الغيرة الحُسينية *
جعفر البيَّاتي
الغيرة أو الحمية : هي السعي في محافظة ما يلزم محافظته ، وهي من نتائج الشجاعة وكِبَر النَّفسِ وقوّتها (1) .
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : ( على قدر الحمية تكون الشجاعة )(2). وقال (سلام الله عليه) أيضاً : ( ثمرة الشجاعة الغيرة )(3) . والغيرة هي من شرائف الملكات ، وبها تتحقَّق الرجولية ، والفاقد لها غير معدود من الرجال (4) .
وهي تُعبِّر ـ فيما تُعبِّر عنه ـ عن الاعتزاز بالشرف والكرامة ، وعن اليقظة والمروءة والنخوة ، وهذه من مثيرات الشجاعة ، ومن دواعي رفض العدوان .
ومقتضى الغيرة والحمية في الدين ، أن يجتهد المرء في حفظه عن بِدَع المبتدعين ، وانتحال المبطلين ، وإهانة مَن يستخف به من المخالفين ، وردِّ شُبَه الجاحدين ، ويسعى في ترويجه ، ولا يتسامح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومقتضى الغيرة على الحريم ، ألاَّ يتغافل عن حفظهنَّ عن أجانب الرجال ، وعن الأمور التي تُخشى غوائلها ، ويمنعهنَّ عن جميع ما يمكن أن يُؤدِّي إلى فساد وريبة .
وأما مقتضى الغيرة على الأولاد ، فأن تراقبهم من أول أمرهم ، فإذا بدأت فيهم خمائل التمييز ، فينبغي أن يُؤدَّبوا بآداب الأخيار ، ويُعلَّموا محاسن الأخلاق والأفعال ، والعقائد الحقَّة (5) .
ولأهمية الغيرة في حفظ المقدَّسات ، وسلامة الأمة وشرف كرامتها ، جاءت الآيات الكريمة والأحاديث المنيفة تُؤكَّد عليها ، وتبيِّن فضائلها ، وتدعو إليها ؛ إذ هي خُلق من أخلاق الله تبارك وتعالى ، ومن أخلاق الأنبياء والمرسلين ، والأئمة الهداة المهديين (صلوات الله عليهم أجمعين) .
قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) : ( ألا وإنَّ الله حرَّم الحرام ، وحدَّ الحدود ، وما أحدٌ أغير من الله ، ومن غيرته حرَّم الفواحش ) (6) . وعنه (صلَّى الله عليه وآله) أيضاً قال : ( إنِّي لغيور ، واللهُ عزَّ وجلَّ أغير مني . وإنَّ الله تعالى يُحبُّ من عباده الغيور ) (7) . والغيرة مُفْصِحة عن الإيمان ، لقول المصطفى (صلَّى الله عليه وآله) : ( إنَّ الغيرة من الإيمان ) (8) .
وهي من نتائج القوة الغضبية في الإنسان ، قد تنتج مساوئ أخلاقية ... كالتهوُّر وسوء الظن والغضب المذموم ، وقد تنتج محاسن أخلاقية . . كالغضب لله تعالى ، والشجاعة والعزَّة والإباء . وقد عُرف الإمام الحسين (عليه السلام) بخُلق الغيرة ... على الدين والحريم والأولاد . وهو الذي تربَّى في ظل أغير الناس : جده المصطفى ، وأبيه المرتضى ، وأُمه فاطمة الزهراء (صلوات الله عليهم) . وعاش في بيت العصمة والطهارة والنجابة ، والشرف المؤبَّد والكرامة ، ونشأ في أهل بيت لم تنجِّسهم الجاهلية بأنجاسها ، ولم تُلبسهم من مُدلهمَّات ثيابها . فالنبي (صلَّى الله عليه وآله) كان ـ كما يقول الإمام علي (عليه السلام) ـ : ( لا يُصافح النساء . فكان إذا أراد أن يبايع النساء ، أتي بإناء فيه ماء فغمس يده ، ثمَّ يخرجها ، ثمَّ يقول : أغمسنَ أيديكنَّ فيه ، فقد بايعتكنَّ ) (9) .
أمَّا ابنته فاطمة (صلوات الله عليها) ... فقد سألها أبوها (صلَّى الله عليه وآله) يوماً : ( أي شيءٍ خيرٌ للمرأة ؟ ) ، فقالت : ( أن لا ترى رجلاً ، ولا يراها رجل ) ، فضمَّها إليه وقال : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ) (آل عمران : 34) (10) .
وأما أمير المؤمنين (سلام الله عليه) ... فيكفي ما ذكره يحيى المازني ، حيث قال : كنتُ جوار أمير المؤمنين (عليه السلام) مدة مديدة ، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته ، فوالله ما رأيت لها شخصاً ، ولا سمعتُ لها صوتاً . وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، تخرج ليلاً ، والحسن عن يمينها ، والحسين عن شمالها ، وأمير المؤمنين أمامها . فإذا قَرُبت من القبر الشريف ، سبقها أمير المؤمنين ، فأخمد ضوء القناديل ، فسأله الحسن مرةً عن ذلك ، فقال : ( أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب ) (11) .
هذه الخَفِرة عقيلة بني هاشم (سلام الله عليها) ، كان لا بد ـ من أجل إنقاذ الدين ، وفضح الجاهليين ـ أن تخرج إلى كربلاء ؛ لتُثبت أنَّ بني أمية لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة ، ولا يحفظون حرمةً لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ؛ حيث أُسرت بناته في كربلاء ، وساقهنَّ أعداء الله في مسيرة وعرة إلى الكوفة ، ثمَّ إلى الشام ، في حال من الجوع والإعياء ، وأسكنَّ الخرائب مقيَّدات بالحبال .
ويأبى ذلك لهنَّ كل غيور له غيرة على الدين ، حيث لا ينقذ الدين إلاَّ في موقف يُقتل فيه حزب الله النجباء ، بيد حزب الشيطان الطلقاء ، وتُؤسر فيه بنات الرسالة ، ويُقضي الأطفال بين الجوع والعطش والهلع ، وحوافر الخيل والضياع في الصحارى . إن كل ذلك من أجل الدين ، الذي دونه الأنفس وكل عزيز .
ولقد كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أغير الناس على دين الله ، فأقدم على ما أحجم عنه غيره ، وقدَّمَ ما بَخِلَ به غيره . وقد شهدت له مواقف كربلاء : أنه الغيور الذي لم تشغله الفجائع ، ولا أهوال الطف ، عن حماسة حرم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ... .
في يوم العاشر ، وبعد أن قُتِل جميع أنصار الحسين (عليه السلام) ، وأصحابه وأهل بيته ، وقبيل الاشتباك بالآلاف ... صاح عمر بن سعد بالجمع : هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتَّال العرب ، احملوا عليه من كل جانب . فأتته (عليه السلام) أربعة آلاف نَبْلَة (12) ، وحال الرجال بينه وبين رَحْله ، فصاح بهم : (يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم . وارجعوا إلى أحسابكم ، إن كنتم عرباً كما تزعمون ) .
فناداه شمر : ما تقول يا ابن فاطمة ؟
قال : ( أنا الذي أُقاتلُكم ، والنساء ليس عليهنَّ جُناح ، فامنعوا عُتاتكم عن التعرُّض لحرمي ما دمت حيَّاً ) .
فقال الشمر : لك ذلك .
وقصده القوم ، واشتد القتال ، وقد اشتدَّ به العطش (13) . قيل : وقصده القوم من كل جانب ، وافترقوا عليه أربع فِرق ، من جهاته الأربع :
فِرقَة بالسيوف ـ وهم القريبون منه .
وفِرقَة بالرماح ـ وهم المحيطون به .
وفِرقَة بالسهام والنبال ـ وهم الذين في أعالي التلال ورؤوس الهضاب .
وفِرقَة بالحجارة ـ وهم رَجْلة العسكر ... ازدحم عليه العسكر ، واستعر القتال ، وهو يقاتلهم ببأس شديد وشجاعة لا مثيل لها (14) .
وحمل (عليه السلام) من نحو الفرات على عمرو بن الحجاج ـ وكان في أربعة آلاف ـ فكشفهم عن الماء ، وأقحم الفَرَسَ الماء ، فلمَّا مدَّ الحسين يده ليشرب ، ناداه رجل : أتلتذُّ بالماء وقد هُتِكَت حرمك ؟! ، فرمى الماء ولم يشرب ، وقصد الخيمة (15) .
وفي رواية الشيخ الدربندي (رحمه الله) : فنفض الماء من يده ، وحمل (عليه السلام) على القوم ، فكشفهم ، فإذا الخيمة سالمة ... .
إن الإمام (عليه السلام) كان سيد سادات أهل النفوس الأبيَّة ، والهمم العالية ، فلمَّا سمع أن المنافقين يذكرون اسم الحرم والعترة الطاهرة ، كفَّ نفسه عن شرب الماء بمحض ذكرهم هذا ، فقد سَنَّ (روحي له الفداء) لأصحاب الشِّيَم الحميدة والغيرة ، سنة بيضاء ، وطريقة واضحة في مراعاة الناموس والغيرة (16) .
وهذه خصيصة شريفة أخرى من الخصائص الحسينية ، حيث وقف عليها الشيخ التُسْتري (أعلا الله مقامه) ، فقال :
"ومنها : الغيرة : بالنسبة إلى النفس ، وبالنسبة إلى الأهل والعيال .
أما بالنسبة إلى النفس ... فأقواله في ذلك : شعره ونثره ونظمه حين حملاته معروفة ، وأفعاله الدالة على ذلك كثيرة . لكن قد أقرح القلب واحد منها ، وهو أنه (عليه السلام) لمَّا ضَعُف عن الركوب ؛ لضربة صالح بن وهب ، نزل ـ أو سقط ـ عن فرسه على خدِّه الأيمن ، فلم تدعه الغيرة للشماتة ، والغيرة على العيال ، لأن يبقى ساقطاً ، فقام (صلوات الله عليه) ، وبعد ذلك أصابته صدمات أضعفته عن الجلوس ، فجعل يقوم مرة ويسقط أخرى ؛ كل ذلك لئلاَّ يروه مطروحاً فيشمتون .
وأما بالنسبة إلى العيال ، فقد بذل جهده في ذلك في حفر الخندق واضطرام النار فيه ، وقوله : ( اقصدوني دونهم ) . ووصلت إلى أنَّه صبَّ الماء الذي في كفه ، وقد أدناه إلى فمه وهو عطشان ؛ لمَّا سمع القول بأنَّه : قد هُتِكَت خيمة حرمك" (17) .
وحينما عاد الإمام الحسين (عليه السلام) إلى المُخيمَّ ، ورَامَ توديع العيال الوداع الثاني ؛ ليُسْكِن روعتهم ، ويُخفِّف لوعتهم ، ويُصبِّرهم على فِراقه ... قال عمر بن سعد لأصحابه : ويحكم ! اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه وحَرَمِه ؛ والله إن فرغ لكم ، لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم . فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت السهام بين أطناب المُخيمَّ ، وشكَّ سهم بعض أزر النساء ، فدُهشنْ وأُرْعِبن ، وصحنْ ودخلنْ الخيمة ، ينظرن إلى الحسين كيف يصنع ، فحمل عليهم كالليث الغضبان ، فلا يلحق أحداً إلاَّ بعجه بسيفه فقتله ، والسهام تأخذه من كل ناحية ، وهو يتَّقيها بصدره ونحره (18) .
ورجع إلى مركزه يُكثر من قول : ( لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العظيم ) (19) .
|
* * *
يـلقى كـتائبهم بـجأشٍ طـامنٍوالـصدرُ في ضيقِ المجالِرحيبُويـرى إلى نحو الخيامِونحوهممـن طـرفه التصعيد والتصويبُلـلمشرفيةِ والـسهامُبـجسمهوالـسمهرية لـلجراحِضـروبُحتى هوى فوقَ الصعيدِ وحان منبدرِ التمامِ عن الأنامِ غروبُ (21) |
ثمَّ إنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) لمَّا سقط ولده علي الأكبر (عليه السلام) ، أتاه مُسرعاً وانكب عليه ، بعد أن كشف عنه قَتَلَته ، فوضع خده على خده ، وقال : ( على الدنيا بعدك العَفا ... يَعِزُّ على جدك وأبيك أن تدعوهم فلا يُجيبونك ، وتستغيث فلا يُغيثونك ) (22) .
ولمَّا ضرب عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي ، رأس القاسم بن الإمام الحسن (عليه السلام) بالسيف ... وقع الغلام لوجهه فقال : يا عماه ! فأتاه الحسين كالليث الغضبان ، فضرب عمرواً بالسيف ، فاتقاه بالساعد ، فأطنَّها (23) من المرفق ، وانجلت الغُبرة ، وإذا الحسين قائم على رأس الغلام ، وهو يفحص برجليه ، والحسين يقول : ( بُعداً لقوم قتلوك ، خصمهم يوم القيامة جدُّك ) ، ثمَّ قال : ( عَزَّ ـ والله ـ على عمِّك أن تدعوه فلا يُجيبك ، أو يُجيبك ثمَّ لا ينفعك ) (24) .
وروى بعضهم أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) لمَّا أُصيب بالسِّهَام والحجارة ، وأعياه نزف الدم ، سقط على الأرض لا يقوى على القيام والنهوض ، فلبثوا هنيئة وعادوا إليه وأحاطوا به ، فنظر عبد الله بن الحسن السبط (عليه السلام) ، وله إحدى عشرة سنة ، إلى عمِّه ، وقد أحدق به القوم ، فأقبل يشتد نحو عمِّه ، وأرادت زينب حبسه ، فأفلت منها وجاء إلى عمِّه ، وأهوى بحر بن كعب بالسيف ليضرب الحسين ، فصاح الغلام : يا ابن الخبيثة ! أتضرب عمِّي ؟ ، فضربه ، واتقاها الغلام بيده فأطنَّها إلى الجلد ، فإذا هي معلَّقة ، فصاح الغلام : يا عمَّاه ! ووقع في حجر الحسين ، فضمه إليه وقال : ( يا ابن أخي ، اصبر على ما نزل بك ، واحتسب في ذلك الخير ، فإنَّ الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين ) (25) . وأخذه الإعياء فلا تقوى جوارحه من شدة النزف على أن يجلس .
روى بعضهم : أنَّ أعداء الله أرادوا أن يتأكَّدوا من عجزه عن القيام لمواجهتهم ، فنادوا عليه : بأنَّ رحله قد هُتك ، فقام وسقط ، وحاول النهوض غيرة على عياله فسقط ، وجاهد ذلك ثالثة فسقط ... حينذاك اطمئنوا أنَّه لا يقوى على قيام .
وقد قال الشيخ التُسْتَري في "خصائصه" : وكان (عليه السلام) حين وقوعه صريعاً مطروحاً ، يسعى لتخليص أهله ومَن يجئ إليه ، فهو المطروح الساعي (26) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) جامع السعادات : 1 / 265 / باب : الغيرة والحمية .
(5) يراجع في تفصيل ذلك وبيانه المصدر السابق .
(8) من لا يحضره الفقيه : 3 / 381 .
(10) المناقب ، عن : " حلية الأولياء " لأبي نعيم ، ومسند أبي يعلى .
(14) إبصار العين ، للشيخ السماوي .
(15) مقتل العوالم ، للشيخ عبد الله البحراني : 98 ، ونفس المهموم : 188 .
(16) في كتابه " أسرار الشهادة " : 411 .
(17) الخصائص الحسينية : 37 ـ 38 .
(18) مثير الأحزان ، للشيخ شريف آل صاحب الجواهر .
(20) من قصيدة للسيد محسن الأمين في كتابه " الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد " : 5 .
(21) له أيضاً ، في المصدر نفسه : 26 .
(22) تاريخ الطبري : 6 / 265 ، ومقتل العوالم : 95 .
(24) تاريخ الطبري : 6 / 257 ، والبداية والنهاية : 8 / 186 .