العلاّمة السيد محمد حسن الأمين
الشهادة: إحتفال وإحتفاء
الإحتفال بذكرى عاشوراء إحتفال بالشهادة وإحتفاء بها في آن... والشهادة موقف، والشهداء أرباب مواقف، والإمام الحسين(ع) سيّد الشهداء جميعاً، وشهادته عنوان الشهادات وقمتها... وهي ـ شهادة الإمام الحسين(ع) ـ إذ تفرض نفسها على الزمن على هذا النحو الذي نشهده كل عام من إحتفال بهذه الشهادة، وإحتفاء بها دون أن يتوّلد لدى الأمّة شعور بإستنفاد أغراض الإحتفال بها، فذلك يعني ـ ببداهة ووضوح ـ إنّ هذه الشهادة هي من العمق والأصالة والفرادة بدرجة جعلتها مهيّأة لمخاطبة الإنسان وتطلعاته نحو العزة والكرامة والسمو الروحي والنفسي في كل زمان وُجد فيه الإنسان، وفي كل مكان أُتيح له فيه مكابدة الظلم والجور.
أقسام الإنجازات البشرية:
إنّ الشهادة بوصفها إنجازاً بشرياً، وإن يكن من نوع الإنجازات الرفيعة بل أرفعها على الإطلاق ـ فهي خاضعة لنفس المعايير التي تُقاس بها تلك الإنجازات من حيث التفاوت بين إنجاز وآخر، حتى في النوع الواحد منها... فإذا نحن ذهبنا ـ مثلاً ـ لتقييم بعض إنجازات العقل البشري في مجال الفكر والأدب لوجدنا أنها تنقسم إلى قسمين: قسم منها تتجلى أصالته في كونه إستطاع أن يخاطب بعض الناس لبعض الوقت، أو كل الناس لبعض الوقت، فيثير أحاسيسهم ،ويحرّك عقولهم، ويدفعهم إلى موقف أكثر نبلاً وعمقاً تجاه القضايا التي يطرحها. وبذلك يكون هذا النص الفكري إستجابة لمرحلة بعينها قد تطول وقد تقصر ويكون مستوى الإبداع فيه محكوماً لقيم ذلك العصر ومفاهيمه.. وإنّ أكثر الأعمال الفكرية والأدبية هي من هذا القسم الذي يخاطب الإنسان ضمن بيئة بعينها أو عصر بعينه ويقصر عن مخاطبته في كل عصر وفي كل زمان.
أما القسم الآخر فهو النص الذي لا تنتهي الحاجة إليه لأنّه يخاطب الإنسان في كل عصر ومكان، وهو ما نسمّيه بالنص الخالد، وهو يحقق عناصر خلوده من تخطّيه لقيود الزمان، والمكان، والمراحل، ووصوله إلى جوهر الحالة الإنسانية وأعماقها الثابتة الراسخة ـ فهو مثلاً حين يعالج مشكلة الحرية فهو لا يعالجها بوصفها مشكلة الجيل الذي كُتب له النص، بل يتجاوز ذلك إلى قيمتها المطلقة وعلاقتها بالوجود، بحيث يصبح كل جيل يلي قادراً على إستشفاف أشواقه وتطلعاته في النص نفسه.
إذن معيار الخلود في الأعمال العقلية، سواء كانت فكراً أو أدباً أو فنّاًً، إنّما في قدرتها على مُخاطبة الإنسان خارج حدود المكان والزمان وإن كانت هي بذاتها وليدة زمان ومكان معين.
الشهادة الخالدة:
وشهادة الإمام الحسين(ع) بالمقارنة مع الشهادات الكثيرة التي حفل بها تاريخ التضحية والفداء في أمتنا الإسلامية تظل هي الأكثر خلوداً، لأنّها الأكثر عمقاً وأصالة، ولأنّها ما زالت حتى يومنا هذا الأكثر قدرة على خطاب الحاجة البشرية للحرية، والحق، والعدالة... وشهادة الحسين(ع) وإن كانت تشبه بقية الشهادات من حيث كونها إختياراً للموت في سبيل قضية، إلاّ أنّ أسلوب الشهادة وإختياراتها الدقيقة إنّ لجهة زمان الإستشهاد أو مكانه وما رافقها من ملابسات... إرتفع بهذه الشهادة عن كونها شهادة على العصر الذي عاشه الإمام الحسين(ع) لتصبح شهادة على كل العصور التي تلته وتجسّدت من خلال مسرحها الصغير كل الفصول التي ستليها في معارك الحق مع الباطل والحرية مع الطغيان والبغي.
الشهادة... النص:
وهكذا يمكن مقارنة هذه الشهادة بين الشهادات بمقارنة النص الخالد بين النصوص الأخرى... وشهادة الإمام الحسين(ع) هي أيضاً نصّ وإن كانت طريقة قراءته تختلف عن قراءة النصوص المكتوبة. فالقراءة في جوهرها إسترجاع وأستعادة، والنصّ الخالد هو الذي لا يملّ الناس من قراءته وإستعادته، لأنّهم في كل قراءة جديدة تتولد لهم معانٍ وقيم ومفاهيم وأحاسيس جديدة... وكذلك شهادة الإمام الحسين(ع) فإن إستذكارها وإستعادة أحداثها وأبعادها لا تشكّل تكراراً مملاً للأجيال التي تمارسها، بل تولد في أعماقها وباستمرار الشعور بالحاجة إلى الحرية والخير والحق، وتجعلها أقدر على التضحية والفداء وأكثر سخاء في مواجهة إستحقاق الحرية والكرامة.
هذا بعض ما يُفسر الإصرار على الإستذكار السنوي للحدث الكربلائي ويضيء بعض عناصر خلوده في الوجدان الشعبي.
وإذا كانت عظمة النص ليست من ذاته فحسب، وإنّما من القراءات الذكية التي حظي بها فتستولد منه المعاني الجديدة، فإنّ الحدث الكربلائي هو الآخر نص خالد، ولكنّه بحاجة ليكون لدينا قدرة أكبر وذكاء أعلى من أجل أن نقدم قراءة متميزة له وفهماً معاصراً لأبعاده الخالدة... وبذلك نستطيع أن نحقق بعض أهدافه تحقيقاً لشعار الحسينيين عبر التاريخ: يا ليتنا كنا معكم ـ سيدي ـ فنفوز فوزاً عظيماً.
والحمد لله رب العالمين