التقدير العلميّ والعينيّ :
السؤال : أرجو مساعدتي في التمييز بين القضاء والتقدير الإلهيّ ، وما سواها من حوادث الأُمور ، التي ينبغي فيها للمؤمن أن لا يستسلم ، ولا يتنازل عن أبسط حقوقه .
وأعني هل يجب على المؤمن أن يصبر دائماً ، ويرضى بما يحصل عليه ويعتبره تقديراً إلهيّاً ؟ ويحقّ له أن يفعل كلّ ما يضمن له استحقاقاته .
أرجو إرشادي إلى أحد المصادر المفصّلة ، وحفظكم الله .
الجواب : لقد أوضح أهل البيت (عليه السلام) المراد من القضاء والقدر ، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال : ( القدر هي الهندسة ، ووضع الحدود من البقاء والفناء ، والقضاء
____________
1- الصافّات : 95 .
|
الصفحة 244 |
|
هو الإبرام وإقامة العين ) (1) ، وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) ـ بعد سؤاله عن معنى قضى ـ : ( إذا قضى أمضاه ، فذلك الذي لا مردّ له ) (2) .
وقد قسّم التقدير والقضاء على قسمين : علميّ وعينيّ :
وحاصل التقدير العينيّ : أنّ الموجودات الإمكانية على صنفين ! موجود مجرّد عن المادّة والزمان والمكان ، فقدره هو ماهيته التي يتحدّد بها وجوده ، وموجود مادّيّ خلق في إطار الزمان والمكان ، فقدره عبارة عن جميع خصائصه الزمانية والمكانية والكيفية والكمّية .
وأمّا القضاء فهو عبارة عن الضرورة التي تحف وجود الشيء بتحقيق علّته التامّة ، بحيث يكون وجوده ضرورياً مقطوعاً به من ناحية علّته الوجودية ، وعلى ذلك فكلّ ما في الكون لا يتحقّق إلاّ بقضاء وقدر ، فتقديره تحديد الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها ، وآثار وجودها ، وخصوصيّات كونها ، أي العلل والشرائط .
وأمّا قضاؤه ، فلمّا كانت الحوادث في وجودها وتحقّقها منتهية إليه سبحانه ، فما لم يتمّ لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها ، فإنّها تبقى على حال التردد بين الوقوع واللاوقوع ، فإذا تمّت عللها وعامّة شرائطها ، ولم يبق لها إلاّ أن توجد كان ذلك في الله قضاءه ، وفصلاً لها من الجانب الآخر ، وقطعاً للإبهام .
ثمّ إنّ كون التقدير والقضاء العينيّين منه سبحانه لا يلازم كون الإنسان مسلوب الاختيار ، لأنّ المفروض أنّ الحرّية والاختيار من الخصوصيّات الموجودة فيه ، كما أنّه سبحانه إذا قضى بأفعال الإنسان ، فإنّما قضى على صدورها منه عن طريق المبادئ الموجودة فيه التي منها الحرّية والاختيار .
وإنّ السنن الإلهيّة الواردة في الكتاب والسنّة ، أو التي كشف عنها
____________
1- الكافي 1 / 158 .
2- المصدر السابق 1 / 150 .
|
الصفحة 245 |
|
الإنسان عبر ممارساته وتجاربه كلّها من تقديره وقضائه سبحانه ، والإنسان تجاه هذه النواميس والسنن حرّ مختار ، فعلى أيّة واحدة منها طبّق حياته يرى نتيجة عمله .
فالشاب مثلاً الذي يبدأ حياته بإمكاناته الحرّة ، وأعصابه المتماسكة ، وذكائه المعتدل ، فإمّا أن يصرف تلك المواهب في سبيل تحصيل العلوم والفنون والكسب والتجارة ، فمصيره وتقديره هي الحياة السعيدة الرغيدة ، وإمّا أن يسئ الاستفادة من رصيده المادّي والمعنوي ، ويصرفه في الشهوات واللذّات الزائدة ، فتقديره هو الحياة الشقية المظلمة .
والتقديران كلاهما من الله تعالى ، والشاب حرّ في اختيار أحد الطريقين ، والنتيجة التي تعود إليه بقضاء الله وقدره ، كما أنّ له أن يرجع أثناء الطريق ، فيختار بنفسه تقديراً آخر ويغيّر مصيره ، وهذا أيضاً يكون من تقدير الله تعالى ، فإنّه هو الذي خلقنا وخيّرنا وقدّرنا على الرجوع ، وفتح لنا باب التوبة .
ومثال آخر : المريض الذي يقع طريح الفراش ، أمامه تقديران : إمّا أن يعالج نفسه فيشفى ، أو يهمل نفسه فيستمر المرض به . والتقديران كلاهما من الله تعالى ، والمريض حرّ في اختيار سلوك أيّ الطريقين شاء . وأنت إذا نظرت إلى الكون والمجتمع والحياة الإنسانية تقدر على تمييز عشرات من هذه السنن السائدة ، وتعرف أنّها كلّها من تقاديره سبحانه ، والإنسان حرّ في اختيار واحد منها ، ولأجل ذلك يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( خمسة لا يستجاب لهم : رجل ... ، ورجل مرّ بحائط مائل وهو يقبل إليه ، ولم يسرع المشي حتّى سقط عليه ... ) (1) .
والسرّ في عدم استجابة دعائه واضح ؛ لأنّ تقديره سبحانه وقضاءه على الإنسان الذي لا يقوم من تحت ذلك الجدار المائل هو الموت ، وبذلك تقف على مغزى ما روي عن علي (عليه السلام) عندما عدل من حائط مائل إلى حائط آخر ، فقيل
____________
1- الخصال : 299 .
|
الصفحة 246 |
|
له : يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله ؟ فقال (عليه السلام) : ( أَفِرُّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجلّ ) (1) .
يعني أنّ ذلك باختياري ، فإن شئت بقيت في هذا القضاء ، وإن شئت مضيت إلى قدر آخر ، فإن بقيت أقتل بقضاء الله ، وإن عدلت أبقى بتقدير منه سبحانه ، ولكلّ تقدير مصير ، فأيّهما فعلت فقد اخترت ذلك المصير .
وأمّا القضاء والقدر العلميّ ، فالتقدير منه : هو علمه سبحانه بما تكون عليه الأشياء كلّها من حدود وخصوصيّات ، والقضاء منه : علمه سبحانه بحتمية وجود تلك الأشياء وعللها ومبادئها ، والقضاء والقدر العلميّ لا يستلزم وجود الجبر في الأفعال الاختيارية للعباد ، وذلك لأنّ علمه سبحانه تعلّق بصدور الآثار عن العلل مع الخصوصية الكافية في نفس تلك العلل ، ومن تلك الخصوصيّات الاختيار عند الإنسان ، ولمزيد من التفصيل راجع كتاب الإلهيّات للشيخ جعفر السبحانيّ .
____________
1- التوحيد : 369 .
|
الصفحة 247 |
|
( عبد الله الحمد . ... . ... )
السؤال : أُودّ لو أعلم هل عندكم علم الجفر للإمام الصادق ؟ وشكراً .
الجواب : الجفر الذي أنتم بصدده ليس موجوداً عندنا ، ولا عند أيّ شخص ، بل هو من مختصّات الأئمّة (عليهم السلام) يتوارثونه ، وهو الآن عند الإمام الحجّة المنتظر(عليه السلام)، يظهره عند ظهوره (عليه السلام) .
وللمزيد من المعلومات عن الجفر ، ننقل لكم بعض ما روي عن أهل البيت (عليه السلام) في التعريف به :
1ـ عن علي بن سعيد قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ( أمّا قوله في الجفر إنّما هو جلد ثور مدبوغ كالجراب ، فيه كتب وعلم ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة من حلال أو حرام ، إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطّ علي (عليه السلام) ) (1) .
2ـ عن أبي مريم قال : قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : ( عندنا الجامعة ، وهي سبعون ذراعاً ، فيها كلّ شيء حتّى أرش الخدش ، إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطّ علي (عليه السلام) ، وعندنا الجفر ، وهو أديم عكاظيّ ، قد كتب فيه حتّى ملئت أكارعه ، فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ) (2) .
3ـ عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ذكروا ولد الحسن فذكروا الجفر ، فقال : ( والله إنّ عندي لجلدي ماعز وضأن ، إملاء رسول
____________
1- بصائر الدرجات : 181 .
2- المصدر السابق : 180 .
|
الصفحة 248 |
|
الله (صلى الله عليه وآله) وخطّه علي (عليه السلام) بيده ، عندي لجلد سبعين ذراعاً ، إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطّه علي (عليه السلام) بيده ، وإنّ فيه لجميع ما يحتاج إليه الناس حتّى أرش الخدش ) (1) .
4ـ عن علي بن الحسين عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إنّ عبد الله بن الحسن يزعم أنّه ليس عنده من العلم إلاّ ما عند الناس ، فقال : ( صدق والله عبد الله ابن الحسن ، ما عنده من العلم إلاّ ما عند الناس ، ولكن عندنا والله الجامعة ، فيها الحلال والحرام ، وعندنا الجفر ، أيدري عبد الله بن الحسن ما الجفر ؟ مسك بعير أم مسك شاة ؟ وعندنا مصحف فاطمة ، أما والله ما فيه حرف من القرآن ، ولكنّه إملاء رسول الله ، وخطّ علي ، كيف يصنع عبد الله إذا جاء الناس من كلّ أُفق يسألونه ) (2) .
ومن أراد المزيد حول موضوع الجفر فاليراجع كتاب ( حقيقة الجفر ) لأكرم بركات العامليّ ، تقديم العلامة السيّد جعفر مرتضى العامليّ .
( عمّار . الكويت . ... )
السؤال : بارك الله في جهودكم ، وشكر الله مساعيكم ، كثيراً ما اسمع عن الجفر ، فهل يمكنكم أن تذكروا لي بعض مضامينه ؟ وشكراً .
الجواب : في مضمون الجفر أقوال كثيرة ، نذكر منها :
1ـ إنّ في الجفر تفسير القرآن الكريم ، وما في باطنه من غرائب المعاني ، وكلّ ما يحتاج إلى علمه أتباع آل البيت (عليهم السلام) ، وكلّ ما يكون إلى يوم القيامة .
2ـ إنّ في الجفر ما جرى للأولين ، وما جرى للآخرين ، وفيه اسم الله
____________
1- المصدر السابق : 179 .
2- المصدر السابق : 178 .
|
الصفحة 249 |
|
الأعظم ، وتاج آدم ، وخاتم سليمان ، وحجاب آصف .
3ـ إنّ الإمام علي (عليه السلام) قد ذكر فيه على طريقة علم الحروف الحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم .
4ـ إنّ في الجفر علم ما سيقع لأهل البيت (عليه السلام) على العموم ، ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص .
5ـ إنّ في الجفر مجموعة نبوءات وحكم ، ورموز وعبر .
ويستخلص من مجمل هذه الأقوال ، أنّ الجفر يتضمّن ذكر الأخبار التي ستقع حتّى انقراض العالم .
قال الإمام الباقر (عليه السلام) : ( وعندنا الجفر ، وهو أديم عكاظيّ ، قد كتب فيه حتّى ملئت أكارعه ، فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ) (1) .
وللمزيد راجع الكتاب الذي أشرنا إليه في الإجابة على السؤال الأوّل .
____________
1- بصائر الدرجات : 180 .
|
الصفحة 250 |
|
( العلي . ... . ... )