عربي
Saturday 2nd of November 2024
0
نفر 0

الحرب

وارتبك ابن سعد حينما علم أن الحرّ قد التحق بمعسكر الإمام، وهو من كبار قادة الفرق في جيشه، وخاف أن يلتحق غيره بالإمام، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الإمام، وأخذ سهماً كأنّه كان نابتاً في قلبه، فأطلقه صوب الإمام، وهو يصيح:
الحرب

وارتبك ابن سعد حينما علم أن الحرّ قد التحق بمعسكر الإمام، وهو من كبار قادة الفرق في جيشه، وخاف أن يلتحق غيره بالإمام، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الإمام، وأخذ سهماً كأنّه كان نابتاً في قلبه، فأطلقه صوب الإمام، وهو يصيح:

(اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى الحسين...).

واتخذ بذلك وسيلة لفتح باب الحرب، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة أنه أول من رمي ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليكون أميره على ثقة من إخلاصه، ووفائه للأمويين، وأن ينفي عنه كل شبهة من أنّه غير جادّ في حربه للحسين.

وتتابعت السهام كأنّها المطر على أصحاب الإمام، فلم يبق أحد منهم إلا أصابه سهم منها، والتفت الإمام إلى أصحابه، فأذن لهم في الحرب قائلاً:

(قوموا ياكرام فهذه رسل القوم إليكم..).

وتقدّمت طلائع الشرف والمجد من أصحاب الإمام إلى ساحة الحرب لتحامي عن دين الله، وتذبّ عن ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم على يقين لا يخامرهم أدنى شكّ أنّهم على الحق، وأن الجيش الأموي على ضلال، قد سخط الله عليه وأحلّ به نقمته.

لقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً من أصحاب الإمام (عليه السلام) مع عشرات الآلاف من الجيش الأموي، وكانت تلك القلّة المؤمنة كفؤاً لتلك الكثرة التي تملك أضخم العتاد والسلاح، فقد أبدت تلك القلّة من صنوف البسالة والشجاعة ما يبهر العقول ويحير الألباب.


الحملة الاولى:
وشنّت قوّات ابن سعد هجوماً عاماً واسع النطاق على أصحاب الإمام (عليه السلام) وخاضوا معهم معركة ضارية، وقد اشترك فيها المعسكر الأموي بكامل قطعاته، وقد انبرى إليهم أصحاب الإمام بعزم وإخلاص لم يشهد له نظير في جميع الحروب التي جرت في الأرض، فقد كانوا يخترقون جيش ابن سعد بقلوب أقوى من الصخر، وقد أنزلوا بهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات.

وقد استشهد نصف أصحاب الإمام (عليه السلام) في هذه الحملة(1).

المبارزة بين المعسكرين:
ولما سقطت الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمام (عليه السلام) صرعى على أرض الشهادة والكرامة، هبّ من بقي منهم إلى المبارزة، وقد ذعر المعسكر بأسره من بطولاتهم النادرة، فكانوا يستقبلون الموت بسرور بالغ، وقد ضجّ الجيش من الخسائر الفادحة التي مني بها، وقد بادر عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من الأعضاء البارزين في قيادة جيش ابن سعد فهتف في الجيش ينهاهم عن المبارزة قائلاً:

(يا حمقى أتدرون مَن تقاتلون، تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر وقوماً مستميتين، فلا يبرز لهم منكم أحد إلا قتلوه، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم..)(2).

وحكت هذه الكلمات ما اتصف به السادة أصحاب الإمام الحسين من الصفات البارزة فهم فرسان أهل المصر، وذلك بما يملكونه من الشجاعة، وقوة الإرادة وانّهم أهل البصائر فلم يندفعوا إلى نصرة الإمام (عليه السلام) إلا على بصيرة من أمرهم، وليسوا كخصومهم الذين تردّوا في الغواية، وماجوا في الباطل والضلال، كما أنّهم قوم مستميتون ولا أمل لهم في الحياة.

لقد توفرت في أصحاب الإمام جميع النزعات الخيّرة، والصفات الكريمة من الإيمان والوعي والشجاعة وشرف النفس، ويقول المؤرخّون: ان ابن سعد استصوب رأي ابن الحجاج فأوعز إلى قوّاته بترك المبارزة معهم(3) وشنّ عمرو بن الحجاج هجوماً عاماً على من تبقّى من أصحاب الإمام، والتحموا معهم التحاماً رهيباً، واشتدّ القتال كأشدّ ما يكون القتال عنفاً(4) وقد استنجد عروة بن قيس بابن سعد ليمدّه بالرماة والرجال قائلاً:

(ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدّة اليسيرة، ابعث إليهم الرجال والرماة).

وطلب ابن سعد من المنافق شبث بن ربعي القيام بنجدته فأبى، وقال:

(سبحان الله شيخ مضر، وأهل المصر عامة، تبعثه في الرماة لم تجد لهذا غيري!!.).

ولما سمع ذلك ابن سعد منه دعى الحصين بن نمير فبعث معه المجفّفة وخمسمائة من الرماة، فسددوا لأصحاب الحسين (عليه السلام) السهام فأصابوا خيولهم فعقروها، فصاروا كأنّهم رجالة، ولم تزدهم هذه الخسارة إلا استبسالاً في القتال، واستهانة بالموت، فثبتوا كالجبال الشامخات، ولم يتراجعوا خطوة واحدة، وقد قاتل معهم الحرّ بن يزيد الرياحي راجلاً، واستمرّ القتال كأعنف وأشدّ مايكون ضراوة، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه أشدّ قتال حدث في التأريخ، وقد استمرّ حتى انتصف النهار(5).


أداء فريضة الصلاة:
وانتصف النهار وحان ميقات صلاة الظهر فوقف المؤمن المجاهد أبو ثمامة الصائدي فجعل يقلب وجهه في السماء كأنّه ينتظر أعزّ شيء عنده وهي أداء صلاة الظهر، فلما رأى الشمس قد زالت التفت إلى الإمام قائلاً:

(نفسي لنفسك الفداء، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، والله لا تقتل حتى أقتل دونك، وأحبّ أن ألقى ربّي، وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها..).

لقد كان الموت منه كقاب قوسين أو أدنى، وهو لم يغفل عن ذكر ربّه، ولا عن أداء فرائضه، وجميع أصحاب الإمام (عليه السلام) كانوا على هذا السمت إيماناً بالله، وإخلاصاً في أداء فرائضه.

ورفع الإمام رأسه فجعل يتأمّل في الوقت فرأى أن قد حلّ وقت أداء الفريضة فقال له:

(ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلّين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها..).

وأمر الإمام (عليه السلام) أصحابه أن يطلبوا من معسكر ابن زياد أن يكفّوا عنهم القتال ليصلّوا لربّهم، فسألوهم ذلك فانبرى الرجس الخبيث الحصين ابن نمير قائلاً: (إنها لا تقبل) فقال له حبيب بن مظاهر بسخرية:

(زعمت أن لا تقبل الصلاة من آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتقبل منك يا حمار!!).

وحمل عليه الحصين فسارع إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فثبت به الفرس فسقط عنها، وبادر إليه أصحابه فاستنقذوه(6).

واستجاب أعداء الله - مكيدة - لطلب الإمام فسمحوا له أن يؤدّي فريضة الصلاة، وانبرى الإمام للصلاة، وتقدّم أمامه سعيد بن عبدالله الحنفي يقيه بنفسه السهام والرماح واغتنم أعداء الله انشغال الإمام وأصحابه بالصلاة فراحوا يرشقونهم بسهامهم وكان سعيد الحنفي يبادر نحو السهام فيتقيها بصدره ونحره، ووقف ثابتاً كالجبل لم تزحزحه السهام، ولا الرماح والحجارة التي اتخذته هدفاً لها ولم يكن يفرغ الإمام من صلاته حتى أثخن سعيد بالجراح فهوى إلى الأرض يتخبّط بدمه وهو يقول:

(اللهمّ العنهم لعن عاد وثمود، وأبلغ نبيّك منّي السلام، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإنّي أردت بذلك ثوابك ونصرة ذريّة نبيّك..)

والتفت إلى الإمام قائلاً له بصدق وإخلاص:

(أوفيت يا بن رسول الله؟.).

فأجابه الإمام شاكراً له:

(نعم أنت أمامي في الجنّة..).

وملئت نفسه فرحاً حينما سمع قول الإمام، ثم فاضت نفسه العظيمة إلى بارئها فقد أصيب بثلاثة عشر سهماً عدا الضرب والطعن(7) وكان هذا منتهى ما وصل إليه الوفاء، والإيمان، والولاء للحقّ.


مصرع بقيّة الأنصار:
وتسابقت البقيّة الباقية من أصحاب الإمام من شيوخ وشباب، وأطفال إلى ساحات المعركة، وقد أبلوا بلاءً حسناً يقصر عنه كل وصف وإطراء، وقد جاهدوا جهاداً لم يعرف التأريخ له نظيراً في جميع عمليات الحروب التي جرت في الأرض، فقد قابلوا على قلّة عددهم الجيوش المكثفة، وأنزلوا بها أفدح الخسائر، ولم تضعف لأي رجل منهم عزيمة، ولم تلن لهم قناة، وقد خضبوا جميعاً بالدماء، وهم يشعرون بالغبطة، ويشعرون بالفخار.

وقد وقف الإمام العظيم على مصارعهم، فكان يتأمّل بوجهه الوديع فيهم، فيراهم مضمخين بدم الشهادة، فكان يقول:

(قتلة كقتلة النبيين وآل النبيّين..)(8).

لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى، وقد حازوا الفخر الذي لا فخر مثله، فقد سجلوا شرفاً لهذه الأمة لا يساويه شرف، وأعطوا للإنسانية أفضل ما قدّم لها من عطاء على امتداد التأريخ.

وعلى أيّ حال فقد شارك أبو الفضل العبّاس الأنصار الممجدين في جهادهم وخاض معهم غمار الحرب، وكانوا يستمدّون منه البسالة، وقوة الإرادة والعزم على التضحية، وقد أنقذ بعضهم حينما وقع عليه التفاف من بعض قطعات الجيش الأموي.


مصارع آل النبيّ:
وبعد ما سقطت الصفوة الطيّبة من أصحاب الإمام (عليه السلام) صرعى وهي معطرة بدم الشهادة والكرامة هبّت أبناء الأسرة النبوية كالأسود الضارية للدفاع عن ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذبّ عن عقائل النبوة ومخدّرات الرسالة، وأول من تقدّم إلى البراز منهم شبيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) خَلْقاً وخُلقاً عليّ الأكبر (عليه السلام) فقد آثر الموت وسخر من الحياة في سبيل كرامته، ولا يخضع لحكم الدعيّ ابن الدعيّ، ولما رآه الإمام أخذ يطيل النظر إليه، وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات، وأشرف على الاحتضار، فرفع شيبته الكريمة نحو السماء وراح يقول بحرارة وألم ممض:

(اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمد (صلى الله عليه وآله) خَلقاً وخلقاً ومنطقاً، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه… اللهمّ امنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا، ثم عدّوا علينا يقاتلوننا...).

لقد تجسّدت صفات الرسول الأعظم النفسية والخلقية بحفيده عليّ الأكبر (عليه السلام)، وأعظِم بهذه الثروة التي ملكها سليل هاشم وفخر عدنان، وقد تقطع قلب الإمام (عليه السلام) على ولده، فصاح بابن سعد:

(مالك قطع الله رحمك، ولا بارك لك في أمرك، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك، كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم تلا قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم)(9)..).

وشيّع الإمام (عليه السلام) فلذة كبده وهو غارق بالأسى والحسرات وخلفه عقائل النبوة، وقد علا منهنّ الصراخ والعويل على شبيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي ستتناهب شلوه السيوف والرماح وبرز الفتى مزهواً إلى حومة الحرب، لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب، وهو يحمل هيبة جدّه الرسول (صلى الله عليه وآله)، وشجاعة جدّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وبأس حمزة عمّ أبيه، وإباء الحسين، وتوسّط حراب الأعداء، وهو يرتجز بفخر وعزّة قائلاً:

أنــــا عــليّ بن الحســــين بن علي          نــحــــن وربّ البيت أولـــى بالنبيّ

تــالله لا يحكم فينا ابن الدعي(10)

أجل - يابن الحسين - فخر هذه الأمة، ورائد نهضتها وكرامتها، أنت وأبوك أحقّ بالنبي (صلى الله عليه وآله) وأولى بمركزه ومقامه من هؤلاء الأدعياء الذين حوّلوا حياة المسلمين إلى جحيم لا يطاق.

وأعلن عليّ بن الحسين (عليه السلام) في رجزه عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة، وأنّه يؤثر الموت على الذلّ والخنوع للدعي ابن الدعيّ، وقد ورث هذه الظاهرة من أبيه سيّد الأباة في الأرض، والتحم فخر هاشم مع أعداء الله، وقد ملأ قلوبهم رعباً وفزعاً، وقد أبدى من الشجاعة والبسالة ما يقصر عنه الوصف، ويقول المؤرّخون: انّه ذكّرهم ببطولات جدّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي هو أشجع إنسان خلقه الله، فقد قتل فيما يقول المؤرّخون مائة وعشرين فارساً(11) سوى المجروحين، وألحّ عليه العطش، وأضر به الظمأ فقفل راجعاً إلى أبيه يطلب منه جرعة من الماء، ويودعه الوداع الأخير واستقبله أبوه بأسى، فبادر عليّ قائلاً:

(يا أبة العطش قد قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الأعداء..).

والتاع الإمام كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة، فقال له بصوت خافت، وعيناه تفيضان دموعاً:

(واغوثاه، ما أسرع الملتقى بجدّك، فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً..).

وأخذ لسانه فمصّه ليريه ظمأه فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه(12).

لقد كان هذا المنظر الرهيب من أقسى ما فجع به ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقد رأى فلذة كبده وهو في ريعان الشباب وغضارة العمر كالبدر في بهائه قد استوعبت الجراحات جسمه الشريف، وقد أشرف على الموت من شدّة العطش، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء، يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق:

يشـــكو لخير أب ظماه وما اشتكى          ظمأ الحشا إلا إلى الـظامي الصدي

كلّ حـــشاشته كــــصالية الـــــغضا          ولــــسانه ظـــــمأ كـــــشقّة مـــبرد

فــــانصاع يــــؤثره عــــليه بــريقه          لو كــــان ثـــــمة ريـــــقه لم يجمد

وقفل فخر هاشم إلى ساحة الحرب، قد فتكت الجروح بجسمه الشريف وفتت العطش قلبه، وهو لم يحفل بما هو فيه من آلام لا تطاق، وإنّما استوعبت مشاعره وعواطفه وحدة أبيه يراه وقد أحيط به من كل جانب ومكان، وجميع قطعات الجيش متعطشة إلى سفك دمه لتتقرّب به إلى ابن مرجانة… وجعل عليّ بن الحسين يرتجز أمام الأعداء:

الــــحرب قــــد بــــانت لها حــقائق          وظـــــهرت مـــن بــــعدها مصادق

والله ربّ الــــعــــرش لا نــــــفارق          جـــموعكم أو تــغمد البوارق(13)

لقد تجلّت حقائق الحرب، وبرزت معالمها وأهدافها بين الفريقين، فالإمام الحسين إنّما يناضل من أجل رفع الغبن الاجتماعي، وضمان حقوق المظلومين والمضطهدين وتوفير الحياة الكريمة لهم، والجيش الأموي إنّما يقاتل من أجل استعباد الناس وجعل المجتمع بستاناً للأمويين يستغلّون جهودهم، ويرغمونهم على ما يكرهون، وأعلن عليّ بن الحسين - في رجزه - أنّه سيبقى يناضل عن الأهداف النبيلة والمبادئ العليا حتى تغمد البوارق.

وجعل نجل الحسين يقاتل أشدّ القتال وأعنفه حتى قتل تمام المائتين(14) وقد ضجّ العسكر من شدّة الخسائر الفادحة التي مني بها، فقال الرجس الخبيث مرّة بن منقذ العبدي: عليّ آثام العرب إن لم أثكل أباه(15) وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فطعنه بالرمح في ظهره وضربه ضربة غادرة بالسيف على رأسه، ففلق هامته، فاعتنق الفتى فرسه ظنّاً منه أنّه سيرجعه إلى أبيه ليودعه الوداع الأخير إلا أن الفرس حمله إلى معسكر الأعداء، فأحاطوا به من كلّ جانب، فقطعوه بسيوفهم إرباً إرباً تشفّياً منه لما ألحقه بهم من الخسائر الفادحة، ورفع الفتى صوته:

(عليك منّي السلام أبا عبد الله، هذا جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها، وهو يقول: إن لك كأساً مذخورة...).

وحمل الأثير هذه الكلمات إلى أبيه فقطعت قلبه، ومزّقت أحشاءه ففزع إليه وهو خائر القوى منهدّ الركن، قد أشرف على الموت، فوضع خدّه على خد ولده، وهو جثّة هامدة، قد قطعت شلوه السيوف فأخذ يذرف أحرّ الدموع، وهو يقول بصوت خافت قد حمل شظايا قلبه الممزّق:

(قتل الله قوماً قتلوك، يا بني ما أجرأهم على الله، وعلى انتهاك حرمة الرسول على الدنيا بعدك العفا…)(16).

وكان العباس (عليه السلام) إلى جانب أخيه، وقد ذاب قلبه وذهبت نفسه حزناً وأسى على ما حلّ بهم من عظيم الكارثة وأليم المصاب، لقد قتل ابن أخيه الذي كان ملء فمّ الدنيا في فضائله ومآثره، فما أعظم رزيّته، وما أجلّ مصابه!!

وهرعت الطاهرة حفيدة النبيّ (صلى الله عليه وآله) زينب(عليها السلام) إلى جثمان ابن أخيها فانكبّت عليه تضمخه بدموعها، وهي صارخة معولة تندبه بأشجى ما تكون الندبة قائلة:

(وابن أخاه...).

(واثمرة فؤاداه..).

وأثّر منظرها الحزين في نفس الإمام، فجعل يعزّيها بمصابها الأليم وهو بحالة المحتضر، ويردد بأسى:

(على الدنيا بعدك العفا يا ولدي..).

لك الله يا أبا عبدالله على هذه الكوارث التي تميد بالصبر، وتهتزّ من هولها الجبال، لقد تجرعتها في سبيل هذا الدين الذي عبثت به العصابة المجرمة من الأمويين وعملائهم.


مصارع آل عقيل:
وهبّت الفتية الأماجد من آل عقيل إلى الجهاد لتفدي إمام المسلمين وريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي ساخرة من الحياة ومستهينة بالموت وقد نظر الإمام (عليه السلام) إلى بسالتهم واندفاعهم بشوق إلى الذبّ عنه، فقال:

(اللهمّ اقتل قاتل آل عقيل، صبراً آل عقيل إن موعدكم الجنّة…)(17).

وقد ألحقوا بالعدوّ خسائر فادحة، فقد قاتلوا كالأسود الضارية وعلوا بإرادتهم، وعزمهم الجبّار على جميع فصائل ذلك الجيش وقد استشهد منهم تسعة من أطائب الشباب، ومن مفاخر أبناء الأسرة النبوية، وفيهم يقول الشاعر:

عيــــن جــــودي بـعبرة وعويل          وانــــدبي إن نـدبت آل الرسول

ســــبعة كــــلهم لصـــــلب علي          قـد أصيبوا وتسعة لعقيل(18)

وقد صعدت أرواحهم الطاهرة إلى الفردوس الأعلى حيث مقرّ النبيّين والصدّيقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.


مصارع أبناء الحسن:
وسارعت الفتية من أبناء الإمام الزكيّ أبي محمد (عليه السلام) إلى نصرة عمّهم والذبّ عنه، وقلوبهم تنزف دماً على ما حلّ به من عظيم الكوارث والخطوب وكان من بينهم القاسم، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه كالقمر في جمال طلعته وبهائه وقد غذاه عمّه بمواهبه، وأفرغ عليه أشعّة من روحه حتى صار من أمثلة الكمال والآداب.

وكان القاسم وبقية اخوانه يتطلّعون إلى محنة عمهم، ويودّون أن يردوا عنه عوادي الأعداء بدمائهم وأرواحهم، وكان القاسم يقول: (لايقتل عمّي وأنا حيّ)(19).

وانبرى القاسم يطلب الإذن من عمّه ليجاهد بين يديه، فاعتنقه الإمام، وعيناه تفيضان دموعاً، وأبى أن يأذن له إلا أن الفتى ألحّ عليه، وأخذ يقبّل يديه ورجليه ليسمح له بالجهاد، فأذن له، وانطلق رائد الفتوّة الإسلامية إلى ساحة الحرب، ولم يضف على جسده الشريف لامة حرب، محتقراً لأولئك الوحوش، وقد التحم معهم يحصد رؤوسهم، ويجندل أبطالهم كأن المنايا كانت طوع إرادته، وبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله الذي هو أشرف من ذلك الجيش، وأنَف سليل النبوة والإمامة أن تكون إحدى رجليه بلا نعل فوقف يشدّه متحدّياً لهم، واغتنم هذه الفرصة كلب من كلاب ذلك الجيش وهو عمرو بن سعد الأزدي فقال: والله لأشدّنّ عليه، فأنكر عليه ذلك حميد بن مسلم، وقال له:

(سبحان الله!! وما تريد بذلك، يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم…).

فلم يعن الخبيث به، وشدّ عليه فضربه بالسيف على رأسه الشريف فهوى إلى الأرض كما تهوي النجوم صريعاً يتخبّط بدمه القاني، ونادى بأعلى صوته:

(يا عمّاه أدركني..).

وكان الموت أهون على الإمام من هذا النداء، فقد تقطع قلبه، وفاضت نفسه أسى وحسرات، وسارع نحو ابن أخيه فعمد إلى قاتله فضربه بالسيف، فاتقاها بساعده فقطعها من المرفق، وطرحه أرضاً، وحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلا أن الأثيم هلك تحت حوافر الخيل، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يوسعه تقبيلاً والفتى يفحص بيديه ورجليه كالطير المذبوح، وجعل الإمام يخاطبه بذوب روحه:

(بعداً لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدّك، عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك صوت، والله هذا يوم كثر واتره، وقلّ ناصره…)(20).

وحمل الإمام ابن أخيه بين ذراعيه، وهو يفحص بيديه ورجليه(21) حتى فاضت نفسه الزكية بين يديه، وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر، وسائر القتلى الممجّدين من أهل بيته، وأخذ يطيل النظر إليهم وقد تصدّع قلبه، وأخذ يدعو على السفكة المجرمين من أعدائه الذين استباحوا قتل ذرية نبيّهم، قائلاً:

(اللهمّ احصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً…)(22).

وبرز من بعده عون بن عبدالله بن جعفر، ومحمد بن عبدالله بن جعفر وأمّهما العقيلة الطاهرة حفيدة الرسول (صلى الله عليه وآله) زينب الكبرى(عليها السلام) وقد نالا شرف الشهادة مع حفيد النبيّ وريحانته، ولم يبق بعد هؤلاء الصفوة من أهل البيت(عليهم السلام) إلا أخوة الإمام الحسين (عليه السلام) وفي طليعتهم أخوه أبو الفضل العباس (عليه السلام) وكان إلى جانب أخيه كقوّة ضاربة يحميه من أي اعتداء عليه، وقد شاركه في جميع آلامه وأحزانه.


على ضفاف العلقمي
وذاب قلب أبي الفضل أسىً وحزناً، وودّ أن المنيّة قد اختطفته، ولا يشاهد تلك الكوارث والخطوب التي تذهل كل كائن حيّ، وتميد بالصبر، ولا يقوى على تحملها أي إنسان إلا أولي العزم من أنبياء الله الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان واصطفاهم على عباده.

ومن بين تلك الكوارث المذهلة التي عاناها أبو الفضل (عليه السلام) أنّه كان يستقبل في كل لحظة شاباً أو غلاماً لم يراهق الحلم من أهل بيته قد مزّقت أشلاءهم سيوف الأمويين وحرابهم، ويسمع صراخ بنات الرسالة، وعقائل النبوة، وهنّ يلطمن وجوههن، ويندبن بأشجى ما تكون الندبة أولئك البدور الذين تضمخوا بدم الشهادة دفاعاً عن ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله)... ومن بين المحن الشاقة التي عاناها أبو الفضل (عليه السلام) أنّه يرى أخاه، وشقيق روحه الإمام الحسين (عليه السلام) قد أحاطت به أوغاد أهل الكوفة لتتقرّب بقتله إلى سليل الأدعياء ابن مرجانة، وقد زادته هذه المحن إيماناً وتصميماً على مناجزة أعداء الله، وبذله حياته فداءً لسبط رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ونعرض - بإيجاز - إلى شهادته وما رافق ذلك من أحداث.


العباس مع أخوته:

وانبرى بطل كربلاء إلى أشقّائه بعد شهادة الفتية من أهل البيت(عليهم السلام) فقال لهم:

(تقدّموا يا بني أمّي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله، فإنه لا ولد لكم...)(23).

لقد طلب من أخوانه الممجدين أن يقدموا نفوسهم قرابين لدين الله، وأن ينصحوا في جهادهم لله ورسوله، ولم يلحظ في تضحيتهم أي اعتبار آخر من النسب وغيره، والتفت أبو الفضل إلى أخيه عبد الله فقال له:

(تقدّم يا أخي حتى أراك قتيلاً، وأحتسبك..)(24).

واستجابت الفتية إلى نداء الحق فهبّوا للدفاع عن سيّد العترة وإمام الهدى الحسين (عليه السلام).

قول رخيص:

ومن أهزل الأقوال، وأبعدها عن الحق ما ذكره ابن الأثير ان العباس (عليه السلام) قال لأخوته: (تقدّموا حتى أرثكم، فإنه لا ولد لكم..)(25).

لقد قالوا بذلك، ليقلّلوا من أهمية هذا العملاق العظيم الذي هو من ذخائر الإسلام، ومن مفاخر المسلمين، وهل من الممكن أن يفكّر فخر هاشم في الناحية المادية في تلك الساعة الرهيبة التي كان الموت المحتم منه كقاب قوسين أو أدنى، مضافاً إلى الكوارث التي أحاطت به، فهو يرى أخاه قد أحاطت به جيوش الأمويين، وهو يستغيث فلا يغاث، ويسمع صراخ عقائل النبوة ومخدرات الرسالة، فقد كان همّه الوحيد الرحيل من الدنيا، واللحوق بأهل بيته الذين حصدتهم سيوف الأمويين، وبالإضافة لهذا كله فإن السيدة أم البنين أم السادة الأماجد كانت حيّة فهي التي تحوز ميراث أبنائها لأنها من الطبقة الأولى لو كان لأبنائها أموال فإن أباهم الإمام أمير المؤمنين قد انتقل من هذه الدنيا ولم يخلف صفراءً ولا بيضاء، فمن أين جاءت أبناءه الأموال... ومن المحتمل قوياً أن يكون الوارد في كلام سيّدنا أبي الفضل (عليه السلام) (حتّى أثأركم..) أي أطلب بثاركم فحرّف كلامه.

مصارع أخوة العبّاس:
واستجاب السادة أخوة العباس إلى نداء أخيهم فهبّوا للجهاد، ووطّنوا نفوسهم على الموت دفاعاً عن أخيهم ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد برز عبدالله ابن أمير المؤمنين (عليه السلام) والتحم مع جيوش الأمويين وهو يرتجز:

شيــخي عــلي ذو الفخار الأطول          من هاشم الخير الكريم المفضل

هـــذا حـســين بن النبي المرسل          عنه نحامــــي بالحسام المصقل

تــــفديه نـــفســي مـن أخ مبجّل          يــــا رب فـامنحني ثواب المنزل

لقد أعرب بهذا الرجز عن اعتزازه وافتخاره بأبيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) باب مدينة علم النبيّ (صلى الله عليه وآله) ووصيه، كما اعتزّ بأخيه سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد أعلن أنّه إنّما يدافع عنه لأنّه ابن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويلتمس بذلك أن يمنحه الله الدرجات الرفيعة.

ولم يزل الفتى يقاتل أعنف القتال وأشدّه حتى شدّ عليه رجس من أرجاس أهل الكوفة وهو هاني بن ثبيت الحضرمي فقتله(26).

وبرز من بعده أخوه جعفر، وكان له من العمر تسع عشرة سنة فجعل يقاتل قتال الأبطال فبرز إليه قاتل أخيه فقتله(27).

وبرز من بعده أخوه عثمان وهو ابن إحدى وعشرين سنة فرماه خولى بسهم فأضعفه، وشدّ عليه رجس من بني دارم وأخذ رأسه ليتقرّب به إلى ابن الأمة الفاجرة عبيد الله بن مرجانة(28).

لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى، وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله، وأشدّ ما تكون إيماناً بعدالة تضحيتهم التي هي من أنبل التضحيات في العالم.

ووقف أبو الفضل على أشقّائه الذين مزّقت أشلاءهم سيوف الأعداء فجعل يتأمّل في وجوههم المشرقة بنور الإيمان، وأخذ يتذكّر وفاءهم، وسموّ آدابهم، وأخذ يذرف عليهم أحرّ الدموع، وتمنّى أن تكون المنيّة قد وافته قبلهم، واستعدّ بعد ذلك إلى الشهادة، والفوز برضوان الله.


مصرع أبي الفضل:
ولما رأى أبو الفضل (عليه السلام) وحدة أخيه، وقتل أصحابه، وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله انبرى إليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق فلم يسمح له الإمام، وقال له بصوت حزين النبرات:

(أنت صاحب لوائي..).

لقد كان الإمام يشعر بالقوّة والحماية ما دام أبو الفضل فهو كقوة ضاربة إلى جانبه يذبّ عنه، ويردّ عنه كيد المعتدين، وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً:

(لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين، وأريد أن آخذ ثأري منهم..).

لقد ضاق صدره، وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من أخوته، وأبناء عمومته صرعي مجزرين على رمضاء كربلاء فتحرّق شوقاً للأخذ بثأرهم والالتحاق بهم.

وطلب الإمام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الأطفال الذين صرعهم العطش فانبرى الشهم النبيل نحو أولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة فجعل يعظهم، ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته، ووجّه خطابه بعد ذلك إلى ابن سعد:

(يابن سعد هذا الحسين بن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قتلتم أصحابه وأهل بيته، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء، قد أحرق الظمأ قلوبهم، وهو مع ذلك يقول: دعوني أذهب إلى الروم أو الهند، وأخلّي لكم الحجاز والعراق..).

وساد صمت رهيب على قوّات ابن سعد، ووجم الكثيرون، وودّوا أن الأرض تسيخ بهم، فانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً:

(يابن أبي تراب، لوكان وجه الأرض كلّه ماءً، وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد…).

لقد بلغت الخسّة، ولؤم العنصر، وخبث السريرة بهذا الرجس إلى مستوى ما له من قرار... وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وطغيانهم، وسمع فخر عدنان صراخ الأطفال، وهم يستغيثون، وينادون:

(العطش العطش..).

ورآهم أبو الفضل قد ذبلت شفاههم، وتغيّرت ألوانهم، وأشرفوا على الهلاك، من شدّة العطش، وفزع أبو الفضل، وسرى الألم العاصف في محيّاه، واندفع ببسالة لإغاثتهم، فركب فرسه، وأخذ معه القربة، فاقتحم الفرات، فانهزم الجيش من بين يديه، واستطاع أن يفكّ الحصار الذي فرض على الماء، فاحتلّه، وكان قلبه الشريف كصالية الغضا من شدّة العطش، فاغترف من الماء غرفة ليشرب منه، إلا أنه تذكّر عطش أخيه، ومن معه من النساء والأطفال، فرمى الماء من يده، وامتنع أن يروي غليله، وقال:

يا نفس من بعد الحسين هوني          وبعده لا كنت أن تكوني

هـــــذا الحــــسين وارد المنون          وتشربين بارد المعين

تــــالله مــــا هــــذا فــعال ديني

ان الإنسانية بكل إجلال واحترام لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الفضيلة والإسلام وهي تلقي على الأجيال أروع الدروس عن الكرامة الإنسانية.

إن هذا الإيثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان كان من أبرز الذاتيات في خلق سيّدنا أبي الفضل، فلم تمكّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن يشرب من الماء قبله، فأي إيثار أنبل أو اصدق من هذا الإيثار، … واتجه فخر هاشم مزهواً نحو المخيم بعدما ملأ القربة، وهي عنده أثمن من حياته، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشرية التحاماً رهيباً فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز:

لا أرهــب الـــموت اذ المـــوت زقا          حـــتى أواري في المـــصاليت لقى

نفــسي لسبط المصطفى الطهر وقا          إني أنا العــــباس أغــــدو بــالسقا

ولا أخــــاف الشــــرّ يـــوم الملتقى

لقد أعلن بهذا الرجز عن شجاعته النادرة، وأنّه لا يخشى الموت، وإنّما يستقبله بثغر باسم دفاعاً عن الحق، وفداءً لأخيه سبط النبيّ (صلى الله عليه وآله).. وأنه لفخور أن يغدو بالسقاء مملوءً من الماء ليروي به عطاشى أهل البيت.

وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب، فقد ذكرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر، ومحطّم فلول الشرك، إلا أن وضراً خبيثاً من جبناء أهل الكوفة كمن له من وراء نخلة، ولم يستقبله بوجهه، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها، لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين، ولم يعن بها بطل كربلاء وراح يرتجز:

والله إن قــــطعــــتم يــــميـــني          إنّـــي أحــــامي أبداً عــن ديني

وعـــن إمــــام صــــادق اليقين          نجــــل الــــنبيّ الــطاهر الأمين

ودلل بهذا الرجز على الأهداف العظيمة، والمثل الكريمة التي يناضل من أجلها فهو إنّما يناضل دفاعاً عن الإسلام، ودفاعاً عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل الجنّة.

ولم يبعد العباس قليلاً حتى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرية وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها، وحمل القربة بأسنانه - حسبما تقول بعض المصادر - وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت(عليهم السلام) وهو غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء وألم الجراح، وشدّة العطش، وكان ذلك حقّاً هو منتهى ما وصلت إليه الإنسانية من الشرف والوفاء والرحمة… وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة إذ أصاب القربة سهم غادر فأريق ماؤها، ووقف البطل حزيناً، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه، وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته، وهوى إلى الأرض، وهو يؤدّي تحيّته، ووداعه الأخير إلى أخيه قائلاً:

(عليك منّي السلام أبا عبد الله...).

وحمل الأثير محنته إلى أخيه فمزّقت قلبه، ومزّقت أحشاءه، وانطلق نحو نهر العلقمي حيث هوى إلى جنبه أبو الفضل، واقتحم جيوش الأعداء، فوقف على جثمان أخيه فألقى بنفسه عليه، وجعل يضمخه بدموع عينيه، وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث قائلاً:

(الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوي...).

وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى جثمان أخيه، وقد انهارت قواه، وانهدّ ركنه وتبددت جميع آماله، وودّ أن الموت قد وافاه قبله، وقد وصف السيّد جعفر الحلّي حالته بقوله:

فمـــشى لمـصرعه الحسين وطرفه          بين الخــــيام وبــــينه متـــــقـــسم

ألـــــفاه محجــــوب الجـــــمال كأنّه          بدر بمنـــــحطم الــــوشــــيج مـلثم

فأكــــب منــــحنياً عـــــــليه ودمعه          صــــبغ البــــسيط كــأنّما هو عندم

قــــد رام يلـــــثمه فـــلم ير موضعاً          لــــم يــــدمه عــــضّ السلاح فيلثم

نــــادى وقــــد مـلأ البوادي صيحة          صم الصـــخور لهــــولها تتـــــــألّم

أأخــــي يــــهنيك النــــعيم ولم أخل          ترضـــى بــــأن أرزى وأنــت منعم

أأخــــي مـــن يحــــمي بنات محمد          إذ صــــرن يـسترحمن من لا يرحم

مــــا خـلت بعدك أن تشلّ سواعدي          وتكف بـــاصرتي وظـــهري يقصم

لســــواك يــــلطم بـــالأكف وهـــذه          بيــــض الــضبا لك في جبيني تلطم

ما بين مصرعك الفظيع ومصرعي          إلا كــــما أدعـــــوك قــــبل وتـــنعم

هـــذا حســــامك مـــن يذلّ به العدا          ولــــواك هــــذا مــــن بــــه يــتقدم

هـــونت يـا ابن أبي مصارع فتيتي          والجــــرح يســـــكنه الـذي هو آلم

وهو وصف دقيق للحالة الراهنة التي حلّت بسيّد الشهداء بعد فقده لأخيه، ووصف شاعر آخر وهو الحاج محمد رضا الأزري وضع الإمام (عليه السلام) بقوله:

وهــــوى عــــليه مــــا هـنالك قائلاً          اليوم بــــان عـــن اليمين حسامهـا

الـــيوم ســـار عــن الكتائب كبشها          الــــيوم بــــان عـــن الهداة امامها

اليــــوم آل إلــــى التـــــفرق جمعنا          اليــــوم حـــلّ عـــن البـنود نظامها

اليــــوم نــــامت أعيــــن بك لم تنم          وتــــسهّدت أخــــرى فـــعز منامها

أشقــيق روحي هل تراك علمت أن          غــــودرت وانــــثالث عـليك لئامها

قد خلت أطبقت السماء على الثرى          أودكــــدكت فــــوق الربى أعلامها

لكـــن أهــــان الخــطب عندي انني          بــــك لاحــــق أمـــراً قضى علامها

ومهما قال الشعراء والكتّاب فإنهم لا يستطيعون أن يصفون ما ألمّ بالإمام من فادح الحزن، وعظيم المصاب، ووصفه أرباب المقاتل بأنّه قام من أخيه وهو لا يتمكّن أن ينقل قدميه، وقد بان عليه الانكسار، وهو الصبور، واتجه صوب المخيّم، وهو يكفكف دموعه، فاستقبلته سكينة قائلة:

(أين عمّي أبو الفضل،..).

فغرق بالبكاء، وأخبرها بنبرات متقطّعة من شدّة البكاء بشهادته، وذعرت سكينة، وعلا صراخها، ولما سمعت بطلة كربلاء حفيدة الرسول (صلى الله عليه وآله) بشهادة أخيها الذي ما ترك لوناً من ألوان البرّ والمعروف إلا قدّمه لها أخذت تعاني آلام الاحتضار، ووضعت يدها على قلبها المذاب، وهي تصحيح:

(وا أخاه، واعبّاساه، واضيعتنا بعدك...).

يا لهول الفاجعة.

يا لهول الكارثة.

لقد ضجّت البقعة من كثرة الصراخ والبكاء، وأخذت عقائل النبوة يلطمن الوجوه وقد أيقن بالضياع بعده، وشاركهنّ الثاكل الحزين أبو الشهداء في محنتهنّ ومصابهنّ، وقد علا صوته قائلاً:

(واضيعتنا بعدك يا أبا الفضل…).

لقد شعر أبو عبد الله (عليه السلام) بالضيعة والغربة بعد فقده لأخيه الذي ليس مثله أخ في برّه ووفائه ومواساته، فكانت فاجعته به من أقسى ما مُني به من المصائب والكوارث.

وداعاً يا قمر بني هاشم.

وداعاً يا فجر كل ليل.

وداعاً يا رمز المواساة والوفاء.

سلام عليك يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حيّاً.
____________________________
1 - حياة الإمام الحسين 3: 203.
2 - أنساب الأشراف 3: 192.
3 - أنساب الأشراف 3: 192.
4 - حياة الإمام الحسين 3: 211.
5 - تأريخ ابن الأثير 3: 291.
6 - تأريخ ابن الأثير 3: 291.
7 - مقتل الحسين للمقرم: 297.
8 - حياة الإمام الحسين 3: 239.
9 - سورة ال عمران: 33.
10 - تأريخ ابن الأثير 3: 293.
11 - مقتل الخوارزمي 2: 30.
12 - مقتل الخوارزمي 2: 30.
13 - حياة الإمام الحسين 3: 247.
14 - مقتل الخوارزمي 2: 31.
15 - مقتل المقرم: 316.
16 - نسب قريش: 57.
17 - حياة الإمام الحسين 3: 249.
18 - المعارف: 204.
19 - حياة الإمام الحسين 3: 255.
20 - البداية والنهاية 8: 186.
21 - حياة الإمام الحسين 3: 256.
22 - مقتل الخوارزمي 2: 28.
23 - الإرشاد: 269.
24 - مقاتل الطالبيين: 82.
25 - تأريخ ابن الأثير 3: 294.
26 - حياة الإمام الحسين 3: 262.
27 - الإرشاد: 269.
28 - مقاتل الطالبيين: 83.


source : sibtayn
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

خروج الحسين (ع) إلى مكة
ماذا بين أبي بكر و فاطمة (سلام الله علیها) ؟
التقويم التاريخي لأهم حوادث العالم الإسلامي ...
الإمام الصادق ( عليه السلام ) في ذمة الخلود
الحرب
فدك في التأريخ
الفكر التأريخي عند أمير المؤمنين عليه السلام في ...
مقام الإمام المهدي عليه السلام عند الله تعالى:
صاحب الغار والتقية
الأوضاع قبل البعثة النبوية

 
user comment