القسم الثالث : الاَحكام :
1 ـ جواز التقية في حكم الاَطعمة والاَشربة المحرمة : أفتى القرطبي المالكي بجواز التقية في شرب الخمر (1)، وقالت الحنفية : تجوز التقية إذا كان الاقدام على الفعل أولى من الترك ، وقد تجب إذا صار بالترك آثماً ، كما لو أُكرِه على أكل لحم الميتة أو أكل لحم الخنزير ، أو شرب الخمرة (2).
وهذه المحرمات المذكورة تجوز كلّها إن كان المتقي باتيانها مكرهاً عليها بغير القتل ، وأما لو كان الاكراه عليها بالقتل ، فقد صرّح الشافعية بوجوبها (3).
وقال ابن حزم الظاهري : «فمن أكره على شرب الخمر أو أكل الخنزير أو الميتة أو الدم أو بعض المحرمات ، أو أكل مال مسلم أو ذمي ، فمباح له أن يأكل ويشرب ولا شيء عليه لاَحد ولا ضمان» (4).
وقد عرفت أن التقية في شرب الخمر ممنوعة عند فقهاء الشيعة ما لم يصل الاكراه الى حد القتل .
2 ـ جوازها في الزنا : إذا أكره الرجل على ارتكاب هذه الجريمة ، واتقى على نفسه بارتكابها فهل يسقط الحد عليه أو لا ؟
____________
1) الجامع لاَحكام القرآن 10 : 180 ، وبه قال الاِمام الزيدي أحمد بن يحيى بن المرتضى في البحر الزخار 6 : 100 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت 1393 هـ ، وقد ذكرناه هنا ؛ لادعاء بعض خصوم الشيعة من الجهلة الاغبياء بان الزيدية أنكروا التقية ، ولولا خشية الاَطالة لزدت البحث فصلاً في تقيتهم .
2) فتاوى قاضيخان 5 : 489 . واُنظر : أحكام القرآن | الجصاص الحنفي 1 : 127 . والمبسوط| السرخسي 24 : 48 وما بعدها . وبدائع الصنائع 7 : 175 وما بعدها .
3) التفسير الكبير | الفخر الرازي الشافعي 20 : 121 .
4) المحلّى | ابن حزم 8 : 330 مسألة : 1404 .
( 153 )
اختلفوا على قولين :
أحدهما : سقوط الحد عنه ، وهو قول القرطبي المالكي (1)، وابن العربي المالكي (2)، والفرغاني الحنفي (3)، وابن قدامة الحنبلي (4)، وابن حزم (5) ، وقال أبو حنيفة : يسقط الحد إن كان الاكراه من السلطان ، وإلاّ حُدّ استحساناً (6).
والآخر : إقامة الحد على الزاني تقية ويغرّم مهرها ، وهو قول مالك بن أنس ، والشافعي ، وقال أبو حنيفة لا يجب المهر (7).
وأما لو استكرهت المرأة على الزنا ، فلا حدّ عليها ، قولاً واحداً (8).
3 ـ جوازها في الدماء : تقدم أن أهل البيت عليهم السلام صرّحوا بأنّ التقية إنّما شرعت لحقن الدم ، وإنّه إذا بلغت التقية الدم فلا تقية ، وبهذا أفتى فقهاء الشيعة اقتداءً بأهل البيت عليهم السلام . وقد وافقهم على هذا من فقهاء العامّة مالك بن أنس (9).
وهو ظاهر المذهب المالكي ، قال ابن العربي المالكي : «قال علماؤنا :
____________
1) الجامع لاَحكام القرآن 10 : 180 .
2) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1177 | 1182 .
3) بدائع الصنائع 7 : 175 ـ 191 .
4) المغني | ابن قدامة 5 : 412 مسألة : 3971 .
5) المحلّى 8 : 331 مسألة 1405 .
6) بدائع الصنائع 7 : 175 ـ 191 .
7) المغني | ابن قدامة 10 : 155 مسألة 7167 .
8) كما في سائر المصادر المذكورة في هذه الفقرة ، وفي الصفحات المؤشرة ازائها ، وهو قول الزيدية أيضاً كما في البحر الزخار 6 : 100 .
9) تفسير بن جزي الكلبي المالكي : 366 .
( 154 )
المكرَه على اتلاف المال يلزمه الغرم ، وكذلك المكرَه على قتل الغير يلزمه القتل» (1). وهو أحد قولي الشافعي (2). وخالف بذلك أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف .
فقال أبو حنيفة : يصح الاكراه على القتل ، ولكن يجب القصاص على المكره ، دون المأمور .
وقال أبو يوسف : يصح الاكراه على القتل ولا يجب القصاص على أحد ، وكان على الآمر دية المقتول في ماله في ثلاث سنين (3)!!
واعترف بهذا الكاساني الحنفي ، قائلاً : «والمكرَه على القتل لا قصاص عليه عند أبي حنيفة وصاحبه محمد ، ولكن يعزر القاتل ، ويجب القصاص على المكرِه .
وعند أبي يوسف لا يجب القصاص لا على المكرِه ولا على المكرَه ، وإنّما تجب الدية على الاَوّل» (4).
وقد اعتذر السرخسي الحنفي عن أبي يوسف عن فتياه العجيبة هذه ، فقال : «وكان هذا القول لم يكن في السلف ، وإنّما سبق به أبو يوسف واستحسنه» (5).
____________
1) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1298 .
2) التفسير الكبير | الرازي الشافعي 20 : 121 .
3) فتاوى قاضيخان 5 : 484 . واُنظر : الفرائد البهية في القواعد والفوائد الفقهية | مفتي الشام محمود حمزة : 219 ، ط1 ، دارالفكر ، دمشق | 1406 هـ .
4) بدائع الصنائع 7 : 175 ـ 191 . وكذلك مجمع الاَنهر 2 : 431 ـ 433 .
5) المبسوط | السرخسي 24 : 45 .
( 155 )
أقول : ومن فروع هذه المسألة عند أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني ، أنه يجوز للرجل أن يتقي في قتل أبيه ، ولا يحرم من ميراثه .
قال الفرغاني الحنفي : «لو أُكرِه الرجل على قتل موروثه بوعيد قتل فَقَتَل ، لا يحرم القاتل من الميراث ، وله أن يقتُل المُكرِه قصاصاً لموروثه في قول أبي حنيفة ومحمد» (1).
والخلاصة ، إنّ المذهب الحنفي يجوز التقية في الدماء !! وهو أحد قولي الشافعي (2).
4 ـ جوازها في قطع الاَعضاء : تصح التقية في قطع أعضاء الاِنسان ، ولا قصاص في ذلك لا على الآمر ولا على المأمور، بل تجب الدية عليهما معاً من مالهما عند أبي يوسف(3)!!
والاَعجب من كلِّ هذا ، جوازها في قطع الاَعضاء تبرعاً من غير اضطرار أو إكراه !!!
إنّه لو أكرَه السلطان رجلاً على أن يقطع يدَ رجُلٍ فقطعها ، ثم قطع يدَه الاُخرى ، أو رجله تطوعاً من غير اكراه من السلطان ، وإنّما قطعها اختياراً ، فهل يجب عليه القصاص فيما قطعه مختاراً أو لا ؟
الجواب : لا قصاص عليه ، ولا على السلطان ، بل تجب عليهما الدية
____________
1) فتاوى قاضيخان 5 : 489 .
2) التفسير الكبير | الرازي 20 : 121 .
3) فتاوى قاضيخان 5 : 486 .
( 156 )
من مالهما عند أبي يوسف (1)!!
5 ـ جوازها في هتك الاَعراض !! : ومن فتاوى العامّة المخجلة حقاً تجويزهم التقية على الاِنسان في هتك عرضه وشرفه وناموسه ، وعليه أن يقف ذليلاً وبكل نذالة وهو يرى الاعتداء على شرفه ولا يدفع عنه شيئاً !
ففي الجامع لاَحكام القرآن للقرطبي المالكي أنّه إذا أُكرِه الاِنسان على تسليم أهله لما لا يحلّ ، أسلمها ، ولم يقتل نفسه دونها ، ولا احتمل أذية في تخليصها (2).
6 ـ جوازها في قذف المحصنات : تجوز التقية في قذف المحصنات عند الجصاص الحنفي (3)، وقد زاد على ذلك السرخسي ، جواز الافتراء على المسلم تقية (4).
7 ـ جوازها في اتلاف مال المسلم : جوّز الحنفية والشافعية وغيرهم التقية في اتلاف مال المسلم لمن يُكرَه على ذلك ، ولا ضمان عليه وإنّما الضمان على من أكرهه (5).
____________
1) فتاوى قاضيخان 5 : 486 .
2) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي المالكي 10 : 180 وما بعدها في تفسيره الآية 106 من سورة النحل .
3) أحكام القرآن | الجصاص الحنفي 1 : 127 .
4) المبسوط | السرخسي 24 : 48 .
5) مجمع الاَنهر 2 : 431 ـ 433 . والاشباه والنظائر | السيوطي الشافعي 207 ـ 208 . والسيل الجرار على حدائق الاَزهار | الشوكاني 4 : 265 ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1405 هـ . وقد قيّد بعضهم مثل هذه التقية في حالة كون الاكراه عليها بالقتل وهو ما يسمونه بالاكراه الملجيء الذي يكون معتبراً في التصرفات القولية والفعلية ، وفي مثل هذا الحال يكون الضمان على المكرِه ،
=
( 157 )
وأطلق الاِمام الزيدي أحمد بن يحيى بن المرتضى القول باباحة مال الغير بشرط الضمان في حال التقية (1).
8 ـ جوازها في شهادة الزور : صرّح السيوطي الشافعي بجواز شهادة الزور عند الاكراه عليها ، فيما لو كانت تلك الشهادة في اتلاف الاموال (2).
كلمة أخيرة عن سعة التقية في فقه المذاهب الاَربعة :
لقد تركنا الكثير جداً من المسائل التي جوّز فيها فقهاء العامّة التقية بغية للاختصار ، كتجويزهم التقية مثلاً في : الصدقة ، والاقرار ، والنكاح ، والاجارة ، والمباراة ، والكفالة ، والشفقة ، والعهود ، والتدبير ، والرجعة ـ بعد الطلاق ـ والظهار ، والنذر ، والايلاء ، والسرقة ، وغيرها من الفروع الشرعية (3) ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات. ومن هنا قال المالكية : «الاكراه، إذا وقع على فروع الشريعة لا يؤخذ المكره بشيء»(4).
وأوسع من هذا المعنى ما صرّح به موسى جار الله التركماني بقوله:«والتقية هي : وقاية النفس من اللائمة والعقوية ، وهي بهذا المعنى من الدين ، جائزة في كلِّ شيء» (5).
____________
=
وأما لو كان الاكراه غير ملجيء وهو ما كان التهديد فيه بما دون القتل فللمكرَه أن يتقي في المثال أيضاً بشرط الضمان .
اُنظر : شرح المجلة | سليم رشيد الباز : 560 المادة 1007 ط دار إحياء التراث العربي : بيروت .
1) البحر الزخار 6 : 100 .
2) الاَشباه والنظائر | السيوطي : 207 ـ 208 .
3) راجع في ذلك بدائع الصنائع 7 : 175 ـ 191 . والمحلّى 8 : 331 ـ 335 مسألة : 1406 وغيرهما مما ذكرناه من مصادر الفقه العامي .
4) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1177 | 1182 .
5) الوشيعة في نقد عقائد الشيعة | موسى جارالله : 72 ، ط1 ، مطبعة الشرق ، مصر | 1355 هـ .
( 158 )
وقال أيضاً : «التقية في سبيل حفظ حياته ، وشرفه ، وحفظ ماله ، وفي حمايته ، حق من حقوقه واجبة على كلِّ أحد إماماً كان أو غيره» (1).
وبهذا وغيره مما مرّ في فصول هذا البحث يتضح أنّه لا مجال لاَحد في النقاش بمشروعية التقية في الاِسلام ، ولا مجال لانكارها بحال من الاَحوال ، وان انكارها مرض طبعت عليه قلوب المنافقين ، والحمد لله ربِّ العالمين .