادة والوفاة والنسب الشريف وحوادث ومواقف يسيرة ، لا تتناسب ودور الإمام (عليه السلام) الذي كان يتمثَّل في حفظ الشريعة والعمل على إبعاد الأُمة عن الانحراف ومواجهة التحديات التي كانت تواجهها من قبل أعداء الإسلام .
غير أنَّ مجموعة من الروايات التي نقلها لنا بعض المحدِّثين تشير إلى أمور مهمّة من حياة الإمام العسكري (عليه السلام) . وقد أشار الإمام العسكري نفسه إلى صعوبة ظرفه بقوله (عليه السلام) : ( ما مُنيَ أحد من آبائي بمثل ما مُنيتُ به من شك هذه العصابة فيّ ) (21) .
وهذا شاهد آخر على حراجة الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تحيط بالإمامين العسكريين علي بن محمد والحسن بن علي (عليهما السلام) ، والتي كانت تحتِّم إبعاد الإمام العسكري من الأضواء والاتصال بالعامة ، إلاّ في حدود يسمح الظرف بها ، أو تفرضها ضرورة بيان منزلته وإمامته وعلو مكانته وإتمام الحجّة به على الخواص والثقاة من أصحابه ؛ كلّ ذلك من أجل الحفاظ على حياته من طواغيت بني العباس .
وإنَّ ما ورد منه في وفاة أخيه محمد يعدّ مؤشراً آخر يضاف إلى قول الإمام (عليه السلام) ؛ ويدل على صعوبة الظرف الذي كان يعيشه الإمامان ، وحالة الاستعداء التي كانت تفرضها السلطة عليهما . فعند وفاة محمد بن علي الهادي (عليه السلام) ـ كما يروي الكليني عن سعد بن عبد الله عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس ـ حيث قال : ( إنَّهم حضروا يوم توفِّي محمد بن علي بن محمد دار أبي الحسن (عليه السلام) ، وقد بسط في صحن داره والناس جلوس حوله ، فقالوا : قدّرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب ومن بني العباس وقريش مائة وخمسون رجلاً ، سوى مواليه وسائر الناس ، إذ نظرنا إلى الحسن بن علي (عليه السلام) قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه ونحن لا نعرفه ، فنظر إليه أبو الحسن (عليه السلام) بعد ساعة من قيامه ، ثمَّ قال له : ( يابني ، أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً ) . فبكى الحسن (عليه السلام) واسترجع وقال : ( الحمد لله رب العالمين ، وإيّاه أسأل تمام نعمه لنا فيك ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ) . فسألنا عنه ، فقيل لنا : هذا الحسن ابنه ، وقدّرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة أو أرجح ، فيومئذ عرفناه وعلمنا أنَّه قد أشار إليه بالإمامة وأقامه مقامه ) (22) .
ونلاحظ أنَّ سؤال جماعة عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ، وفي هذه المناسبة الأليمة التي حضرها أعيان الناس ؛ دليل قوي على مدى تكتّم الإمام الهادي على ولده العسكري (عليهما السلام) ، خصوصاً وقد بلغ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) العشرين من عمره الشريف .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* اقتباس قسم المقالات في شبكة الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي، المصدر: أعلام الهداية، الإمام الحسن بن علي العسكري ( عليه السلام ) ، تأليف : المجمع العالمي لأهل البيت (ع) .
(1) أصول الكافي : 1 / 503 .
(2) الإرشاد : 1 / 313 .
(3) تذكرة الخواص : 324 .
(4) المنتظم في تاريخ الأُمم والملوك : 7 / 126 .
(5) تذكرة الخواص : 324 ، كشف الغمة : 3/ 192 ، عن ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول .
(6) وفيات الأعيان : 2 / 94 .
(7) دلائل الإمامة : 223 .
(8) راجع : حياة الإمام العسكري ( دراسة تحليلية تاريخية علمية ) : 58 ـ 59 .
(9) بحار الأنوار : 50 / 235 .
(10) كمال الدين : 1 / 307 ، إثبات الهداة : 1 / 651 ، 544 ، 469 ، الشيعة والرجعة : 1 / 88 ، وحياة الإمام العسكري : 23 ـ 28 ( للشيخ محمد جواد الطبسي ) . والألقاب الثلاثة الأخيرة هي الألقاب التي وردت في الكتب الرجالية ، باعتبار ورودها في أسانيد الروايات ، والتي كانت تلاحظ فيها ظروف النقل والرواية .
(11) الأعين : الواسع العين .
(12) أصول الكافي : 1/503 ، ح 1 ،وعنه في الإرشاد : 2/321 ، وفي كمال الدين : 1/40 بطريق آخر ، وعن الكليني أو المفيد في أعلام الورى: 2/147، وعن الإرشاد في كشف الغمة: 3/197، وعن كمال الدين والإرشاد والأعلام في بحار الأنوار: 326 ـ 330 .
(13) بحار الأنوار : 50 / 328 ، أخبار الدول : 117 .
(14) حياة الإمام الحسن العسكري (دراسة وتحليل) : 103 ، عن الإتحاف بحبّ الأشراف : 68 .
(15) النور (24) : 36 ـ 37 .
(16) أصول الكافي: 1/327 ح 11 ، وعنه في الإرشاد: 2/319 ، وأعلام الورى: 2/135 ، وعن الإرشاد في كشف الغمة : 3/196، وعن بعضها في أعيان الشيعة ، ج 4 ، ق 3 : 295 ، وعنه في حياة الإمام الحسن العسكري : 23 .
(17) تاريخ اليعقوبي : 2 / 484 .
(18) حياة الإمام الحسن العسكري : 24 .
(19) الإرشاد : 2 / 315 ، وعنه في بحار الأنوار : 50 / 236 .
(20) مناقب آل أبي طالب : 4 / 422 .
(21) تحف العقول : 517 .
(22) الكافي : كتاب الحجة ، باب الإشارة والنص على أبي محمد (عليه السلام) ، الحديث رقم 8 .