ما رواه النرسيّ خلاف الكتاب والسنّة :
السؤال : ما رواه زيد النرسيّ في كتابه عن عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ( إنّ الله ينزل في يوم عرفة في أوّل الزوال إلى الأرض على جمل أفرق يصال بفخذية أهل عرفات يميناً وشمالاً ، فلا يزال كذلك حتّى إذا كان عند المغرب ونفر الناس ، وكّـل الله ملكين بجبال المازمين يناديان عند المضيق الذي رأيت : يا ربّ سلم سلم ، والربّ يصعد إلى السماء ويقول جلّ جلاله: آمين آمين ربّ العالمين، فلذلك لا تكاد ترى صريعاً ولا كسيراً ) .
هل هذه الرواية صحيحة عند الشيعة أم هناك من ضعّفها ؟
الجواب : نقل العلاّمة المجلسيّ (قدس سره) في كتابه بحار الأنوار هذا الحديث عن كتاب زيد النرسيّ ، وقال محقّق الكتاب في ذيل هذا الحديث : وهذا الحديث وأضرابه ساقط لا يعتنى به ، ولا يعبأ به ولا يؤبه براويه أيّاً كان ، وقد أُمرنا في عدّة روايات ، وفيها الصحاح ، بعرض كلّ حديث على كتاب الله وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله) ، فمنها قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( إنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه ) (2)، وقد روي عين هذا الأثر عن الإمام علي (عليه السلام) (3) .
____________
1- مقالات الإسلاميّين : 208 .
2- بحار الأنوار 96 / 262 .
3- المحاسن 1 / 226 ، الأمالي للشيخ الصدوق : 449 .
|
الصفحة 71 |
|
وقول الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) لبعض أصحابهما : ( لا يصدّق علينا إلاّ بما يوافق كتاب الله وسنّة نبيّه ) (1) .
وقول الإمام الصادق (عليه السلام) : ( ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ) (2) .
وقوله (عليه السلام) : ( كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف ) (3) .
وقوله (عليه السلام): ( ما أتاكم عنّا من حديث لا يصدّقه كتاب الله فهو باطل ) (4) .
وقوله (عليه السلام): ( إذا ورد عليكم حديث ، فوجدتم له شاهداً من كتاب الله ، أو من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به ) (5) .
وقوله (عليه السلام) لمحمّد بن مسلم : ( يا محمّد ، ما جاءك من رواية من برّ أو فاجر توافق القرآن فخذ بها ، وما جاءك من رواية من برّ أو فاجر تخالف القرآن فلا تأخذ بها ) (6) ، إلى غير ذلك من الأحاديث الآمرة بعرض كلّ حديث على كتاب الله وسنّة نبيّه .
ثمّ إنّ هذا الحديث وأضرابه ممّا يوهم القول بالتجسيم أو صريح فيه ، لا يمكن إقراره ولا الأخذ به لمخالفته لكتاب الله ، وهو شاهد ناطق بأنّه جلّ وعلا { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (7) ، وأنّه
____________
1- تفسير العيّاشيّ 1 / 9 .
2- الكافي 1 / 69 .
3- المحاسن 1 / 221 ، الكافي 1 / 69 .
4- المحاسن 1 / 221 .
5- الكافي 1 / 69 .
6- مشكاة الأنوار : 267 .
7- الأنعام : 103 .
|
الصفحة 72 |
|
تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1)، وقوله تعالى : { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } (2) وغير ذلك ، ممّا ورد في آيات الذكر الحكيم في كمال صفاته جلّ وعلا ، وإحاطته بكلّ شيء ، فلا يحويه شيء .
ولقد قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال فيم ؟ فقد ضمّنه ، ومن قال علام ؟ فقد أخلى منه ) (3) .
إلى غير ذلك ممّا ورد في نفي الجسم والصورة والتحديد ، ونفي الزمان والمكان والكيف ، ونفي الحركة والانتقال ، بل ونفي إحاطة الأوهام بكنه جلاله ، تقدّست أسماؤه وعظمت آلاؤه .
فأحاديث النزول إلى سماء الدنيا وأشباهها لا تؤخذ بنظر الاعتبار لمخالفتها لكتاب الله وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله) ، بل هي من الأحاديث المدسوسة في كتب أصحابنا القدماء ، وتلقّاها بعض المتأخّرين فرواها كما هي ، وتحمّل في تأويلها ، ولو أنّا جعلنا حديث يونس بن عبد الرحمن نصب أعيننا ، وتشدّده في الحديث ، لعلمنا أنّ الدسّ كان منذ أيّام الإمام الصادق (عليه السلام) ، بل في أيّام الإمام الباقر (عليه السلام) ، وهذه الأحاديث كلّها مدسوسة .
فقد ورد في رجال الكشّيّ (قدس سره) : عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس بن عبد الرحمن ، أنّ بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر ، فقال له : يا أبا محمّد
____________
1- الشورى : 11 .
2- فصّلت : 54 .
3- شرح نهج البلاغة 1 / 73 ، الاحتجاج 1 / 296 .
|
الصفحة 73 |
|
ما أشدّك في الحديث ؟ وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا ؟ فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث ؟
فقال : حدّثني هشام بن الحكم ، أنّه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ( لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسنّة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد (لعنه الله) دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتقوا الله ، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى ، وسنّة نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله) ، فإنّا إذا حدّثنا قلنا : قال الله عزّ وجلّ ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ) .
قال يونس : وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) ، ووجدت أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) متوافرين ، فسمعت منهم ، وأخذت كتبهم ، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فأنكر منها أحاديث كثيرة ، أن يكون من أحاديث أبي عبد الله (عليه السلام) ، وقال لي : ( إنّ أبا الخطّاب كذّب على أبي عبد الله (عليه السلام) ، لعن الله أبا الخطّاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا ، في كتب أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إن تحدّثنا حدثّنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة ، إنّا عن الله وعن رسوله نحدّث ، ولا نقول قال فلان وفلان ، فيتناقض كلامنا ، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا ، وكلام أوّلنا مصداق لكلام آخرنا ، وإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه ، وقولوا أنت أعلم وما جئت به ، فإن مع كلّ قول منّا حقيقة ، وعليه نور ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه ، فذلك قول الشيطان ) (1) .
فمن جميع ما تقدّم ظهر لنا ، أنّ أحاديث التشبيه والتجسيم والحلول وأضرابها لا تقبل ، ويضرب بها عرض الجدار ، وإن رويت في أصحّ كتاب ، أو رواها أوثق رجل ، مضافاً إلى ذلك ، أنّ هذا الحديث ـ حديث زيد
____________
1- اختيار معرفة الرجال 2 / 489 .
|
الصفحة 74 |
|
النرسيّ ـ فيه مناقشة خاصّة من حيث سنده :
1ـ لم يصرّح بتوثيق زيد في كتب القدماء ، وما استدلّ به بعض المتأخّرين على وثاقته مردود ، فإنّه اجتهاد منه ، وشهادته عن حدس لا عن حسّ ، فهي لا تكفي في المقام ، ولو سلّمنا وثاقته ، لا لما ذكره ، بل لوقوعه في إسناد كامل الزيارات .
2ـ إنّ كتاب زيد كما ذكره النجاشيّ ، أو أصله كما ذكره الشيخ ، وإن رواه ابن أبي عمير وجماعة عنه ، إلاّ أنّ ذلك لا يدلّ على توثيق الكتاب جميعه وإن اشتمل على ما يخالف الكتاب والسنّة .
مع أنّ محمّد بن الحسن بن الوليد وتلميذه الشيخ الصدوق طعنا فيه ، وقالا : هو من وضع محمّد بن موسى السمّان ، وهو ـ السمّان ـ وإن كان من رجال نوادر الحكمة ، إلاّ أنّ ابن الوليد وابن بابويه وأبا العباس بن نوح استثنوا جماعة كان منهم السمّان .
وقد قال فيه ابن الغضائريّ (قدس سره) : ضعيف يروى عن الضعفاء ، كما حكى عن جماعة من القمّيّين الطعن عليه بالغلوّ والارتفاع .
وما ذكر في الدفاع عن كتاب زيد من قول ابن الغضائريّ لا يصلح للردّ ، إذ أن ابن الغضائريّ عقّب على إعراض ابن الوليد ، وتلميذه الشيخ الصدوق عن كتاب زيد النرسيّ ، وكتاب زيد الزرّاد ، وطعنهما فيها بقوله : غلط أبو جعفر ـ يعني الصدوق ـ في هذا القول ، فإنّي رأيت كتبهما مسموعة من محمّد ابن أبي عمير (1) .
وهذا لا ينفي أن يكون لزيد النرسيّ كتاب رواه ابن أبي عمير ، وآخر وضعه محمّد بن موسى السمّان ، فكان ما رواه ابن أبي عمير هو الذي رآه ابن الغضائريّ ، وما وضعه السمّان هو الذي رآه الشيخ الصدوق ، فيكون كلّ
____________
1- الرجال لابن الغضائريّ : 62 .
|
الصفحة 75 |
|
من الشيخين على حجّته .
ومن المحتمل قويّاً أنّ الكتابين اختلطت أحاديثهما أو بعضها ، فكان من أحاديث السمّان هذا الحديث وأضرابه .
ولنختم الكلام بحديث يفنّد هذا الحديث وما شاكله ، رواه الشيخ الكلينيّ (قدس سره) بسنده عن يعقوب بن جعفر الجعفريّ عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال : وقد ذكر عنده قوم يزعمون أنّ الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا ، فقال (عليه السلام) : ( إنّ الله لا ينزل ، ولا يحتاج إلى أن ينزل ، إنّما منظره في القرب والبعد سواء ، لم يبعد منه قريب ، ولم يقرب منه بعيد ، ولم يحتج إلى شيء بل يُحتاج إليه ، وهو ذو الطول لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم .
أمّا قول الواصفين : أنّه ينزل تبارك وتعالى ، فإنّما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة ، وكلّ متحرّك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرّك به ، فمن ظنّ بالله الظنون هلك ، فاحذروا في صفاته ، من أن تقفوا له على حدّ تحدّونه بنقص أو زيادة ، أو تحريك أو تحرّك ، أو زوال أو استــنزال ، أو نهوض أو قعود ، فإنّ الله عزّ وجلّ جلّ عن صفة الواصفين ، ونعت الناعتين ، وتوهّم المتوهّمين ، وتوكلّ على العزيز الرحيم ، الذي يراك حين تقوم ، وتقلّبك في الساجدين ) (1) .
( نوفل . المغرب . 26 سنة )