تعريف التقية :
التقية في اللغة : الحيطة والحذر من الضرر والتوقي منه ، والتقية والتقاة بمعنى واحد ، قال تعالى : ( إلاّ أن تتقوا منهم تقاة ) (1)أي : تقية ، بالاتفاق(2).
قال ابن منظور : وفي الحديث : «قلت : وهل للسيف من تقية ؟ قال : نعم، تقية على اقذاء، وهدنة على دخن» ومعناه : إنّهم يتقون بعضهم بعضاً، ويظهرون الصلح والاتفاق وباطنهم بخلاف ذلك (3).
وفي الاصطلاح : فقد عرفها جمع من علماء المسلمين بألفاظ متقاربة وذات معنى واحد .
فهي عند الشيخ المفيد (ت | 413 هـ) عبارة عن : (كتمان الحق ، وستر
____________
1) سورة آل عمران : 3 | 28 .
2) تاج العروس 10 : 396 وسيأتي اتفاق المفسرين على تفسير (التقاة) بالتقية .
3) لسان العرب 15 : 401 . واُنظر : المصباح المنير| الفيومي 2 : 669 ، وأساس البلاغة| الزمخشري: 686 مادة (وَقِيَ) .
( 12 )
الاعتقاد فيه ، ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين والدنيا) (1).
وعرفها الشيخ الاَنصاري (ت | 1282 هـ) بـ (الحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق) (2).
وقال السرخسي الحنفي (ت | 490 هـ) : (والتقية : أن يقي نفسه من العقوبة ، وإن كان يضمر خلافه) (3)، وبهذا النحو عرّفها آخرون (4).
صلة التقية بالاكراه :
يتضح من تعريف الشيخ الاَنصاري للتقية أن إكراه الاِنسان على الاتيان بشيء مخالف للحق يكون سبباً مباشراً من أسباب حصول التقية ، ويؤيّده ما جاء في قصة عمار بن ياسر وجماعته الذين اتقوا من المشركين فأجروا كلمة الكفر على ألسنتهم كرهاً ، حتى أنزل الله تعالى فيهم قرآناً : ( إلاّ من أُكرِه وقلبه مطمئن بالاِيمان ) (5)وسيأتي تفصيل ذلك في مشروعية التقية .
ولكن يبدو واضحاً من خلال مراجعة موارد التقية في فقه المذاهب
____________
1) تصحيح الاعتقاد | الشيخ المفيد : 66 .
2) التقية | الشيخ الاَنصاري : 37 . واُنظر القواعد الفقهية | البجنوردي 5 : 44 . والقواعد الفقهية| ناصر مكارم الشيرازي 3 : 13 .
3) المبسوط | السرخسي الحنفي 24 : 45 .
4) راجع تعريف التقية عند ابن حجر العسقلاني في فتح الباري بشرح صحيح البخاري 12 : 136 . وعزالدين عبدالعزيز بن عبدالسلام السلمي في قواعد الاَحكام في مصالح الاَنام 1 : 107 . والآلوسي في روح المعاني 3 : 121 . والمراغي في تفسيره 3 : 137 . ومحمد رشيدرضا في تفسير المنار 3 : 280 وغيرهم .
5) سورة النحل : 16 | 106 .
( 13 )
الاِسلامية ، وتدبّر أدلتها من القرآن والسُنّة وسيرة الصحابة وتطبيقات التابعين وغيرهم من المسلمين أنه لا حصر للتقية على كتمان الحق وإظهار خلافه خوفاً على النفس من اللائمة والعقوبة بالاكراه ، لدخول ما إذا كان هذا الكتمان لمصالح أُخر فردية أو اجتماعية في مصاديق التقية وإن لم يكن ثمّة إكراه أصلاً ، ويؤيّده أن الاكراه لم يؤخذ قيداً في تعريف التقية اصطلاحاً ـ كما مرَّ ـ عند بعضهم .
الوجه في تقديم بحث الاِكراه على التقية :
إنّ نفي الملازمة بين الاِكراه والتقية من وجه كما يُفهم من الكلام المتقدم مراعاة لاَقسام التقية لا يعني نفيها من كلِّ وجه كما لا يعني عدم الحاجة إلى دراسة الاِكراه في بحث التقية ؛ لاَنّه من أهم وأقوى أسبابها على الاِطلاق ، زيادة على ما في بحث الاِكراه من الاُمور الباعثة على تقديمه بحيث لا يمكن معها اغفاله بحال ، وسوف نشير إلى بعضها وهي :
1 ـ إنّ جميع التفصيلات الفقهية الواردة في فقه المذاهب العاميّة الاَربعة بشأن التقية إنّما هي مبحوثة عندهم في كتب الاِكراه غالباً ، ولم نجد في جميع مصادرهم الفقهية التي رجعنا إليها كتاباً أو باباً بعنوان التقية، ومن هنا قد يشتبه الاَمر على بعضهم بان فقهاء العامّة لم يتناولوا التقية وأحكامها ، وربما يزعم ـ وهو ليس ببعيد ـ بأن جميع ما سنذكره من صور التقية في الفقه العامي ـ كما في الفصل الاَخير من هذا البحث ـ لا علاقة له بالتقية ؛ لاَنّه من الاِكراه !! ورفع مثل هذا الاشتباه لا يكون إلاّ ببيان العلاقة بين الاثنين وأنها علاقة السبب بالمسبب والعلة بالمعلول .
2 ـ إنّ فهم أحكام التقية وبعض أقسامها متوقف على فهم الاكراه
( 14 )
ومعرفة أركانه ومقوماته وأقسامه وحالاته وصوره بحيث لو لم تبحث هذه الاُمور قبل التقية لاضطررنا إلى ذكرها ثانية مع توزيعها على أغلب مباحث التقية الآتية ، ولا يخفى ما في ذلك من تشتيت لاطراف البحث وتضييع لفائدته ، زيادة على ما يسببه ذلك من ارباك في المنهج العلمي الذي حرصنا على أن يكون دقيقاً وسليماً .
3 ـ اشتراك التقية بمعناها العام بأكثر مقومات الاكراه وأركانه بمعناها الاكراهي الخاص بجميعها مع فارق التسمية ، ومنه يعلم أن الملاك بين الاثنين واحد ، ولا شكّ ان هذا لا يتضح مع اهمال بحث الاكراه ، إلى غير ذلك من الامور الاُخر التي طوينا عنها صفحاً .
إذن ، فلنقف هنيهة عند الاكراه ، لنتعرف على معناه لغة واصطلاحاً ، مع بعض خصوصياته المهمة وأقسامه وحالاته ؛ لكي تتضح بذلك العلاقة بينه وبين التقية مع وحدة الملاك بينهما .
تعريف الاكراه :
أصل الاكراه لغةً : مأخوذ من الفعل (كَرَهَ) ، والاسم : (الكَرهُ) ويراد به كل ما أكرهك غيرك عليه ، بمعنى : أقهرك عليه، وأما (الكُرْه) فهو المشقة ، يُقال : قمت على كُرْهٍ ، أي: على مشقة .
والفرق بين (الكَرْهِ) ، و (الكُرْهِ) أن الاَول هو فعل المضطر ، بينما الثاني هو فعل المختار (1).
وأمّا في الاصطلاح : فقد عرّفه التفتازاني بأنه : (حمل الغير على أن
____________
1) لسان العرب | ابن منظور 12 : 80 كَرَهَ .
( 15 )
يفعل ما لا يرضاه ، ولا يختار مباشرته لو خُلِّي ونفسه) (1).
كما عرّفه عبدالعزيز البخاري الحنفي بقوله ، هو : (حمل الغير على أمرٍ يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه ، ويصير الغير خائفاً به) (2).
وعند السرخسي الحنفي ، هو : (اسم لفعل يفعله المرء بغيره ، فينتفي به رضاه ، أو يفسد به اختياره) (3).
ولعلّ أوجز تعريف للاكراه هو ما نجده عند الشيخ الانصاري رحمه الله ، إذ عرّف الاكراه بأنّه (حمل الغير على ما يكرهه) (4).
ومن كل ما تقدم يعلم اتفاق الفريقين على كون الاِكراه حالة من حالات الاجبار على النطق بشيء أو فعل شيء من غير رضا المكره ولا باختياره . ومع هذا فقد لا يتحقق الاكراه في الواقع وإن توفرت بعض مقوماته ، وهذا ما يستدعي التعرف على ما يتقوم به الاكراه من أركان ، وهو ما سنتناوله تحت عنوان :
أركان الاكراه :
لا خلاف بوجود أربعة أركان أساسية يتقوم بها الاكراه ، فإن توفرت واجتمعت كلّها تحقق الاكراه ، واما لو تخلف ركن منها ، فلا اكراه ، وهي :
الاَول : المُكْرِه : وهو من يصدر منه التهديد والوعيد ، ويشترط فيه أن
____________
1) التلويح على التوضيح | سعد الدين التفتازاني 2 : 196 طبعة مصر | 1322 هـ .
2) كشف الاَسرار عن اصول البزدوي | عبدالعزيز البخاري 4 : 1503 طبعة دار الخلافة .
3) المبسوط | السرخسي 24 : 38 من كتاب الاكراه .
4) المكاسب | الشيخ الانصاري 3 : 311 في الحديث عن شرط الاختيار من شروط المتعاقدين، تحقيق مجمع الفكر الاِسلامي ، لجنة تحقيق التراث ، ط1 ، قم | 1418 هـ .
( 16 )
يكون قادراً على تنفيذ تهديده ووعيده بحق من يكرهه ، وإلاّ فمع عجزه عن ذلك يسقط الاكراه . ولا يشترط في المكرِه أن يكون سلطاناً أو حاكماً جائراً ، بل يكفي أن يكون قادراً متمكناً على تنفيذ وعيده وتهديده ، كما لا يشترط أن يكون المُكْرِه كافراً ، لاَنّ العقل يحكم بلزوم حفظ النفس من الهلكة ، سواء كانت على أيدي بعض المسلمين أو الكفار ، وأنه لا فرق ـ بحكم العقل ـ في ضرورة تجنب الضرر شخصياً كان أو نوعياً ، من أي جهة كان .
الثاني : المُكْرَه : وهو من يقع عليه التهديد والوعيد ، ويشترط هنا أن يكون المُكْرَه متأكداً أو ضاناً بحصول الضرر على نفسه أو ماله أو عرضه أو على اخوانه أو دينه (1)فيما لو لم يأتمر بأمر المُكْرِه .
كما يشترط به أيضاً أن يكون عاجزاً عن دفع ما يتهدد به ، بطريق الهرب أو الاستغاثة ، أو المقاومة ونحو ذلك ، وأما لو لم يكن عالماً ولاظاناً بذلك ، أو كان قادراً على دفع ما هدد به فلا شك بأن ما يأتي به من قول أو فعل مخالف للحق بذريعة الاكراه عليه يكون محرماً ويعاقب عليه ، لعدم تحقق الاكراه بتخلف هذا الركن من أركانه .
الثالث : المُكْرَه به : وهو نوع الضرر المتوعّد به المُكرَه ، سواء كان ذلك الضرر متعلقاً بنفسه أو ماله أو عرضه أو اخوانه المؤمنين ، أو دينه .
وسواء كان ذلك الضرر مادياً كالضرب المبرح أو قطع الاَطراف مثلاً ، أو معنوياً كالاِهانة والتشهير ونحوهما .
هذا ، وأما لو لم يتصل الضرر بنفس المُكرَه ولا بماله ولا بعرضه ،
____________
1) لثبوت التقية عند الخوف الشخصي كما لو خاف المكرَه على نفسه أو عرضه أو ماله ، وكذلك عند الخوف النوعي كالخوف على الدين أو الوطن أو العشيرة ونحو ذلك .
( 17 )
ولابأخوانه ، ولا بدينه ، ولا بمن تربطه معهم حتى صلة الاِسلام ، كما لو أُكْرِهَ على أمر ، فإن لم يفعل قتلوا مشركاً ، فهنا لا اكراه ، لعدم تحقق الركن الثالث .
الرابع : المُكْرَه عليه : وهو نوع ما يراد تنفيذه من المُكرَه ، سواء كان كلاماً أو فعلاً . ويشترط فيه أن لا يكون الضرر الناتج عنه أكبر من الضرر المتوعد به المُكْرَه ، وكذلك أن يكون مما يحرم تعاطيه على المكرَه .
ومثاله : ان يُكره الاِنسان على ارتكاب جريمة الزنا ، وإلاّ أخذت بعض أمواله ، أو ان يشهد زوراً على بريء ، وإلاّ فُصِل من وظيفته ، ففي مثل هاتين الصورتين ونظائرهما لا يجوز الاقدام على التنفيذ ، لاختلال الركن الرابع من أركان الاكراه .
كما يشترط أيضاً في هذا الركن أن يكون الاتيان به منجياً من الضرر بمعنى أن يحصل من اتيان المكرَه عليه الخلاص من الشر المتوعد به ، وأما لو علم المُكرَه بانه لا نجاة له مما هدد به حتى مع الاتيان بما أُمر فلااكراه هنا ، ومثاله : أن يقول المُكرِه للُمكرَه : أعطني دارك وإلاّ أخذتها منك بالقوة . أو أُقتل نفسك وإلاّ قتلتك ، ونحوه .
أنواع الاكراه :
الاكراه في جميع صوره على نوعين ، وهما :
النوع الاَول : الاكراه على الكلام المخالف للحق .
وهذا النوع لا يجب به شيء عندهم ، فكل ما أكرِه عليه المسلم فله ذلك ، وله أمثلة كثيرة جداً ، أشدها : التلفظ بكلمة الكفر ، وهنا يجب الالتفات إلى نقطة في غاية الاَهمية في مسألة الاكراه على اللفظ المخالف
( 18 )
للحق ، ونعني بها صلة الاَلفاظ بأفعال القلوب التي لا سبيل للمكرِه إلى علمها في قلب المكره ، وعليه فلا يصح التجاء المكره إلى شيء منها قط ، كما لو أُكرِه على كلمة الكفر ، أو على الاعتقاد بعقيدة فاسدة ، أو إنكار كل ما ثبت أنه من الدين إنكاراً قلبياً لا لفظياً .
فمثل هذه الاُمور ونظائرها يجب الاحتراز فيها جداً ، بحيث لا يتعدى النطق باللفظ إليها ، لانها ممالا يصح فيه الاكراه ، فغاية الاَمر : إن المكرَه يريد التخلص من الشر بإتيان اللفظ المخالف للحق ، لا أن يُؤمِن بما يتلفظ به حقيقة .
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى صراحة في قوله تعالى : (لايتَّخِذِ المُؤمنُونَ الكافِرينَ أولِيَاءَ مِنْ دون المُؤمِنينَ وَمَنْ يَفْعَل ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شيءٍ وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ وإلى اللهِ المَصِيرُ ) (1).
ومما يلحظ هنا هو أن التحذير الشديد الوارد في الآية المباركة قد جاء مباشرة بعد تشريع التقية في الآية نفسها ، ثم أكده تعالى بقوله الكريم : (قُلْ إن تُخْفُوا ما في صُدُورِكُمْ أو تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما في السَّمواتِ وما في الاَرضِ واللهُ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ ) (2).
وكل هذا التحذير قد جاء في سياق واحد بعد تشريع التقية ، لئلا يتحول إنكار المؤمن للحق بفعل الاِكراه إلى إنكار قلبي كما يريده من أكرَهه؛ لاَنّ الواجب أنْ يبقى القلب مطمئناً بالاِيمان .
وفي هذا الصدد قال الفخر الرازي في تفسيره : (إنّه تعالى لما نهى
____________
1) سورة آل عمران : 3 | 28 .
2) سورة آل عمران : 3 | 29 .
( 19 )
المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهراً وباطناً واستثنى عنه التقية في الظاهر ، اتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقاً للظاهر في وقت التقية ؛ وذلك لاَنَّ من أقدمَ عند التقية على إظهار الموالاة ، فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سبباً لحصول تلك الموالاة في الباطن ، فلا جرم بيّن تعالى أنّه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر ، فيعلم العبد إنّه لابدّ أن يجازيه على ما عزم عليه في قلبه) (1).
هذا ، ومن الجدير بالاشارة إنّ الاكراه اللفظي قد لا يكون هكذا في جميع صوره ، فلو أُكره المرء المسلم على الطلاق مثلاً ، وكانت نيته موافقة للفظه فلا يكون بهذا خارجاً عن ربقة الاِسلام ، بخلاف ما لو أُكرِه بالقتل على سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسبّه بكلِّ رضاً وارتياح ، فهو بهذا سيكون كافراً بلاخلاف .