عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

معرفة الخالق

معرفة الخالق

دوافع التدين بالأديان

لمباحث الأديان أهمية خاصة بين سلسلة البحوث الأصولية والفكرية في حياة الانسان ، ولا زالت هذه المباحث مطروحة على الساحة ، كمسألة أساسية ترتبط بسعادة الإنسانية ومصيرها ، وقد كانت لهذه البحوث آثار علمية وثقافية واسعة ورؤية عميقة .

لقد كان للعلماء والمحققين مطالعات وسيعة في البحث عن أصول ودوافع التدين ، قام بهذا التحقيق كل واحد من زاوية فنه الخاص ، وكان يخرج بنتائج وأحكام تتناسب ونظرته الخاصة .

والواقع أن عقائد البشر قد تكاملت على مر الزمان تماماً كالعلوم والصناعات(1) ، وأنها كانت منذ أقدم العصور قبل التاريخ كظاهرة دائمة مما يتعلق بالمجتمعات البشرية ، ولا تجد في عالمك القديم ولا الحديث مجتمعاً لا عقيدة فيه .

إن الفكر الديني قد تحول وتغير وانتقل من دور إلى دور آخر ضمن توسع الأصول الفكرية والعملية تماماً كاللغات ووسائل الحياة، ولم تبق أطره

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لا يقصد المؤلف أن العقائد تكاملت من ناحية البشر، وإنما يقصد أنها تكاملت بفضل وحي السماء .

 

على الكيفية الفكرية الأولى وصورتها ثابتة جامدة .

إن البحث والتنقيب عن كيفية تطورات حياة الإِنسان وتكامل علومه ومعارفِه ، والمطالعة في أعمق آفاق التاريخ ، ترينا أن البشر كان متقيداً بالعقيدة ، قبل أن يتعرف على الاستدلالات العقلية ، وأنه في بداية تفكره كان متجها إلى خالقه والعلة الفاعلية للعالم ، إلا أنه للعثور على تلك العلة أخذ ينظر إلى ما هو فيه من حواليه ، وبالتالي سقط إلى هوة عبادة الأصنام .

وعلى هذا فإن الدور للعلوم والصناعات البشرية لم يكن أكمل من الأدوار الأولى للأديان والعقائد الإِنسانية ، بل يمكن القول بأن بحث الإِنسان في سبيل الإِيمان والعقيدة ، كان أشد وأطول من مساعيه في سبيل العلوم والصناعات ، فإن معرفة الحقيقة الأسمى ، حقيقة عالم الوجود أشق وطريقه أصعب من حقائق جميع الأشياء التي تسعى العلوم والصناعات سعياً متواصلاً للوصول إليها .

إن معرفة أكبر الحقائق بصورة كاملة ، لأمة في عصر واحد من غير الممكن ، بل إن أفكار العامة تستعد على مر الأدوار في ظل توسعة وتقدم المعلومات لمعرفة الحقيقة الكبرى .

إن الشمس المشرقة التي هي من أظهر الأشياء كانت ماهيتها مجهولة لمدة قرون ، وكانوا يفسرون حركاتها وآثارها بتفاسير مختلفة عن الحقيقة ، مع أنه لم يكن بإمكان أحد أن ينكر أصل وجودها وشعاعها المشرق ، مع ذلك كانت أفكار العامة بالنسبة إلى معرفة حقيقتها في ظلمة عميقة .

إن درك الحقائق الكبرى ، لا يمكن إلا من طريق التحقيق المنطقي والاستدلال والمطالعة الشاملة ، ولهذا فإن الخرافات والأساطير الدينية في الأمم السالفة ، والتي كانت تصب كل يوم في قالب وأسلوب خاص ، بسبب ضعف الأفكار ومحدودية إطار العلوم والمعارف البشرية ، إن هذه الخرافات ليست دليلاً على أن الدين وتعاليمه ومحتوياته عارية عن الحقيقة ، بل إنها

ترينا أصالة وذاتية العروق الدينية في أعماق قلوب البشرية ، وكما يقول ( رونان ) : « إن الدين أسمى تجل لطبيعة الإِنسان »(1) ، ولا يمكن أن نتوقع من العلم حينما يرجع القهقرى إلى أدوار ما قبل التأريخ أن يكشف من آثار الأديان الأولى ( إن صح التعبير بالأديان ) غير الأساطير والخرافات في بقايا آثار القدماء وفي أعماق طبقات الأرض ، فإن إنسان ذلك العصر وإن كان يرى أن كثيراً من الأنظمة الجميلة والمحيرة في عالم الطبيعة تستمر وتطّرد في دورات دقيقة ، ومحسوبة ، ومن جانب آخر فلم يكن قد اتفق له يوماً من الأيام أن توجد إحدى وسائل حياته حسب الصدفة ، إلا أن أجهزة فكره لم تكن قد تعالت إلى درجة أن تدرك بذلك وحدة نظام العالم والارتباط الكامل بين آثار الطبيعة وظواهرها المختلفة ، ويدرك أن جميع أنظمة الحياة إنما هي تحت قدرة وإرادة مبدأ واحد عليم حكيم لا يشبه البشر ، ولا سائر الموجودات المعهودة ، وبما أن تواجد أنواع الموجودات لم يكن مما يتحمله تحليله الفكري على أساس ملاحظة منطقية ، لذلك كان يظن أن لكل معلول علة مستقلة ، فكان يستنتج من تعدد أنواع الموجودات تعدد خالقها أيضاً ! .

وبالتالي كان ذلك الاندفاع الفطري والروحي الإِنساني السامي والأصيل فيه يقع في مجرى منحرف ، فكان بدل أن يتجه إلى الرب الصادق يتجه إلى معبودات كاذبة كان يعبدها ويكرمها ويخضع لها ويصفها بأوصاف من باب القياس بالنفس أو ما حوله من الموجودات .

حينما تكون حركات الإِنسان وسلوكه متصفة بخاصتين : إحداهما الثبات والأصالة ، وأخراهما العمومية والشمول في جميع أفراد النوع الإِنساني ، يكون من الطبيعي والمنطقي أن نعتبر لها أصولاً وعروقاً في أعماق الروح الإِنساني .

لا يمكن أن نحسب وجود هذه الظاهرة ـ ظاهرة العبادة والعقيدة في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 مختصر تاريخ الأديان الكبرى : ( بالفارسية ) .

 

الإِنسان ـ بصورة مستمرة دائمة خالدة وعامة شاملة في جميع مراحل التاريخ وحتى أدوار ما قبل التاريخ ، من العادات والتقاليد ، والمراسيم فحسب ، بل إنها ظاهرة من ظواهر عطش خاص فطري ، وإحساس ضروري بالتفتيش عن الحقيقة الكبرى ، إذن فجميع العقائد الدينية بمختلف أشكالها وتجلياتها إنما تنبع من عين فياضة متدفقة هي الفطرة التي ليست من الصدف ، ولا من التلقين والإِلزام .

إن الاستعداد لتقبل العقيدة موجود في الإِنسان ، وإنما تتشكل العقيدة فيه مبنية على أساس هذا الاستعداد الذاتي ، وإن نفس هذه الجاذبية والاندفاع الذاتي الذي يدفع الإِنسان إلى التحقيق الفكري ، لدرك حقيقة الوجود دليل على ضرورة معرفة الدين ، ولكن لا يلزم أن تكون صحة هذا الاستعداد الذاتي والحالة الروحية في الإِنسان ملازمة لصحة العقيدة المتشكلة عنده ، كما أن الإِنسان يحتاج إلى الطعام من دون أن تكون هذه الحاجة مبتنية أو ملازمة لصحة أو عذوبة كل مادة من الطعام ، إن الروح الإِنسانية كذلك تفتش عن غذائها الروحي الخاص أي الايمان والعقيدة ، وتصر على معرفة الرب وعبادته ، وإن كان هذا الدافع الذاتي الأصيل عاجزاً عن تمييز العقائد الصحيحة عن غيرها .

يتفق المحققون على امتزاج العقائد الدينية بحياة البشر ، وإن كانوا يختلفون في أصول المذاهب والعوامل الأساسية في تأسيسها ونموها ، وأكثر أحكامهم في هذا المجال ـ مع الأسف ـ مبني على أساس مطالعات في الأديان الخرافية ، والأفكار غير الرشيدة ، ومن الطبيعي أن تكون هذه الأحكام في التحليل النهائي عن الأديان ناقصة وغير منطقية .

صحيح أن كثيراً من الأديان كان لعوامل المحيط والبيئة الاجتماعية وغيرها أثر ومدخلية في تكوينها وتطورها ، لعدم ارتباطها بمبدأ الوحي ، إلا أنه ليس من المنطقي أن نحسب مباني وأصول جميع الأديان والاتجاهات المذهبية منطلقة من مقتضيات اقتصادية أو مادية أخرى أو من الخوف من

العوامل الطبيعية أو الجهل بها ، بصورة عامة .

لا شك أن أحد العوامل لتواجد الأفكار المضادة للدين ومنكري الخالق هي تلك الانحرافات والنقائص وسوء التعليم في أتباع بعض الأديان والمذاهب ، ولهذا يجب في مطالعة دوافع الاعتقادات أن تجعل الخصائص المذهبية لكل مذهب خاص مورداً للتحقيق والملاحظة .

يمكننا أن نرى الدين في كثير من الحوادث التاريخية حاكماً على العلاقات القائمة ، فإن لم يكن للدين أصالة لزم أن ينحصر دائماً في حدوده المادية فقط ، فما هو العامل الذي استطاع أن يجعل الشخصيات الدينية هكذا تقاوم في سبيل أهدافها الدينية ؟ هل أن توقع المنافع المادية والأهداف الخاصة هي التي جعلت مرارة المصائب والمشكلات عندهم حلاوة ؟ ! . بينما كانوا يحصّون بجميع إمكاناتهم المادية والترفيهية وآمالهم الشخصية فداء لأهدافهم وعواطفهم الدينية بكل سخاء ، بل كانوا يجودون بأنفسهم بكل حب وإخلاص ! .

وعلى هذا فإن من غير الممكن تفسير اندفاع الإنسان إلى الدين تفسيراً مادياً ، بل إن هذه الحوادث تبين لنا أصالة الإِحساس الديني في ضمير الإِنسان .

يقول ( لو كنت دونوئي ) : « إن الروح الدينية والعقائدية والعبادية والتواضعية في عبادة كاملة ، وإرادة تزكية النفس لتقرّبها إلى الكمال المطلق غير المتصوّر ، كانت موجودة في الإِنسان في طول التأريخ ، إن هذه الإِرادة لها مبدأ إلهي ، فإنها عالمية وموجودة في الجميع على السواء »(1) .

وكتب ( ويل دورانت ) يقول : « إن الإِيمان أمر طبيعي وهو وليد الحاجات الغريزية والإِحساسات المستقيمة بصورة مباشرة ، أقوى من الجوع وحفظ النفس والأمان والطاعة والانقياد »(2) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ارتباط الإِنسان بالكون : ص 69 . ( بالفارسية ) .

2 لذات الفلسفة : ص 476 . ( بالفارسية ) .

 

إن العقائد غير المنطقية ليست منحصرة في إطار الأديان ، فإن كثيراً من العلوم قبل أن تتصفى كانت مزيجة بالخرافات ، فإن الإِنسان لم يظفر بعلم الطب الحقيقي والمفيد ـ مثلاً ـ إلاّ عن طريق السحر والشعوذة ، ولم يصل إلى الكيمياء الواقعية إلاّ من طريق الكيمياء غير الواقعية ، ولا يمكن لأَحد أن يدّعي أن البشر إذا أخطأ في بحثه عن شيء كان لزاماً عليه أن يبقى دائماً على خطئه ولا طريق له للوصول إلى الحقيقة .

إن منكري الخالق يستندون إلى هذه المسألة ويستنتجون منها أن الله وليد فكر الإِنسان ! ، ( برتراند راسل ) العالم الإنكليزي ـ مثلاً ـ يرى أن منشا ظاهرة الدين هو الخوف من العوامل الطبيعية ويقول :

« أنا أرى أن المذهب قبل كل شيء مبتن على أساس الخوف ، الخوف من المجهول . أضف إلى ذلك ما ذكرته سابقاً أنه بسبب العقيدة الدينية ينشأ إحساس يتصوّر معه صاحبه ، أن له ظهراً ومدداً في المشاجرات والمشكلات ، الخوف من الموت ومن الهزائم ومن الأسرار المجهولة والمسائل الغامضة غير المكشوف عنها »(1) .

إن هذا الكلام ادعاء لم يقم لإِثباته أي دليل كما يقول ( صموئيل كينك ) : « إن منشأ الدين سر من الأسرار ، وللعلماء بهذا الخصوص نظريات لا تحصى كثرة ، بعضها أقرب إلى المنطق من البعض الآخر ، إلا أن أحسن هذه النظريات من الناحية العلمية لا يخلو من إشكالات ولا يعدو أن يكون تصوّراً منطقياً ، ولهذا فإن علماء الاجتماع لهم اختلاف شديد في منشأ الأديان »(2) .

ومع ذلك نقول للإِجابة على كلام ( راسل ) :

لو فرضنا أن الدافع الأولي والأصلي للبشر في العقيدة بالخالق هو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لماذا لست مسيحياً : برتراند راسل ص 37 ( بالفارسية ) .

2 موسوعة معارف كينغ : ص 99 ( بالفارسية ) .

 

الخوف ، فهل يصبح هذا دليلاً على أن الله وهم أو خيال ، ولا واقعية له ؟ ! .

إذا كان الخوف دافعاً للإِنسان لكي يلجأ إلى مأمن منه ، ومن هذا الطريق يقع على واقعية معينة فهل في هذا إشكال ؟ ! ، إذا كان الخوف دافعاً للظفر بشيء فهل يمكن أن يقال : بدليل أن الدافع للبحث عن هذا الشيء كان هو الخوف فإن هذا الشيء لا واقع له وإنما هو موهوم ؟ ! .

هل من المنطق أن نقول : إن علم الطب ليس علماً واقعياً ، إذ إن الإِنسان إنما تتبعه وظفر به بسبب خوفه من المرض والموت ؟ ! بل الحقيقة أن علم الطب علم واقعي سواء كان الدافع الأولي للبشر للحصول عليه هو الخوف من المرض والموت أو أي عامل آخر .

إن الإِيمان بالرب العليم القدير ملجأ ومستند حقيقي قوي ، ولكن هذه المسألة لا علاقة لها بأن يكون الدافع الأصلي في الإِنسان للإِيمان بالله . هو الخوف من الحوادث والبحث عن ملجأ معين ، ويجب أن تلاحظ هاتان المسألتان بعيدة إحداهما عن الأخرى .

لا شك في أن البشر في مراحله البدائية من حياته كان يبتلى بوحشة موجعة حين مواجهة الحوادث الطبيعية الموحشة كالزلازل والسيول والأمراض ، وأن كابوس الخوف كان ينشر جناحه على جميع شؤون حياته وأفكاره ، وفي هذه المرحلة من مجاهدته الشاقة مع الخوف والعجز كان يبحث عن مستند يستطيع أن يلجأ إليه حين الأحداث المهولة ، فيكون سبباً لطمأنينة روحه ، واستطاع بسعيه المتواصل ، أن يتغلب تدريجياً على كابوس الذلة والخوف وأن يحصل على انتصار ساحق في هذا المجال .

إن البحث في مراحل حياة الإِنسان القديم ، وتواجد شواهد لاستيلاء الخوف علي أفكاره ليس دليلاً على أن الخوف والجهل كانا العاملين الوحيدين الأصيلين لاعتقاد الناس بالدين ، إن هكذا نظرة إنما تنشأ من

النظرة الضيقة إلى العوامل والدوافع ، فإننا إنما نستطيع أن نأخذ نتائج عامة من تحقيقاتنا ومطالعاتنا التاريخية فيما إذا بحثنا وحققنا في مجموع مراحل تاريخ البشر وأدواره المختلفة ، دون ما إذا طالعنا زاوية من التأريخ الإِنساني الواسع ، ذي العروج والهبوط .

لا ينبغي لنا أن نجعل سلطة الخوف الوسيعة على جميع شؤون الإِنسان في الأدوار المحدودة المعينة أساساً لأحكام كلية لجميع أدوار البشر ، أليس حكماً عاجلاً أن نحسب الأفكار والإِحساس الديني للناس واتجاههم لعبادة الله في جميع الأزمنة حتى العصر الحاضر ناشئاً من الخوف من قهر الطبيعة والحروب والامراض ؟ ! .

ليس كل معتقد بالدين أضعف الناس ، إن الذين رفعوا راية الدين في مسير التأريخ كانوا من أثبت وأقوى الناس ، وليست النسبة بين إيمان الشخص وشدة ضعفه نسبة متعاكسة أي كلما ازداد ضعفه ازداد إيمانه ! وأن يكون زعيم الناس في الدين أقدمهم وأسبقهم إلى الهوان والضعف والعجز ! .

هل أن عقيدة آلاف العلماء والمفكرين بالدين نتيجة خوفهم من الزلازل والسيول والأمراض ؟ أم أن دافع اتجاه هؤلاء المحققين إلى الدين ـ الذي إنما اتبعوه من طريق التحقيق العلمي والمنطق والبرهان العقلي ـ يمكن أن يفسر بالجهل وعدم اطلاعهم على علل الحوادث الطبيعية ، ثم نغفل أو نتغافل عن دور عقولهم وأفكارهم في موضوع عقائدهم ؟ ماذا يحكم العقلاء ؟ ؟ .

إن الانسان لا يعتقد بالدين ليظفر بالأمن والطمأنينة بل إنما يتمتع بثمرة الإِيمان بالله وهي السكون والأمان بعد الاعتقاد والإِيمان . إن العلماء الإِلهيين يعتقدون أن العالم بوصفه مجموعة من العلل والمعلولات والأسباب والمسببات المحسوبة دقيقاً ، والكائنات ذات النظام الدقيق خير شاهد على وجود مبدأ لهذه القدرات والعلوم ، إن النقوش المختلفة والمتداخلة غير

المفهومة في لوحة ما لا يمكن أن تكون دليلاً على النقاش والرسام الفنان والماهر ، بل إنما يمكننا أن نجعل النقوش والرسوم المحسوبة بدقة والتي تحتوي على معاني وملامح مفهومة سنداً ودليلاً على وجود فنان رسام ماهر.

* * *

ومن ناحية أخرى : نرى الذين يرون أن الاعتقاد بما وراء عالم الطبيعة مسبب عن أوضاع اقتصادية ، ويسعون كثيراً للربط بين الدين والاقتصاد ، نراهم يقولون : إن الدين كان ولا يزال في خدمة الاستعمار والاستثمار ، وإن الطبقة الحاكمة المستثمرة هي التي اخترعت الدين كي تهزم مقاومة الشعوب المستثمرة تحت ستار الدين ، ولكي تفيد من هذه الوسيلة لاستخدام وتخدير الكادحين والمحرومين ، وتشوقهم بالعقيدة إلى تقبّل الحرمان ، ولا شك أن الدين ـ كأي شيء آخر في هذا العالم ـ قد أفيد منه للإِضرار بالآخرين ، وحينما ينحرف الدين عن مسيره الصحيح يصبح وسيلة بيد المرابحين المتاجرين كي يقيدوا به الأمم والشعوب ، إلا أن هذه المنفعية والمصلحية الطبقية الظالمة ، لا ينبغي أن تصبح حجة بيد الانتهازيين كي يهجموا على كل ما هو باسم الدين والمذهب ، وبكلمة نقول : يجب أن نفصل بين الأديان المحرّفة والاستعمارية التخديرية ـ إن كانت ـ والأديان الأصيلة والبناءة .

يمكن أن يكون الإِيمان الديني في كثير من المجتمعات الإِنسانية مقارناً لأوضاع اقتصادية ، غير مزدهرة وتأخر وجمود ، إلاّ أن هذا التقارن لا يمكن أن يكون ملاكاً ومقياساً لنسبة بينهما ، ولا يمكننا أن نرى هذا التقارن بعنوان رابطة الترتب واستنتاج أحدهما من الآخر ، فإننا أحياناً نرى مجتمعاً يعيش رفاه الحياة والقوة المادية ولاقتصادية يعتقد بالدين اعتقاداً عميقاً ، ومجتمعاً آخر بنفس الأوضاع من حيث الرفاهية ، والحالة الاقتصادية نراه يعرض عن الدين،وكذلك نرى أن شمس الدين تغيب أحياناًفي محيط الفقروالتأخر،

وفي مكان آخر بنفس الموقعية الاقتصادية نرى الدين في أوج الرقي والتعالي ، إن عدم الانسجام البّين هذا بين الأوضاع الاقتصادية وتوسع اعتناق الدين أو انكماشه دليل بيّن على أن التقارن الزمني لا يكفي في كشف علاقة العلة والمعلول ، بل لابد من خصوصية أخرى هي أن يكون وجود وعدم أحدهما مرتبطاً بوجود وعدم الأخر .

نستطيع أن نرى عدم الانسجام هذا في مجتمعين يعيشان تحت سلطة الاستبداد والضغط وخنق الأصوات من قبل الطبقة المستثمرة ( بالكسر ) ، فنرى أن الدين قد خرج من صميم الحياة في محيط بينما هو في صميم حياة المجتمع في محيط آخر مع أوضاع متساوية .

إن اعتناق الدين ليس مسبباً من الحرمان المادي ، بل إن البعد والإِعراض عن الدين مسبب عن الاتجاه إلى المادية والكماليات ، فالذين ينغمسون في بؤرة الشهوات وعبادة الدنيا يعرضون عن الدين .

إن الواقع يدلنا على أن الإِنسان يتجه إلى الدين في مختلف الأوضاع والأحوال ، ولهذا ينبغي أن نتتبع في حالات الاتجاه الديني تلك الدوافع الأصيلة الروحية والذاتية ، لا الأوضاع والأحوال الاقتصادية . إننا في ملاحظتنا لأهداف الأديان الإِلهية نصل إلى نتيجة :

إن تأمين الرفاه الاجتماعي وأثر الدين الإِيجابي في العدالة الاقتصادية هو أحد أسباب بعثة الأنبياء الربانيين واعتقاد الناس بالدين ، وإن العدالة الاقتصادية هي إحدى الفوائد التي يحظى بها الإِنسان من طريق الدين .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

معنى الصفة
مَن هن الخبيثات ومَن هم الخبيثون؟
مفهوم البداء في عالم الخلق والتكوين
هل المعاد إعادة للمعدوم؟
الإمامة والخلافة بإختصار
كتاب الغيبة
عُبادة بن الصامت
موقف القرآن من مسألة : (الحتمية) و (استقلال ...
مرجعية المسلمين بعد النبي صلی الله عليه وآله وسلم
مقدمة عامة في نبوة النبي محمد

 
user comment