فدك
في التأريخ
الشهيد
السيّد محمّد باقر الصدر
قسم الدراسات الإسلامية
( 5 )
الاهداء : |
الناشر
( 6 )
فاتحـة الكـتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين . اياك نعبد واياك نستعين . اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
( 7 )
أيّها القارىء الكريم :
هذا انتاج اغتنمت له عطلة من عطل الدراسة في جامعتنا الكريمة ـ النجف الأشرف ـ وتوفرت فيها على درس مشكلة من مشاكل التاريخ الاسلامي ، وهي مشكلة فدك ، والخصومة التأريخية التي قامت بين الزهراء صلوات الله عليها والخليفة الاُول رضي الله تعالى عنه. وكانت تتبلور في ذهني استنتاجات وفكر ، فسجلتها على أوراق متفرقة. حتى اذا انتهيت من مطالعة مستندات القضية ورواياتها ، ودرس ظروفها ، وجدت في تلك الوريقات ما يصلح خميرة لدراسة كافية للمسألة ، فهذبتها ورتبتها على فصول ، اجتمع منها كتيب صغير ، وكان في نيتي الاحتفاظ به كمذكر عند الحاجة ، فبقي عندي سنين مذكرا ومؤرخاً لحياتي الفكرية في الشهر الذي تمخض عنه ، غير أن بعض الاخوة ( أيدهم الله ) طلبوا مني طبعه وقد نزلت على رغبتهم تقديراً لهم ولتوفيره في المكتبة العربية والإسلامية والكتاب هو ما تراه بين يديك.
( المؤلّف )
( 8 )
( 9 )
فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون. |
الزهراء
( 10 )
وقفت لا يخالجها شك فيما تقدم عليه ، ولا يطفح عليها موقفها الرهيب بصبابة من خوف أو ذعر ، ولا يمر على خيالها الذي كان جدّيّاً كل الجد ، تردد في تصميمها ، ولا ولا تساورها هاجسة من هواجس القلق والارتباك ، وها هي الآن في أعلى القمة من استعدادها النبيل ، وثباتها الشجاع على خطتها الطموح ، واسلوبها الدفاعي ، فقد كانت بين بابين لا يتسعان لتردد طويل ، ودرس عريض ، فلا بد لها من اختيار أحدهما وقد اختارت الطريق المتعب من الطريقين الذي يشق سلوكه على المرأة بطبيعتها الضعيفة لما يكتنفه من شدائد ومصاعب تتطلب جرأة أدبية ، وملكة بيانية مؤثرة ، وقدرة على صب معاني الثورة كلها في كلمات وبراعة فنية في تصوير النقمة ونقد الاُوضاع القائمة تصويراً ونقداً يجعلان في الاُلفاظ معنى من حياة ، وحظا من خلود ، لتكون الحروف جنود الثورة الخيرة ، وسندها الخالد في تاريخ العقيدة ، ولكنه الايمان والاستبسال في سبيل الحق الذي يبعث في النفوس الضعيفة نقائضها ، ويفجر في الطبائع المخذولة قوة لا تتعرض لضعف ولا تردد.
ولذا كان اختيار الثائرة لهذا الطريق ممّا يوافق طبعها ، ويلتئم مع شخصيتها المركزة على الانتصار للحق ، والاندفاع في سبيله.
وكانت حولها نسوة متعددات من حفدتها ونساء قومها كالنجوم
( 11 )
المتناثرة يلتففن بها بغير انتظام ، وهن جميعاً سواسية في هذا الاندفاع والالتياع ، وقائدتهن بينهن تستعرض ما ستقدم عليه من وثبة كريمة تهيىء لها العدة والذخيرة ، وهي كلما استرسلت في استعراضها ازدادت رباطة جأش ، وقوة جنان ، وتضاعفت قوة الحق التي تعمل في نفسها ، واشتدت صلابة في الحركة ، وانبعاثاً نحو الدفاع عن الحقوق المسلوبة ، ونشاطاً في الاندفاع ، وبسالة في الموقف الرهيب ، كأنّها قد استعارت في لحظتها هذه قلب رجلها العظيم ، لتواجه به ظروفها القاسية وما حاكت لها يد القدر أستغفر الله بل ما قدر لها المقدر الحكيم من مأساة مروعة تهد الجبل وتزلزل الصعب الشامخ.
وكانت في لحظتها الرهيبة التي قامت فيها بدور الجندي المدافع شبحاً قائماً ترتسم عليه سحابة حزن مرير ، وهي شاحبة اللون ، عابسة الوجه ، مفجوعة القلب ، كاسفة البال منهدة العمد ، ضعيفة الجانب ، مائعة الجسم ، وفي صميم نفسها ، وعميق فكرها المتأملة اشعاعة بهجة ، واثارة طمأنينة ، وليس هذا ولا ذاك استعذاباً لأمل باسم ، أو سكونا إلى حلم لذيذ ، أو استقبالاً لنتيجة حسنة مترقبة ، بل كانت الاشعاعة اشعاعة رضا بالفكرة ، والاستبشار بالثورة ، وكانت الطمأنينة ثقة بنجاح لا هذا الذي نفيناه بل على وجه آخر ، وان في بعض الفشل الآجل ايجاباً لنجاح عظيم وكذلك وقع ، فقد قامت اُمّة برمتها تقدس هذه الثورة الفائزة بل تستمد منها ثباتها واستبسالها في هذا الثبات.
ودفعتها أفكارها في وقفتها تلك إلى الماضي القريب يوم كانت موجات السعادة تلعب بحياتها السعيدة ، ويوم كانت نفس أبيها يصعد. ونسمه يهبط ، وكان بيتها قطب الدولة العتيد ، ودعامة المجد الراسخة المهيمنة على الزمن الخاشع المطيع.
( 12 )
ولعل أفكارها هذه ساقتها إلى تصور أبيها ( صلى الله عليه وآله ) وهو يضمها إلى صدره الرحيب ، ويحوطها بحنانه العبقري ، ويطبع على فمها الطاهر قبلاته التي اعتادتها منه ، وكانت غذاءها صباحاً ومساء.
ثم وصلت الى حيث بلغت سلسلة الزمن فيواجهها الواقع العابس واذا بالزمان غير الزمان وها هو بيتها مشكاة النور ورمز النبوة والاشعاعة المتألقة المحلقة بالسماء مهدد بين الفينة والفينة ، وها هو ابن عمها الرجل الثاني في دنيا الاسلام باب علم النبوة ، ووزيرها المخلص ، وهارونها المرجى ، الذي لم يكن لينفصل ببدايته الطاهرة عن بداية النبوة المباركة فهو ناصرها في البداية ، وأملها الكبير في النهاية ، يخسر أخيراً خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقوض معنوياته النورية التي شهدت لها السماء والأرض جميعا ، وتسقط سوابقه الفذة عن الاعتبار ببعض المقاييس التي تم اصطلاحها في تلك الاحايين.
وهنا بكت بكاء شقيا ما شاء الله لها أن تبكي ، ولم يكن بكاء بمعناه الذي يظهر على الاُسارير ، ويخيم على المظاهر ، بل كان لوعة الضمير ، وارتياع النفس ، وانتفاضة الحسرات في أعماق القلب ، وختمت طوافها الاُليم هذا بعبرتين نضتا من مقلتيها.
ثم لم تطل وقفتها ، بل اندفعت كالشرارة الملتهبة وحولها صويحباتها حتى وصلت الى ميدان الصراع ، فوقفت وقفتها الخالدة ، وأثارت حربها الذي استعملت فيه ما يمكن مباشرته للمرأة في الاسلام ، وكادت ثورتها البكر أن تلتهم الخلافة لولا أن عاكسها شذوذ الظرف ، وتناثرت امامها العقبات.
* * *
تلك هي الحوراء الصديقة فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه
( 13 )
واله وسلم ) ريحانة النبوة ، ومثال العصمة ، وهالة النور المشعة ، وبقية الرسول بين المسلمين ـ في طريقها الى المسجد ـ وقد خسرت أبوة هي أزهى الاُبوات في تأريخ الانسان ، وأفيضها حناناً ، وأكثرها اشفاقاً ، وأوفرها بركة.
وهذه كارثة من شأنها أن تذيق المصاب بها مرارة الموت أو أن تظهر له الموت حلواً شهياً ، وأملأ نيراً.
وهكذا كانت الزهراء حينما لحق أبوها بالرفيق الأعلى ، وطارت روحه الفرد الى جنان ربها راضية مرضية.
ثم لم تقف الحوادث المرة عند هذا الحد الرهيب ، بل عرضت الزهراء لخطب آخر قد لا يقل تأثيراً في نفسها الطهور ، وايقاداً لحزنها ، واذكاء لاُساها عن الفاجعة الاُولى كثيراً وهو خسارة المجد الذي سجلته السماء لبيت النبوة على طول التاريخ ، وأعني بهذا المجد العظيم سيادة الاُمّة وزعامتها الكبرى ، فقد كان من تشريعات السماء أن يسوس آل محمّد ( صلى الله عليه وآله ) امته وشيعته ، لأنهم مشتقاته ومصغراته ، واذا بالتقدير المعاكس يصرف مراكز الزعامة عن أهلها ، ومناصب الحكم عن أصحابها ، ويرتب لها خلفاء واُمراء من عند نفسه.
وبهذا وذاك خسرت الزهراء أقدس النبوات والاُبوات ، واخلد الرئاسات والزعامات بين عشية وضحاها ، فبعثتها نفسها المطوقة بآفاق من الحزن والاُسف الى المعركة ومجالاتها ، ومباشرة الثورة والاستمرار عليها .
والحقيقة التي لا شك فيها أن أحداً ممن يوافقها على مبدئها ونهضتها لم يكن ليمكنه أن يقف موقفها ، ويستبسل استبسالها في الجهاد الا وأن يكون أكلة باردة ، وطعمة رخيصة للسلطات الحاكمة التي كانت قد بلغت يومذاك أوج الضغط والشدة ، فعلى الاشارة عتاب ، وعلى القول حساب
( 14 )
وعلى الفعل عقاب ، فلم يكن ليختلف عما نصطلح عليه اليوم بالاُحكام العرفية ، وهو أمر ضروري للسلطات يومئذ في سبيل تدعيم أساسها ، وتثبيت بنيانها.
أما اذا كان القائم المدافع بنت محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبضعته وصورته الناضرة. فهي محفوظة لا خوف عليها بلا شك ، باعتبار هذه النبوة المقدسة ، ولما للمرأة في الاسلام عموماً من حرمات وخصائص تمنعها وتحميها من الاُذى.
* * *