كانت مخطئة ومخالفة لأمر الله ورسوله :
السؤال : أتمنّى أن تعينوني على فهم بعض الأُمور التي مرّت عليّ ، وأُريد التأكّد منها ، هل ما سمعت عن كره الشيعة للسيّدة عائشة صحيح ؟ جزاكم الله كُلّ خير .
الجواب : إنّ مسألة الحبّ والبغض من المسائل المتّفق عليها بين المسلمين كافّة ، وهي الحبّ في الله ، والبغض في الله ، وكذلك الموالاة لأولياء الله والمعاداة لأعدائه .
قال تعالى : { لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (2) .
ولا عداء شخصي للشيعة مع أحد أبداً ، وإنّك ترى أنّ أهل البيت (عليهم السلام) يرحمون حتّى أعداءهم وقاتليهم ، ويبكون عليهم ويوصون بهم .
____________
1- تاريخ اليعقوبي 2 / 225 .
2- المجادلة : 22 .
|
الصفحة 257 |
|
وترى أنّ الشيعة يتعاملون مع المسلمين كافّة كُلّ بحسبه ، فالمؤمن الصادق موقّر لديهم ، وإن كان ابن كافر ، والمنحرف مذموم لديهم ، وإن كان ابن أو أخ إمام .
فهذا عمّار وسلمان وأبو ذر والمقداد وأُمّ سلمة وعبد الله بن عباس ومحمّد بن أبي بكر ، وغيرهم من المؤمنين الملتزمين الممدوحين في الأحاديث الشريفة الصحيحة .
وها هو عبيد الله بن العباس وجعفر الكذّاب ، وغيرهم من السادة الهاشميين ، ولكنّهم يتبرّأون منهم ، ويبغضون أعمالهم .
فنحن لدينا موازين شرعية نضع الناس بحسبها لا بأهوائنا ولا بالنسب ، وإنّما بالتقوى والسيرة الحسنة ، أو العكس لأيّ شخص كائناً من كان .
وأمّا بخصوص عائشة ، فقد ثبت أنّها آذت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كثير من المواقف ، كما في قصّة المغافير ، وتهديد الله تعالى لها أشدّ تهديد في القرآن لأحد من العالمين ، قال تعالى : { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ الله هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } (1) ، وكذلك في الكثير من أقوالها وأفعالها معه (صلى الله عليه وآله) .
وكذلك موقفها من الإمام علي (عليه السلام) بعد تحذير النبيّ (صلى الله عليه وآله) إيّاها من ذلك الخروج ، وحرب أمير المؤمنين والخروج على إمام زمانها .
وأيضاً موقفها من دفن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) مع جدّه (صلى الله عليه وآله) ، وعدم إذنها بذلك ، وغير ذلك ممّا هو معلوم لدى الجميع .
فموقفنا ليس شخصياً وعداءً لذاتها ، بل هو موقف من أعمالها ، وعدم كونها بمستوى المسؤولية والموقع الرفيع ، بكونها زوجة خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) ، وقد قال تعالى : { يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا ... وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
____________
1- التحريم : 4 .
|
الصفحة 258 |
|
الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ... } (1) ، وكان عمر في زمن خلافته يمنعهن حتّى من الخروج للحجّ ، حتّى أذن لهن في آخر خلافته ، فكيف بالخروج على إمام زمانها ومحاربته .
فإنا نعتقد أنّها كانت مخطئة ومخالفة لأمر الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ، وعلى هذا فالدليل يسوقنا إلى عدم موالاتها ، ولا غرابة ، فالقرآن يعلّمنا البراءة من زوجة نوح ولوط ، وموالاة آسية امرأة فرعون .
( عيسى الشيباني . الإمارات . 26 سنة . طالب ثانوية عامّة )
كانت تعلم بمبايعة الناس لعلي (عليه السلام) :
السؤال : وفّقكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين ، وأظهر الحقّ على لسانكم وفي كتبكم المقدّسة ، يدّعي البعض بأنّ خروج عائشة في معركة الجمل عن عدم درايتها بأنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد تمّت لـه البيعة ، واستلام الخلافة لـه , وبالتالي هي معذورة في خروجها على الإمام في تلك الحرب ، حيث أنّها لو علمت لما خرجت على رأس الجيش ؟
الرجاء توضيح هذه الشبهة ، ولكم فائق الاحترام والتقدير .
الجواب : المعروف أنّ واقعة الجمل كان سببها خروج عائشة مع طلحة والزبير للمطالبة بدم عثمان ، إلاّ أنّ الثابت تاريخياً أنّ عائشة هي التي حرّضت الناس على قتل عثمان بن عفّان ، وأصدرت فتوى بقتله بعد نعته بنعثل اليهودي ، وقالت : " اقتلوا نعثلاً فقد كفر " (2) ، تعني عثمان ، وفي رواية أُخرى : " اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً " (3) تعني عثمان ، ونعثل هو رجل يهودي كان يعيش في المدينة طويل اللحية ، بل ورد أنّ حفصة وعائشة قالتا لعثمان : "
____________
1- الأحزاب : 30 ـ 33 .
2- تاريخ الأُمم والملوك 3 / 477 ، شيخ المضيرة أبو هريرة : 171 .
3- تاج العروس 8 / 141 ، لسان العرب 11 / 670 ، شرح نهج البلاغة 6 / 215 و 20 / 22 .
|
الصفحة 259 |
|
إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سمّاك نعثلاً تشبيها بنعثل اليهودي " (1) ، وقيل : " إنّ نعثل هو الشيخ الأحمق ، وهو رجل من أهل مصر كان طويل اللحية وكان يشبه عثمان " (2) .
وقال ابن أبي الحديد : " قال كُلّ من صنّف في السير والأخبار : إنّ عائشة كانت من أشدّ الناس على عثمان ، حتّى أنّها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فنصبته في منزلها ، وكانت تقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول الله لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنّته " (3) .
وقد صدّق المسلمون ـ وعلى رأسهم الصحابة ـ دعوى عائشة ، واستجابوا لتحريضها ، فشاركوا في قتله ، ودفنوه في مقبرة اليهود (4) .
ولكن السؤال المثير هو : لماذا خرجت عائشة للمطالبة بدم عثمان ؟ وتجييش الجيوش من أجل ذلك ؟
قال الطبري عن تلك الأحداث : " أنّ عائشة لما انتهت إلى سرف ـ موضع ستة أميال من مكّة ـ راجعة في طريقها إلى مكّة ، لقيها عبد ابن أُمّ كلاب ، وهو عبد ابن أبي سلمة ينسب إلى أُمّه ، فقالت لـه : مهيم ؟
قال : قتلوا عثمان ، فمكثوا ثمانياً ، قالت : ثمّ صنعوا ماذا ؟
قال : أخذها أهل المدينة بالاجتماع ، فجازت بهم الأُمور إلى خير مجاز ، اجتمعوا على علي بن أبي طالب ، فقالت : والله ليتَ إنّ هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك ، ردّوني ردّوني ، فانصرفت إلى مكّة وهي تقول : قتل والله عثمان مظلوماً ، والله لأطلبن بدمه ، فقال لها ابن أُمّ كلاب : ولم ؟ فو الله أنّ أوّل من أمال حرفه لأنتِ ، ولقد كنتِ تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر .
____________
1- كشف الغمّة 2 / 108 .
2- لسان العرب 11 / 699 .
3- شرح نهج البلاغة 6 / 215 .
4- أُنظر : الطبقات الكبرى 3 / 78 .
|
الصفحة 260 |
|
قالت : إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه ، وقد قلت وقالوا ، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل ، فقال ابن أُمّ كلاب :
منكِ البداء ومنكِ الغير |
ومنكِ الرياح ومنكِ المطر |
وأنتِ أمرتِ بقتل الإمام |
وقلتِ لنا أنّـه قد كفـر |
فهبنا أطعناكِ في قتلـه |
وقاتلـه عندنا من أمـر |
إلى آخر الأبيات .
فانصرفت إلى مكّة ، فنزلت على باب المسجد ، فقصدت الحجر ، فسترت واجتمع إليها الناس ، فقالت : يا أيّها الناس ، إنّ عثمان قُتل مظلوماً ، ووالله لأطلبن بدمه " (1) .
والحاصل : إنّ عائشة كانت تعلم بمبايعة الناس لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، ومن هنا كانت نقطة الانقلاب في موقفها ، وبمراجعة يسيرة إلى المصادر التاريخية تجد أنّ عائشة حتّى عند إخبارها بمقتل عثمان قبل علمها بمبايعة علي (عليه السلام) كانت تسمّيه نعثلاً وتتشفّى بمقتله ، ولكن علمها بمبايعة الإمام (عليه السلام) قلب موقفها تماماً ، وقادها إلى القيام بتلك الفتنة الكبيرة التي راح ضحيّتها عشرات الآلاف من المسلمين ، فكيف لا تعلم عائشة بمبايعة الناس لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، وهي عندما قدمت إلى البصرة وجدت عليها عثمان بن حنيف عامل أمير المؤمنين (عليه السلام) عليها ، وقد أرسل أليها أبو الأسود الدؤلي يسألها عن خبرها ، وعن علّة مجيئها إلى البصرة ، فقالت لـه : أطلب بدم عثمان ، قال : إنّه ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد ، قالت : صدقت ولكنّهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة (2) .
____________
1- تاريخ الأُمم والملوك 3 / 476 .
2- شرح نهج البلاغة 6 / 226 .
|
الصفحة 261 |
|
وعندما لم تجد عائشة آذاناً صاغية من عثمان بن حنيف وأصحابه في البصرة في مطالبها ، اشتد النزاع بين الفريقين حتّى حصلت تلك الواقعة المسمّاة بـ " واقعة الجمل الأصغر " ، والتي كان من آثارها أن قتل أربعون رجلاً من شيعة علي (عليه السلام) في المسجد ، وسبعون آخرون في مكان آخر ، وأسروا عثمان بن حنيف ، وكان من فضلاء الصحابة ، فأرادوا قتله ، ثمّ خافوا أن يثأر لـه أخوه سهل والأنصار ، فنتفوا لحيته وشاربيه وحاجبيه ورأسه وضربوه وحبسوه ، ثمّ طردوه من البصرة (1) .
وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد أخبر عائشة عن خروجها هذا وحذّرها منه ، وقال لها : " لا تكوني التي تنبحك كلاب الحوأب " ، والحوأب هو وادي كثير الماء نبحت كلابه عند مسير عائشة إلى البصرة ، وعندما سألت عنه أخبروها أنّ هذا المكان يسمّى بماء الحوأب .
فقالت : ردّوني ، ردّوني ، وذكرت التحذير الذي سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولكن وبمحضر من طلحة والزبير أحسّ بجسامة الموقف ، فاحضر خمسين رجلاً ، وشهدوا بأنّ هذا المكان لا يسمّى بماء الحوأب ، وكانت تلك أوّل شهادة زور في الإسلام كما يذكره المؤرّخون (2) .
وخلاصة القول في مسير عائشة هو قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة لـه : " أيّها الناس ، إنّ عائشة سارت إلى البصرة ومعها طلحة والزبير ، وكُلّ منهما يرى الأمر لـه دون صاحبه ، أمّا طلحة فابن عمّها ، وأما الزبير فختنها ، والله لو ظفروا بما أرادوا ـ ولن ينالوا ذلك أبداً ـ ليضربن أحدهما
____________
1- تاريخ الأُمم والملوك 3 / 485 ، انساب الأشراف : 225 ، أُسد الغابة 2 / 40 ، شرح نهج البلاغة 6 / 226 .
2- أُنظر : مسند أبي يعلى 8 / 282 ، شرح نهج البلاغة 6 / 225 و 9 / 310 ، انساب الأشراف : 224 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 181 ، البداية والنهاية 7 / 258 ، المناقب : 181 .
|
الصفحة 262 |
|
عنق صاحبه بعد تنازع منهما شديد ، والله إنّ راكبة الجمل الأحمر ما تقطع عقبة ، ولا تحل عقدة إلاّ في معصية الله وسخطه ، حتّى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة " (1) .
وقد حذّر الله سبحانه قبل هذا نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله) من الخروج من بيوتهنّ وأمرهنّ بالقرار فيها بقولـه : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى }(2) ، ولذا نقول : ما حكم من خرجت من بيتها ومدينتها بل وكُلّ بلادها ، وذهبت إلى بلاد أُخرى تبعد عنها آلاف الأميال ، وأشعلت كُلّ هذه الفتنة التي يراها البعض بداية لفتن صفّين والنهروان ، وثمّ تولّي معاوية على رقاب المسلمين ، ثمّ واقعة كربلاء ، وما جرى على المسلمين إلى يومنا هذا ؟ التي يعدّها البعض نتيجة حتمية لضعف العرب والمسلمين بسبب الفتن التي أشعلها الأوائل بوجه الخلافة العلوية .
ولا نريد أن نشير هنا إلى قول النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي رواه مسلم عن ابن عمر قال : خرج رسول الله من بيت عائشة فقال : " رأس الكفر من هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان " (3) ، بل جاء في صحيح البخاري عن عبد الله قال : قام النبيّ (صلى الله عليه وآله) خطيباً ، فأشار نحو مسكن عائشة فقال : " هاهنا الفتنة ، هاهنا الفتنة ، هاهنا الفتنة ، من حيث يطلع قرن الشيطان " (4) .
____________
1- شرح نهج البلاغة 1 / 233 .
2- الأحزاب : 33 .
3- صحيح مسلم 8 / 181 .
4- صحيح البخاري 4 / 46 .
|
الصفحة 263 |
|
( ميسون رضا . لبنان . 23 سنة . دراسة ماجستير في العلوم الإلهية )
بحث مفصّل للعلاّمة الطباطبائي حوله :
السؤال : فكرة موجزة عن عالم الذرّ : أهم العلماء الذين يؤيّدون هذه النظرية ، بعض المصادر التي تناولت هذا الأمر من خلال أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) .
الجواب : ننقل لك ما قاله العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) حول الموضوع :
قولـه تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ... } (1) .
أخذ الشيء من الشيء يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه ، واستقلاله دونه بنحو من الأنحاء ، وهو يختلف باختلاف العنايات المتعلّقة بها ، والاعتبارات المأخوذة فيها ، كأخذ اللقمة من الطعام ، وأخذ الجرعة من ماء القدح ، وهو نوع من الأخذ ، وأخذ المال والأثاث من زيد الغاصب ، أو الجواد أو البائع أو المعير ، وهو نوع آخر ، أو أنواع مختلفة أُخرى ، وكأخذ العلم من العالم ، وأخذ الأهبة من المجلس ، وأخذ الحظّ من لقاء الصديق وهو نوع ، وأخذ الولد من والده للتربية ، وهو نوع إلى غير ذلك .
فمجرد ذكر الأخذ من الشيء لا يوضّح نوعه إلاّ ببيان زائد ، ولذلك أضاف الله سبحانه إلى قولـه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ } الدال على تفريقهم وتفصيل بعضهم من بعض .
____________
1- الأعراف : 172 .
|
الصفحة 264 |
|
قولـه : { مِن ظُهُورِهِمْ } ليدلّ على نوع الفصل والأخذ ، وهو أخذ بعض المادّة منها ، بحيث لا تنقص المادّة المأخوذ منها بحسب صورتها ، ولا تنقلب عن تمامها واستقلالها ، ثمّ تكميل الجزء المأخوذ شيئاً تامّاً مستقلاً من نوع المأخوذ منه ، فيؤخذ الولد من ظهر من يلده ويولده ، وقد كان جزء ، ثمّ يجعل بعد الأخذ والفصل إنساناً تامّاً مستقلاً من والديه ، بعدما كان جزء منهما .
ثمّ يؤخذ من ظهر هذا المأخوذ مأخوذ آخر ، وعلى هذه الوتيرة حتّى يتمّ الأخذ ، وينفصل كُلّ جزء عمّا كان جزء منه ، ويتفرّق الأناسي وينتشر الأفراد ، وقد استقلّ كُلّ منهم عمّن سواه ، ويكون لكُلّ واحد منهم نفس مستقلة لها ما لها ، وعليها ما عليها ، فهذا مفاد قولـه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } ، ولو قال : أخذ ربّك من بني آدم ذرّيتهم أو نشرهم ونحو ذلك ، بقي المعنى على إبهامه .
وقولـه : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } ينبأ عن فعل آخر إلهي تعلّق بهم ، بعد ما أخذ بعضهم من بعض ، وفصل بين كُلّ واحد منهم وغيره ، وهو إشهادهم على أنفسهم ، والإشهاد على الشيء هو إحضار الشاهد عنده ، وإراءته حقيقته ، ليتحمّله علماً تحمّلاً شهودياً ، فإشهادهم على أنفسهم ، هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ، ليتحمّلوا ما أُريد تحمّلهم من أمرها ، ثمّ يؤدّوا ما تحمّلوه إذا سئلوا .
وللنفس في كُلّ ذي نفس جهات من التعلّق والارتباط بغيرها ، يمكن أن يستشهد الإنسان على بعضها دون بعض ، غير أنّ قولـه : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } يوضّح ما أشهدوا لأجله ، وأُريد شهادتهم عليه ، وهو أن يشهدوا ربوبيته سبحانه لهم ، فيؤدّوها عند المسألة .
فالإنسان وإن بلغ من الكبر والخيلاء ما بلغ ، وغرّته مساعدة الأسباب ما غرّته ، واستهوته لا يسعه أن ينكر أنّه لا يملك وجود نفسه ، ولا يستقلّ بتدبير أمره ، ولو ملك نفسه لوقّاها ممّا يكرهه من الموت ، وسائر آلام الحياة
|
الصفحة 265 |
|
ومصائبها ، ولو استقلّ بتدبير أمره لم يفتقر إلى الخضوع قبال الأسباب الكونية ، والوسائل التي يرى لنفسه أنّه يسودها ويحكم فيها ، ثمّ هي كالإنسان في الحاجة إلى ما وراءها ، والانقياد إلى حاكم غائب عنها ، يحكم فيها لها أو عليها ، وليس إلى الإنسان أن يسدّ خلّتها ويرفع حاجتها .
فالحاجة إلى ربّ ـ مالك مدبّر ـ حقيقة الإنسان ، والفقر مكتوب على نفسه ، والضعف مطبوع على ناصيته ، لا يخفى ذلك على إنسان لـه أدنى الشعور الإنساني ، والعالم والجاهل ، والصغير والكبير ، والشريف والوضيع في ذلك سواء .
فالإنسان في أيّ منزل من منازل الإنسانية نزل ، يشاهد من نفسه أنّ لـه ربّاً يملكه ويدبّر أمره ، وكيف لا يشاهد ربّه وهو يشاهد حاجته الذاتية ؟ وكيف يتصوّر وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه ؟
فقولـه : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } بيان ما أشهد عليه ، وقولـه : { قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا } اعتراف منهم بوقوع الشهادة وما شهدوه ، ولذا قيل : إنّ الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا ، أنّه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده ، وما يتعلّق به وجوده من اللوازم والأحكام ، ومعنى الآية إنّا خلقنا بني آدم في الأرض ، وفرّقناهم وميّزنا بعضهم من بعض بالتناسل والتوالد ، وأوفقناهم على احتياجهم ، ومربوبيتهم لنا ، فاعترفوا بذلك قائلين : بلى شهدنا أنّك ربّنا .
وعلى هذا يكون قولهم : { بَلَى شَهِدْنَا } من قبيل القول بلسان الحال ، أو إسناد اللازم القول إلى القائل بالملزوم ، حيث اعترفوا بحاجاتهم ، ولزمه الاعتراف بمن يحتاجون إليه ، والفرق بين لسان الحال ، والقول بلازم القول :
أنّ الأوّل انكشاف المعنى عن الشيء لدلالة صفة من صفاته ، وحال من أحواله عليه ، سواء شعر به أم لا ، كما تفصح آثار الديار الخربة عن حال ساكنيها ، وكيف لعب الدهر بهم ؟ وعدت عادية الأيّام عليهم ؟ فأسكنت
|
الصفحة 266 |
|
أجراسهم وأخمدت أنفاسهم ، وكما يتكلّم سيماء البائس المسكين عن فقره ومسكنته وسوء حاله .
والثاني انكشاف المعنى عن القائل ، لقولـه بما يستلزمه أو تكلّمه بما يدلّ عليه بالالتزام .
فعلى أحد هذين النوعين من القول ، أعني القول بلسان الحال ، والقول بالاستلزام يحمل اعترافهم المحكي بقولـه تعالى : { قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا } ، والأوّل أقرب وأنسب ، فإنّه لا يكتفي في مقام الشهادة إلاّ بالصريح منها المدلول عليه بالمطابقة دون الالتزام .
ومن المعلوم : أنّ هذه الشهادة على أيّ نحو تحقّقت فهي من سنخ الاستشهاد المذكور في قولـه : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } ، فالظاهر أنّه قد استوفى الجواب بعين اللسان الذي سألهم به ، ولذلك كان هناك نحو ثالث يمكن أن يحمل عليه هذه المساءلة والمجاوبة ، فإنّ الكلام الإلهي يكشف به عن المقاصد الإلهية بالفعل ، والإيجاد كلام حقيقي ـ وإن كان بنحو التحليل ـ كما تقدّم مراراً في مباحثنا السابقة ، فليكن هنا قولـه : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } وقولهم : { بَلَى شَهِدْنَا } من ذاك القبيل ، وسيجيء للكلام تتمّة .
وكيف كان فقولـه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ } الآية ، يدلّ على تفصيل بني آدم بعضهم من بعض ، وإشهاد كُلّ واحد منهم على نفسه ، وأخذ الاعتراف على الربوبية منه ، ويدلّ ذيل الآية وما يتلوه أعنّي قولـه : { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } (1) على الغرض من هذا الأخذ والإشهاد .
____________
1- الأعراف : 172 ـ 173 .
|
الصفحة 267 |
|
وهو على ما يفيده السياق إبطال حجّتين للعباد على الله ، وبيان أنّه لولا هذا الأخذ والإشهاد ، وأخذ الميثاق على انحصار الربوبية ، كان للعباد أن يتمسّكوا يوم القيامة بإحدى حجّتين ، يدفعون بها تمام الحجّة عليهم في شركهم بالله ، والقضاء بالنار على ذلك من الله سبحانه .
والتدبّر في الآيتين ، وقد عطفت إحدى الحجّتين على الأُخرى بأو الترديدية ، وبنيت الحجّتان جميعاً على العلم اللازم للإشهاد ، ونقلتا جميعاً عن بني آدم المأخوذين المفرقين يعطي أنّ الحجّتين كُلّ واحدة منهما مبنية على تقدير من تقديري عدم الإشهاد كذلك .
والمراد أنّا أخذنا ذرّيتهم من ظهورهم ، وأشهدناهم على أنفسهم فاعترفوا بربوبيتنا ، فتمّت لنا الحجّة عليهم يوم القيامة ، ولو لم نفعل هذا ولم نشهد كُلّ فرد منهم على نفسه بعد أخذه ، فإنّ كنّا أهملنا الإشهاد من رأس فلم يشهد أحد نفسه ، وأنّ الله ربّه ، ولم يعلم به لأقاموا جميعاً الحجّة علينا يوم القيامة ، بأنّهم كانوا غافلين في الدنيا عن ربوبيتنا ، ولا تكليف على غافل ولا مؤاخذة ، وهو قولـه تعالى : { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } .
وإن كنّا لم نهمل أمر الإشهاد من رأس ، وأشهدنا بعضهم على أنفسهم دون بعض ، بأن أشهدنا الآباء على هذا الأمر الهام العظيم دون ذرّياتهم ، ثمّ أشرك الجميع كان شرك الآباء شركاً عن علم ، بأنّ الله هو الربّ لا ربّ غيره ، فكانت معصية منهم .
وأمّا الذرّية فإنّما كان شركهم بمجرد التقليد فيما لا سبيل لهم إلى العلم به لا إجمالاً ولا تفصيلاً ، ومتابعة عملية محضة لآبائهم فكان آباؤهم هم المشركون بالله ، العاصون في شركهم لعلمهم بحقيقة الأمر ، وقد قادوا ذرّيتهم الضعاف في سبيل شركهم بتربيتهم عليه وتلقينهم ذلك ، ولا سبيل لهم إلى العلم بحقيقة الأمر ، وإدراك ضلال آبائهم وإضلالهم إيّاهم ، فكانت الحجّة لهؤلاء الذرّية
|
الصفحة 268 |
|
على الله يوم القيامة ، لأنّ الذين أشركوا وعصوا بذلك ، وأبطلوا الحقّ هم الآباء ، فهم المستحقّين للمؤاخذة ، والفعل فعلهم .
وأمّا الذرّية فلم يعرفوا حقّاً حتّى يؤمروا به فيعصوا بمخالفته ، فهم لم يعصوا شيئاً ، ولم يبطلوا حقّاً ، وحينئذ لم تتمّ حجّة على الذرّية ، فلم تتمّ الحجّة على جميع بني آدم ، وهذا معنى قولـه تعالى : { أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } .
فإن قلت : هنا بعض تقادير أُخر لا يفي به البيان السابق ، كما لو فرض إشهاد الذرّية على أنفسهم دون الآباء مثلاً ، أو إشهاد بعض الذرّية مثلاً ، كما أنّ تكامل النوع الإنساني في العلم والحضارة على هذه الوتيرة ، يرث كُلّ جيل ما تركه الجيل السابق ، ويزيد عليه بأشياء ، فيحصل للاحق ما لم يحصل للسابق .
قلت : على أحد التقديرين المذكورين تتمّ الحجّة على الذرّية ، أو على بعضهم الذين أشهدوا .
وأمّا الآباء الذين لم يشهدوا فليس عندهم إلاّ الغفلة المحضة عن أمر الربوبية ، فلا يستقلّون بشرك إذ لم يشهدوا ، ولا يسع لهم التقليد إذ لم يسبق عليهم فيه سابق كما في صورة العكس ، فيدخلون تحت المحتجّين بالحجّة الأُولى : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } .
وأمّا حديث تكامل الإنسان في العلم والحضارة تدريجاً ، فإنّما هو في العلوم النظرية الاكتسابية التي هي نتائج وفروع تحصل للإنسان شيئاً فشيئاً ، وأمّا شهود الإنسان نفسه ، وأنّه محتاج إلى ربّ يربّه ، فهو من مواد العلم التي إنّما تحصل قبل النتائج ، وهو من العلوم الفطرية التي تنطبع في النفس انطباعاً أوّلياً ، ثمّ يتفرّع عليها الفروع ، وما هذا شأنه لا يتأخّر عن غيره حصولاً ، وكيف لا ، ونوع الإنسان إنّما يتدرّج إلى معارفه وعلومه عن الحسّ الباطني بالحاجة كما قرّر في محلّه .
|
الصفحة 269 |
|
فالمتحصّل من الآيتين : أنّ الله سبحانه فصل بين بني آدم بأخذ بعضهم من بعض ، ثمّ أشهدهم جميعاً على أنفسهم ، وأخذ منهم الميثاق بربوبيته ، فهم ليسوا بغافلين عن هذا المشهد ، وما أخذ منهم الميثاق حتّى يحتجّ كُلّهم بأنّهم كانوا غافلين عن ذلك ، لعدم معرفتهم بالربوبية ، أو يحتجّ بعضهم بأنّه إنّما أشرك وعصى آباؤهم وهم برآء .
ولذلك ذكر عدّة من المفسّرين : أنّ المراد بهذا الظرف المشار إليه بقولـه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } هو الدنيا ، والآيتان تشيران إلى سنّة الخلقة الإلهية الجارية على الإنسان في الدنيا ، فإنّ الله سبحانه يخرج الذرّية الإنسانية من أصلاب آبائهم إلى أرحام أُمّهاتهم ، ومنها إلى الدنيا ، ويشهدهم في خلال حياتهم على أنفسهم ، ويريهم آثار صنعه ، وآيات وحدانيته ، ووجوه احتياجاتهم المستغرقة لهم من كُلّ جهة ، الدالّة على وجوده ووحدانيته ، فكأنّه يقول لهم عند ذلك : ألست بربّكم ، وهم يجيبونه بلسان حالهم : بلى شهدنا بذلك ، وأنت ربّنا لا ربّ غيرك ، وإنّما فعل الله سبحانه ذلك لئلا يحتجّوا على الله يوم القيامة ، بأنّهم كانوا غافلين عن المعرفة ، أو يحتجّ الذرّية بأنّ آباءهم هم الذين أشركوا ، وأمّا الذرّية فلم يكونوا عارفين بها ، وإنّما هم ذرّية من بعدهم نشئوا على شركهم من غير ذنب .
وقد طرح القوم عدّة من الروايات تدلّ على أنّ الآيتين تدلاّن على عالم الذرّ ، وأنّ الله أخرج ذرّية آدم من ظهره ، فخرجوا كالذرّ فأشهدهم على أنفسهم وعرّفهم نفسه ، وأخذ منهم الميثاق على ربوبيته ، فتمّت بذلك الحجّة عليهم يوم القيامة .
وقد ذكروا وجوها في إبطال دلالة الآيتين عليه ، وطرح الروايات بمخالفتها لظاهر الكتاب :
1ـ إنّه لا يخلو إمّا أن جعل الله هذه الذرّية المستخرجة من صلب آدم عقلاء ، أو لم يجعلهم كذلك ، فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصحّ أن يعرفوا التوحيد ،
|
الصفحة 270 |
|
وأن يفهموا خطاب الله تعالى ، وإن جعلهم عقلاء وأخذ منهم الميثاق ، وبنى صحّة التكليف على ذلك ، وجب أن يذكروا ذلك ولا ينسوه ، لأنّ أخذ الميثاق إنّما تتمّ الحجّة به على المأخوذ منه ، إذا كان على ذكر منه من غير نسيان ، كما ينصّ عليه قولـه تعالى : { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } ، ونحن لا نذكر وراء ما نحن عليه من الخلقة الدنيوية الحاضرة شيئاً ، فليس المراد بالآية إلاّ موقف الإنسان في الدنيا ، وما يشاهده فيه من حاجته إلى ربّ يملكه ويدبّر أمره ، وهو ربّ كُلّ شيء .
2ـ إنّه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير ، والجمّ الغفير من العقلاء أمراً قد كانوا عرفوه وميّزوه ، حتّى لا يذكره ولا واحد منهم ، وليس العهد به بأطول من عهد أهل الجنّة بحوادث مضت عليهم في الدنيا ، وهم يذكرون ما وقع عليهم في الدنيا ، كما يحكيه تعالى في مواضع من كلامه كقولـه : { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } (1) إلى آخر الآيات .
وقد حكى نظير ذلك من أهل النار كقولـه : { وَقَالُوا مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ } (2) إلى غير ذلك من الآيات .
ولو جاز النسيان على هؤلاء الجماعة مع هذه الكثرة ، لجاز أن يكون الله سبحانه قد كلّف خلقه فيما مضى من الزمن ، ثمّ أعادهم ليثيبهم ، أو ليعاقبهم جزاء لأعمالهم في الخلق الأوّل ، وقد نسوا ذلك ، ولازم ذلك صحّة قول التناسخية : أنّ المعاد إنّما هو خروج النفس عن بدنها ، ثمّ دخولها في بدن آخر ، لتجد في الثاني جزاء الأعمال التي عملتها في الأوّل .
3ـ ما أورد على الأخبار الناطقة بأنّ الله سبحانه أخذ من صلب آدم ذرّيته ، وأخذ منهم الميثاق ، بأنّ الله سبحانه قال : { أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَم } ولم يقل
____________
1- الصافات : 51 .
2- ص : 61 .
|
الصفحة 271 |
|
من آدم ، وقال : { مِن ظُهُورِهِمْ } ولم يقل من ظهره ، وقال : { ذُرِّيَّتَهُمْ } ولم يقل : ذرّيته ، ثمّ أخبر بأنّه إنّما فعل بهم ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } ، أو يقولوا : { إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } الآية ، وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون ، فلا يتناول ظاهر الآية أولاد آدم لصلبه .
ومن هنا قال بعضهم : إنّ الآية خاصّة ببعض بني آدم غير عامّة لجميعهم ، فإنّها لا تشمل آدم وولده لصلبه ، وجميع المؤمنين ، ومن المشركين من ليس لـه آباء مشركون ، بل تختصّ بالمشركين الذين لهم سلف مشرك .
4ـ إنّ تفسير الآية بعالم الذرّ ينافي قولهم ـ كما في الآية ـ { إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } لدلالته على وجود آباء لهم مشركين ، وهو ينافي وجود الجميع هناك بوجود واحد جمعي .
5ـ ما ذكره بعضهم : أنّ الروايات مقبولة مسلّمة ، غير أنّها ليست بتأويل للآية ، والذي تقصّه من حديث عالم الذرّ ، إنّما هو أمر فعله الله سبحانه ببني آدم قبل وجودهم في هذه النشأة ، ليجروا بذلك على الأعراق الكريمة في معرفة ربوبيته ، كما روي : أنّهم ولدوا على الفطرة ، وكما قيل : إنّ نعيم الأطفال في الجنّة ثواب إيمانهم بالله في عالم الذرّ .
وأمّا الآية فليست تشير إلى ما تشير إليه الروايات ، فإنّ الآية تذكر أنّه إنّما فعل بهم ذلك لتنقطع به حجّتهم يوم القيامة ، { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } ، ولو كان المراد به ما فعل بهم في عالم الذرّ لكان لهم أن يحتجّوا على الله ، فيقولوا : ربّنا إنّك أشهدتنا على أنفسنا يوم أخرجتنا من صلب آدم ، فكنّا على يقين بأنّك ربّنا ، كما أنا اليوم ـ وهو يوم القيامة ـ على يقين من ذلك ، لكنّك أنسيتنا موقف الإشهاد في الدنيا ، التي هي موطن التكليف والعمل ، ووكلتنا إلى عقولنا ، فعرف ربوبيتك من عرفها بعقله ، وأنكرها من أنكرها بعقله ، كُلّ
|
الصفحة 272 |
|
ذلك بالاستدلال ، فما ذنبنا في ذلك ؟ وقد نزعت منّا عين المشاهدة ، وجهّزتنا بجهاز شأنه الاستدلال ، وهو يخطئ ويصيب ؟
6ـ إنّ الآية لا صراحة لها فيما تدلّ عليه الروايات ، لإمكان حملها على التمثيل ، وأمّا الروايات فهي إمّا مرفوعة أو موقوفة ، ولا حجّية فيها .
هذه جمل ما أوردوه على دلالة الآية ، وحجّية الروايات ، وقد زيّفها المثبتون لنشأة الذرّ ، وهم عامّة أهل الحديث ، وجمع من غيرهم من المفسّرين بأجوبة :
فالجواب عن الأوّل : إنّ نسيان الموقف وخصوصياته لا يضرّ بتمام الحجّة ، وإنّما المضرّ نسيان أصل الميثاق ، وزوال معرفة وحدانية الربّ تعالى : وهو غير منسي ، ولا زائل عن النفس ، وذلك يكفي في تمام الحجّة ، ألا ترى أنّك إذا أردت أن تأخذ ميثاقاً من زيد فدعوته إليك ، وأدخلته بيتك ، وأجلسته مجلس الكرامة ، ثمّ بشّرته وأنذرته ما استطعت ، ولم تزل به حتّى أرضيته ، فأعطاك العهد ، وأخذت منه الميثاق ، فهو مأخوذ بميثاقه ما دام ذاكراً لأصله ، وإن نسي حضوره عندك ، ودخوله بيتك وجميع ما جرى بينك وبينه وقت أخذ الميثاق غير أصل العهد .
والجواب عن الثاني : إنّ الامتناع من تجويز نسيان الجمع الكثير لذلك ، مجرد استبعاد من غير دليل على الامتناع ، مضافاً إلى أنّ أصل المعرفة بالربوبية مذكور غير منسي كما ذكرنا ، وهو يكفي في تمام الحجّة ، وأمّا حديث التناسخية فليس الدليل على امتناع التناسخ منحصراً في استحالة نسيان الجماعة الكثيرة ، ما مضى عليهم في الخلق الأوّل ، حتّى لو لم يستحلّ ذلك صحّ القول بالتناسخ ، بل لإبطال القول به دليل آخر ، كما يعلم بالرجوع إلى محلّه ، وبالجملة : لا دليل على استحالة نسيان بعض العوالم في بعض آخر .
والجواب عن الثالث : إنّ الآية غير ساكتة عن إخراج ولد آدم لصلبه من صلبه ، فإنّ قولـه تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَم } كاف وحده في الدلالة
|
الصفحة 273 |
|
عليه ، فإنّ فرض بني آدم فرض إخراجهم من صلب آدم من غير حاجة إلى مؤنة زائدة ، ثمّ إخراج ذرّيتهم من ظهورهم بإخراج أولاد الأولاد من صلب الأولاد ، وهكذا ، ويتحصّل منه أنّ الله أخرج أولاد آدم لصلبه من صلبه ، ثمّ أولادهم من أصلابهم ، ثمّ أولاد أولادهم من أصلاب أولادهم ، حتّى ينتهي إلى آخرهم ، نظير ما يجري عليه الأمر في هذه النشأة الدنيوية التي هي نشأة التوالد والتناسل .
وقد أجاب الرازي عنه في تفسيره ، بأنّ الدلالة على إخراج أولاده لصلبه من صلبه من ناحية الخبر ، كما أنّ الدلالة على إخراج أولاد أولاده من أصلاب آبائهم من ناحية الآية ، فبمجموع الآية والخبر تتمّ الدلالة على المجموع ، وهو كما ترى .
وأمّا الأخبار المشتملة على ذكر إخراج ذرّية آدم من صلبه ، وأخذ الميثاق منهم ، فهي في مقام شرح القصّة ، لا في مقام تفسير ألفاظ الآية ، حتّى يورد عليها بعدم موافقة الكتاب أو مخالفته .
وأمّا عدم شمول الآية لأولاد آدم من صلبه ، لعدم وجود آباء مشركين لهم ، وكذا بعض من عداهم فلا يضرّ شيئاً ، لأنّ مراد الآية أنّ الله سبحانه إنّما فعل ذلك لئلا يقول المشركون يوم القيامة : إنّما أشرك آباؤنا ، لا أن يقول كُلّ واحد واحد منهم : إنّما أشرك آبائي فهذا ممّا لم يتعلّق به الغرض البتة ، فالقول قول المجموع من حيث المجموع ، لا قول كُلّ واحد فيئوّل المعنى إلى أنّا لو لم نفعل ذلك لكان كُلّ من أردنا إهلاكه يوم القيامة يقول : لم أشرك أنا ، وإنّما أشرك من كان قبلي ، ولم أكن إلاّ ذرّية وتابعاً لا متبوعاً .
والجواب عن الرابع : يظهر من الجواب عن سابقه ، وقد دلّت الآية والرواية على أنّ الله فصل هناك بين الآباء والأبناء ، ثمّ ردّهم إلى حال الجمع .
|
الصفحة 274 |
|
والجواب عن الخامس : إنّه خلاف ظاهر بعض الروايات ، وخلاف صريح بعض آخر منها ، وما في ذيله من عدم تمام الحجّة من جهة عروض النسيان ظهر الجواب عنه من الجواب عن الإشكال الأوّل .
والجواب عن السادس : إنّ استقرار الظهور في الكلام كاف في حجّيته ، ولا يتوقّف ذلك على صفة الصراحة ، وإمكان الحمل على التمثيل لا يوجب الحمل عليه ما لم يتحقّق هناك مانع عن حمله على ظاهره ، وقد تبيّن أن لا مانع من ذلك .
وأمّا أنّ الروايات ضعيفة لا معوّل عليها فليس كذلك ، فإنّ فيها ما هو الصحيح ، وفيها ما يوثق بصدوره ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى في البحث الروائي التالي .
هذا ملخّص ما جرى بينهم من البحث في ما استفيد من الآية من حديث عالم الذرّ إثباتاً ونفياً ، واعتراضاً وجواباً ، واستيفاء التدبّر في الآية والروايات ، والتأمّل فيما يرومه المثبتون بإثباتهم ، ويدفعه المنكرون بإنكارهم يوجب توجيه البحث إلى جهة أُخرى غير ما تشاجر فيه الفريقان بإثباتهم ونفيهم .
فالذي فهمه المثبتون من الرواية ، ثمّ حملوه على الآية ، وانتهضوا لإثباته محصّله : أنّ الله سبحانه بعد ما خلق آدم إنساناً تامّاً سوياً أخرج نطفة التي تكوّنت في صلبه ـ ثمّ صارت هي بعينها أولاده الصلبيين ـ إلى الخارج من صلبه ، ثمّ أخرج من هذه النطف نطفها التي ستتكون أولاداً لـه صلبيين ففصل بين أجزائها ، والأجزاء الأصلية التي اشتقّت منها ، ثمّ من أجزاء هذه النطف أجزاء أُخرى ، هي نطفها ، ثمّ من أجزاء الأجزاء أجزاءها ، ولم يزل حتّى أتى آخر جزء مشتق من الأجزاء المتعاقبة في التجزّي .
وبعبارة أُخرى : أخرج نطفة آدم التي هي مادّة البشر ، ووزّعها بفصل بعض أجزائه من بعض إلى ما لا يحصى من عدد بني آدم ، بحذاء كُلّ فرد ما هو نصيبه من أجزاء نطفة آدم ، وهي ذرّات منبثّة غير محصورة .
|
الصفحة 275 |
|
ثمّ جعل الله سبحانه هذه الذرّات المنبثّة عند ذلك ـ أو كان قد جعلها قبل ذلك كُلّ ذرّة منها إنساناً تامّاً في إنسانيته ، هو بعينه الإنسان الدنيوي الذي هو جزء المقدّم لـه ، فالجزء الذي لزيد هناك هو زيد هذا بعينه ، والذي لعمرو هو عمرو هذا بعينه ، فجعلهم ذوي حياة وعقل ، وجعل لهم ما يسمعون به ، وما يتكلّمون به ، وما يضمرون به معاني فيظهرونها أو يكتمونها ، وعند ذلك عرّفهم نفسه فخاطبهم فأجابوه ، وأعطوه الإقرار بالربوبية ، إمّا بموافقة ما في ضميرهم لما في لسانهم أو بمخالفته ذلك .
ثمّ إنّ الله سبحانه ردّهم بعد أخذ الميثاق إلى مواطنهم من الأصلاب ، حتّى اجتمعوا في صلب آدم ، وهي على حياتها ، ومعرفتها بالربوبية ، وإن نسوا ما وراء ذلك ممّا شاهدوه عند الإشهاد وأخذ الميثاق ، وهم بأعيانهم موجودون في الأصلاب حتّى يؤذن لهم في الخروج إلى الدنيا فيخرجون ، وعندهم ما حصلوه في الخلق الأوّل من معرفة الربوبية ، وهي حكمهم بوجود ربّ لهم من مشاهدة أنفسهم محتاجة إلى من يملكهم ويدبّر أمرهم .
هذا ما يفهمه القوم من الخبر والآية ويرومون إثباته ، وهو ممّا يدفعه الضرورة ، وينفيه القرآن والحديث بلا ريب ، وكيف الطريق إلى إثبات أنّ ذرّة من ذرّات بدن زيد ـ وهو الجزء الذرّي الذي انتقل من صلب آدم من طريق نطفته إلى ابنه ، ثمّ إلى ابن ابنه ، حتّى انتهى إلى زيد ـ هو زيد بعينه ، وله إدراك زيد وعقله وضميره ، وسمعه وبصره ، وهو الذي يتوجّه إليه التكليف ، وتتمّ لـه الحجّة ، ويحمل عليه العهود والمواثيق ، ويقع عليه الثواب والعقاب ؟ وقد صحّ بالحجّة القاطعة من طريق العقل والنقل أنّ إنسانية الإنسان بنفسه ، التي هي أمر وراء المادّة حادث بحدوث هذا البدن الدنيوي ، وقد تقدّم شطر من البحث فيها .
على أنّه قد ثبت بالبحث القطعي أنّ هذه العلوم التصديقية البديهية والنظرية منها التصديق بأنّ لـه ربّاً يملكه ويدبّر أمره ، تحصل للإنسان بعد حصول
|
الصفحة 276 |
|
والتطوّرات ، والجميع تنتهي إلى الاحساسات الظاهرة والباطنة ، وهي تتوقّف على وجود التركيب الدنيوي المادّي ، فهو حال العلوم الحصولية التي منها التصديق ، بأنّ لـه ربّاً هو القائم برفع حاجته .
على أنّ هذه الحجّة إن كانت متوقّفة في تمامها على العقل والمعرفة معاً ، فالعقل مسلوب عن الذرّة حين أرجعت إلى موطنه الصلبي ، حتّى تظهر ثانياً في الدنيا ، وإن قيل إنّه لم يسلب عنها ما تجري في الأصلاب والأرحام ، فهو مسلوب عن الإنسان ما بين ولادته وبلوغه ، أعني أيّام الطفولية .
ويختل بذلك أمر الحجّة على الإنسان ، وإن كانت غير متوقّفة عليه ، بل يكفي في تمامها مجرد حصول المعرفة ، فأيّ حاجة إلى الإشهاد وأخذ الميثاق ، وظاهر الآية أنّ الإشهاد وأخذ الميثاق إنّما هما لأجل إتمام الحجّة ، فلا محالة يرجع معنى الآية إلى حصول المعرفة ، فيئول المعنى إلى ما فسّرها به المنكرون .
وبتقرير آخر : إن كانت الحجّة إنّما تتمّ بمجموع الإشهاد ، والتعريف وأخذ الميثاق سقطت بنسيان البعض ، وقد نسي الإشهاد والتكليم وأخذ الميثاق ، وإن كان الإشهاد وأخذ الميثاق جميعاً مقدّمة لثبوت المعرفة ، ثمّ زالت المقدّمة ولزمت المعرفة ، وبها تمام الحجّة تمّت الحجّة على كُلّ إنسان حتّى الجنين والطفل والمعتوه والجاهل ، ولا يساعد عليه عقل ولا نقل .
وإن كانت المعرفة في تمام الحجّة بها متوقّفة على حصول العقل والبلوغ ونحو ذلك ، وقد كانت حصلت في عالم الذرّ فتمّت الحجّة ، ثمّ زالت وبقيت المعرفة حجّة ناقصة ، ثمّ كملت ثانياً لبعضهم في الدنيا فتمّت الحجّة ثانياً بالنسبة إليهم ، فكما أنّ لحصول العقل في الدنيا أسباباً تكوينية يحصل بها ، وهي الحوادث المتكرّرة من الخير والشر ، وحصول الملكة المميّزة بينهما من التجارب حصولاً تدريجياً ، ينتهي من جانب إلى حدّ من الكمال ، ومن جانب إلى حدّ من الضعف لا يعبأ به ، كذلك المعرفة لها أسباب إعدادية تهيّأ الإنسان
|
الصفحة 277 |
|
إلى التلبّس بها ، وليست تحصل قبل ذلك ، وإذا كانت تحصل في ظرفنا هذا بأسبابها المعدّة لها كالعقل ، فأي حاجة إلى تكوينه تكويناً آخر في سالف من الزمان لإتمام الحجّة ، والحجّة تامّة دونه ؟ وماذا يغني ذلك ؟
على أنّ هذا العقل الذي لا تتمّ حجّة ، ولا ينفع إشهاد ، ولا يصحّ أخذ ميثاق بدونه حتّى في عالم الذرّ المفروض ، هو العقل العملي الذي لا يحصل للإنسان ، إلاّ في هذا الظرف الذي يعيش فيه عيشة اجتماعية ، فتتكرّر عليه حوادث الخير والشرّ ، وتهيج عواطفه واحساساته الباطنية نحو جلب النفع ودفع الضرر ، فتتعاقب عليه الأعمال عن علم وإرادة فيخطئ ويصيب حتّى يتدرّب في تمييز الصواب من الخطأ ، والخير من الشر ، والنفع من الضرّ ، والظرف الذي يثبتونه أعني ما يصفونه من عالم الذرّ ليس بموطن العقل العملي ، إذ ليس فيه شرائط حصوله وأسبابه .
ولو فرضوه موطناً لـه ، وفيه أسبابه وشرائطه ، كما يظهر ممّا يصفونه تعويلاً على ما في ظواهر الروايات ، أنّ الله دعاهم هناك إلى التوحيد ، فأجابه بعضهم بلسان يوافقه قلبه ، وأجابه آخرون وقد أضمروا الكفر ، وبعث إليهم الأنبياء والأوصياء فصدّقهم بعض ، وكذّبهم آخرون ، ولا يجري ما هاهنا إلاّ على ما جرى به ما هنالك إلى غير ذلك ممّا ذكروه ، كان ذلك إثباتاً لنشأة طبيعية قبل هذه النشأة الطبيعية في الدنيا ، نظير ما يثبته القائلون بالأدوار والأكوار ، واحتاج إلى تقديم كينونة ذرّية أُخرى ، تتمّ بها الحجّة على من هنالك من الإنسان ، لأنّ عالم الذرّ على هذه الصفة لا يفارق هذا العالم الحيوي الذي نحن فيه الآن ، فلو احتاج هذا الكون الدنيوي إلى تقديم إشهاد وتعريف حتّى يحصل المعرفة ، وتتمّ الحجّة لاحتاج إليه الكون الذرّي من غير فرق فارق البتة .
على أنّ الإنسان لو احتاج في تحقّق المعرفة في هذه النشأة الدنيوية إلى تقدّم وجود ذرّي يقع فيه الإشهاد ، ويوجد فيه الميثاق حتّى تثبت بذلك المعرفة
|
الصفحة 278 |
|
بالربوبية لم يكن في ذلك فرق بين إنسان وإنسان ، فما بال آدم وحوّاء استثنيا من هذه الكُلّية ؟ فإن لم يحتاجا إلى ذلك لفضل فيهما ، أو لكرامة لهما ففي ذرّيتهما من هو أفضل منهما وأكرم ! وإن كان لتمام خلقتهما يومئذ فأثبتت فيهما المعرفة من غير حاجة إلى إحضار الوجود الذرّي ، فلكُلّ من ذرّيتهما أيضاً خلقة تامّة في ظرفه الخاصّ به ، فلم لم يؤخّر إثبات المعرفة فيهم ، ولهم إلى تمام خلقتهم بالولادة حتّى تتمّ عند ذلك الحجّة ؟ وأيّ حاجة إلى التقديم ؟
فهذه جهات من الإشكال في تحقّق الوجود الذرّي للإنسان على ما فهموه من الروايات لا طريق إلى حلّها بالأبحاث العلمية ، ولا حمل الآية عليه معها حتّى بناء على عادة القوم في تحميل المعنى على الآية إذا دلّت عليه الرواية ، وإن لم يساعد عليه لفظ الآية ، لأنّ الرواية القطعية الصدور كالآية مصونة عن أن تنطق بالمحال ، وأمّا الحشوية وبعض المحدّثين ممّن يبطل حجّة العقل الضرورية قبال الرواية ، ويتمسّك بالآحاد في المعارف اليقينية فلا بحث لنا معهم ، هذا ما على المثبتين .
بقي الكلام فيما ذكره النافون : أنّ الآية تشير إلى ما عليه حال الإنسان في هذه الحياة الدنيا ، وهو أنّ الله سبحانه أخرج كلاّ من آحاد الإنسان من الأصلاب والأرحام إلى مرحلة الانفصال والتفرّق ، وركب فيهم ما يعرفون به ربوبيته واحتياجهم إليه ، كأنّه قال لهم إذا وجّه وجوههم نحو أنفسهم المستغرقة في الحاجة : ألست بربّكم ؟ وكأنّهم لمّا سمعوا هذا الخطاب من لسان الحال قالوا : بلى أنت ربّنا شهدنا بذلك ، وإنّما فعل الله ذلك لتتمّ عليهم حجّته بالمعرفة ، وتنقطع حجّتهم عليه بعدم المعرفة ، وهذا ميثاق مأخوذ منهم طول الدنيا جار ما جرى الدهر ، والإنسان يجري معه .
والآية بسياقها لا تساعد عليه ، فإنّه تعالى افتتح الآية بقولـه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } الآية ، فعبّر عن ظرف هذه القضية بإذ ، وهو يدلّ على الزمن الماضي ، أو على أيّ ظرف محقّق الوقوع نحوه ، كما في قولـه : { وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا
|
الصفحة 279 |
|
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ـ إلى أن قال ـ قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } (1) فعبر بإذ عن ظرف مستقبل لتحقّق وقوعه .
وقولـه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) أو لـه ولغيره ، كما يدلّ عليه قولـه : { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الآية ، إن كان الخطاب متوجّهاً إلينا معاشر السامعين للآيات المخاطبين بها ، والخطاب خطاب دنيوي لنا معاشر أهل الدنيا ، والظرف الذي يتكي عليه هو زمن حياتنا في الدنيا ، أو زمن حياة النوع الإنساني فيها ، وعمره الذي هو طول إقامته في الأرض ، والقصّة التي يذكرها في الآية ظرفها عين ظرف وجود النوع في الدنيا ، فلا مصحّح للتعبير عن ظرفها بلفظة إذ الدالّة على تقدّم ظرف القصّة على ظرف الخطاب ، ولا عناية أُخرى في المقام تصحّح هذا التعبير من قبيل تحقّق الوقوع ونحوه ، وهو ظاهر .
فقولـه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } في عين أنّه يدلّ على قصّة خلقه تعالى النوع الإنساني بنحو التوليد ، وأخذ الفرد من الفرد ، وبثّ الكثير من القليل ، كما هو المشهود في نحو تكوّن الآحاد من الإنسان ، وحفظهم وجود النوع بوجود البعض من البعض على التعاقب ، يدلّ على أنّ للقصّة ـ وهي تنطبق على الحال المشهود ـ نوعاً من التقدّم على هذا المشهود ، من جريان الخلقة وسيرها .
وقد تقدّمت استحالة ما افترضوا لهذا التقدّم من تقدّم هذه الخلقة بنحو تقدّماً زمانياً ، بأن يأخذ الله أوّل فرد من هذا النوع ، فيأخذ منه مادّة النطفة التي منها نسل هذا النوع ، فيجزؤها أجزاء ذرّية بعدد أفراد النوع إلى يوم القيامة ، ثمّ يلبس وجود كُلّ فرد بعينه بحياته وعقله ، وسمعه وبصره ، وضميره وظهره وبطنه ، ويكسيه وجوده التي هي لـه قبل أن يسير مسيره الطبيعي فيشهده
____________
1- المائدة : 116 ـ 119 .
|
الصفحة 280 |
|
نفسه ، ويأخذ منه الميثاق ، ثمّ ينزعه منها ويردّها إلى مكانها الصلبي حتّى يسير سيره الطبيعي ، وينتهي إلى موطنها الذي لها من الدنيا ، فقد تقدّم بطلان ذلك ، وأنّ الآية أجنبية عنه .
لكن الذي أحال هذا المعنى هو استلزامه وجود الإنسان بما لـه من الشخصية الدنيوية مرّتين في الدنيا ، واحدة بعد أُخرى المستلزم لكون الشيء غير نفسه بتعدّد شخصيته ، فهو الأصل الذي تنتهي إليه جميع المشكلات السابقة .
وأمّا وجود الإنسان أو غيره في امتداد مسيره إلى الله ، ورجوعه إليه في عوالم مختلفة النظام ، متفاوتة الحكم فليس بمحال ، وهو ممّا يثبته القرآن الكريم ، ولو كره ذلك الكافرون ، الذين يقولون إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، وما يهلكنا إلاّ الدهر ، فقد أثبت الله الحياة الآخرة للإنسان وغيره يوم البعث ، وفيه هذا الإنسان بعينه ، وقد وصفه بنظام وأحكام غير هذه النشأة الدنيوية نظاماً وأحكاماً ، وقد أثبت حياة برزخية لهذا الإنسان بعينه ، وهي غير الحياة الدنيوية نظاماً وحكماً .
وأثبت بقولـه : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } (1) أنّ لكُلّ شيء عنده وجوداً وسيعاً غير مقدّر في خزائنه ، وإنّما يلحقه الأقدار إذا نزله إلى الدنيا مثلاً ، فللعالم الإنساني على سعته سابق وجود عنده تعالى في خزائنه أنزله إلى هذه النشأة .
وأثبت بقولـه : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لـه كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } (2) ، وقولـه : { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } (3) وما يشابههما من الآيات ، أنّ هذا الوجود التدريجي الذي
____________
1- الحجر : 21 .
2- ياسين : 82 ـ 83 .
3- القمر : 50 .
|
الصفحة 281 |
|
للأشياء ، ومنها الإنسان ، هو أمر من الله يفيضه على الشيء ، ويلقيه إليه بكلمة { كُنْ } إفاضة دفعية ، وإلقاء غير تدريجي ، فلوجود هذه الأشياء وجهان ، وجه إلى الدنيا ، وحكمه أن يحصل بالخروج من القوّة إلى الفعل تدريجا ، ومن العدم إلى الوجود شيئاً فشيئاً ، ويظهر ناقصاً ثمّ لا يزال يتكامل حتّى يفني ويرجع إلى ربّه ، ووجه إلى الله سبحانه ، وهي بحسب هذا الوجه أُمور تدريجية ، وكُلّ ما لها فهو لها في أوّل وجودها ، من غير أن تحتمل قوّة تسوّقها إلى الفعل .
وهذا الوجه غير الوجه السابق ، وإن كانا وجهين لشيء واحد ، وحكمه غير حكمه ، وإن كان تصوّره التامّ يحتاج إلى لطف قريحة ، وقد شرحناه في الأبحاث السابقة بعض الشرح ، وسيجيء إن شاء الله استيفاء الكلام في شرحه .
ومقتضى هذه الآيات : أنّ للعالم الإنساني على ما لـه من السعة وجوداً جميعاً عند الله سبحانه ، وهو الذي يلي جهته تعالى ، ويفيضه على أفراده لا يغيب فيها بعضهم عن بعض ، ولا يغيبون فيه عن ربّهم ، ولا هو يغيب عنهم ، وكيف يغيب فعل عن فاعله ، أو ينقطع صنع عن صانعه ، وهذا هو الذي يسمّيه الله سبحانه بالملكوت ، ويقول : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } (1) ، ويشير إليه بقولـه : { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } (2) .
وأمّا هذا الوجه الدنيوي الذي نشاهده نحن من العالم الإنساني ، وهو الذي يفرّق بين الآحاد ، ويشتّت الأحوال والأعمال بتوزيعها على قطعات الزمان ، وتطبيقها على مرّ الليالي والأيّام ، ويحجب الإنسان عن ربّه بصرف وجهه
____________
1- الأنعام : 75 .
2- ياسين : 82 .
|
الصفحة 282 |
|
إلى التمتعات المادّية الأرضية ، واللذائذ الحسّية ، فهو متفرّع على الوجه السابق متأخّر عنه ، وموقع تلك النشأة ، وهذه النشأة في تفرّعها عليها موقعاً كن فيكون في قولـه تعالى : { أَنْ نقول لـه كُنْ فَيَكُونُ } (1) .
ويتبيّن بذلك : أنّ هذه النشأة الإنسانية الدنيوية مسبوقة بنشأة أُخرى إنسانية هي هي بعينها ، غير أنّ الآحاد موجودون فيها غير محجوبين عن ربّهم ، يشاهدون فيها وحدانيته تعالى في الربوبية بمشاهدة أنفسهم ، لا من طريق الاستدلال ، بل لأنّهم لا ينقطعون عنه ولا يفقدونه ، ويعترفون به وبكُلّ حقّ من قبله ، وأمّا قذارة الشرك وألواث المعاصي فهو من أحكام هذه النشأة الدنيوية دون تلك النشأة ، التي ليس فيها إلاّ فعله تعالى القائم به ، فافهم ذلك .
وأنت إذا تدبّرت هذه الآيات ، ثمّ راجعت قولـه تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الآية ، وأجدت التدبّر فيها وجدتها تشير إلى تفصيل أمر تشير هذه الآيات إلى إجماله ، فهي تشير إلى نشأة إنسانية سابقة ، فرّق الله فيها بين أفراد هذا النوع ، وميّز بينهم { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا } .
ولا يرد عليه ما أورد على قول المثبتين في تفسير الآية على ما فهموه من معنى عالم الذرّ من الروايات على ما تقدّم ، فإنّ هذا المعنى المستفاد من سائر الآيات ، والنشأة السابقة التي تثبته لا تفارق هذه النشأة الإنسانية الدنيوية زماناً ، بل هي معها محيطة بها لكنّها سابقة عليها السبق ، الذي في قولـه تعالى : { كُنْ فَيَكُونُ } ، ولا يرد عليه شيء من المحاذير المذكورة .
ولا يرد عليه ما أوردناه على قول المنكرين في تفسيرهم الآية بحال وجود النوع الإنساني في هذه النشأة الدنيوية من مخالفته ، لقولـه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } ثمّ التجوّز في الإشهاد بإرادة التعريف منه ، وفي الخطاب بقولـه : { أَلَسْتَ
____________
1- التكاثر : 7 .
|
الصفحة 283 |
|
بِرَبِّكُمْ } بإرادة دلالة الحال ، وكذا في قولـه : { قَالُواْ بَلَى } ، وقولـه : { شَهِدْنَا } بل الظرف ظرف سابق على الدنيا وهو غيرها ، والإشهاد على حقيقته ، والخطاب على حقيقته .
ولا يرد عليه أنّه من قبيل تحميل الآية معنى لا تدلّ عليه ، فإنّ الآية لا تأبى عنه ، وسائر الآيات تشير إليه بضمّ بعضها إلى بعض .
وأمّا الروايات ، فسيأتي أنّ بعضها يدلّ على أصل تحقّق هذه النشأة الإنسانية كالآية ، وبعضها يذكر أنّ الله كشف لآدم (عليه السلام) عن هذه النشأة الإنسانية ، وأراه هذا العالم الذي هو ملكوت العالم الإنساني ، وما وقع فيه من الإشهاد وأخذ الميثاق ، كما أرى إبراهيم (عليه السلام) ملكوت السماوات والأرض .
رجعنا إلى الآية : قولـه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } أي واذكر لأهل الكتاب في تتميم البيان السابق ، أو واذكر للناس في بيان ما نزلت السورة لأجل بيانه ، وهو أنّ لله عهداً على الإنسان وهو سائله عنه ، وأنّ أكثر الناس لا يفون به ، وقد تمّت عليهم الحجّة .
اذكر لهم موطناً قبل الدنيا أخذ فيه ربّك { مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } فما من أحد منهم إلاّ استقلّ من غيره ، وتميّز منه فاجتمعوا هناك جميعاً ، وهم فرادى فأراهم ذواتهم المتعلّقة بربّهم { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } فلم يحتجبوا عنه ، وعاينوا أنّه ربّهم ، كما أنّ كُلّ شيء بفطرته يجد ربّه من نفسه من غير أن يحتجب عنه ، وهو ظاهر الآيات القرآنية كقولـه : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } (1) .
{ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } وهو خطاب حقيقي لهم لا بيان حال ، وتكليم إلهي لهم فإنّهم يفهمون ممّا يشاهدون أنّ الله سبحانه يريد به منهم الاعتراف ، وإعطاء
____________
1- الإسراء : 44 .
|
الصفحة 284 |
|
الموثق ، ولا نعني بالكلام إلاّ ما يلقى للدلالة به على معنى مراد ، وكذا الكلام في قولـه : { قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا } .
وقولـه : { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } الخطاب للمخاطبين بقولـه : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } القائلين : { بَلَى شَهِدْنَا } فهم هناك يعاينون الإشهاد ، والتكليم من الله ، والتكلّم بالاعتراف من أنفسهم ، وإن كانوا في نشأة الدنيا على غفلة ممّا عدا المعرفة بالاستدلال ، ثمّ إذا كان يوم البعث ، وانطوى بساط الدنيا ، وانمحت هذه الشواغل والحجب عادوا إلى مشاهدتهم ومعاينتهم ، وذكروا ما جرى بينهم وبين ربّهم .
ويحتمل أن يكون الخطاب راجعاً إلينا معاشر المخاطبين بالآيات ، أي إنّما فعلنا ببني آدم ذلك حذر أن تقولوا أيّها الناس يوم القيامة كذا وكذا ، والأوّل أقرب ، ويؤيّده قراءة : { أَن يقُولُواْ } بلفظ الغيبة .
وقولـه : { أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } هذه حجّة الناس إن فرض الإشهاد ، وأخذ الميثاق من الآباء خاصّة دون الذرّية ، كما أنّ قولـه : { أَن تَقُولُواْ } إلخ حجّة الناس إن ترك الجميع ، فلم يقع إشهاد ولا أخذ ميثاق من أحد منهم .
ومن المعلوم أن لو فرض ترك الإشهاد ، وأخذ الميثاق في تلك النشأة ، كان لازمه عدم تحقّق المعرفة بالربوبية في هذه النشأة ، إذ لا حجاب بينهم وبين ربّهم في تلك النشأة ، فلو فرض هناك علم منهم كان ذلك إشهاداً وأخذ ميثاق ، وأمّا هذه النشأة فالعلم فيها من وراء الحجاب ، وهو المعرفة من طريق الاستدلال .
فلو لم يقع هناك بالنسبة إلى الذرّية إشهاد وأخذ ميثاق ، كان لازمه في هذه النشأة ، أن لا يكون لهم سبيل إلى معرفة الربوبية فيها أصلاً ، وحينئذ لم يقع منهم معصية شرك ، بل كان ذلك فعل آبائهم ، وليس لهم إلاّ التبعية العملية
|
الصفحة 285 |
|
لآبائهم ، والنشوء على شركهم من غير علم ، فصحّ لهم أن يقولوا : إنّما أشرك آباؤنا من قبل ، وكنّا ذرّية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون .
قولـه تعالى : { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (1) ، تفصيل الآيات تفريق بعضها وتمييزه من بعض ، ليتبيّن بذلك مدلول كُلّ منها ، ولا تختلط وجود دلالتها ، وقولـه : { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عطف على مقدّر ، والتقدير : لغايات عالية كذا وكذا ، ولعلّهم يرجعون من الباطل إلى الحقّ .
بحث روائي :
في الكافي ، بإسناده عن زرارة عن حمران ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : " إنّ الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق ماء عذباً ، وماء مالحاً أجاجاً ، فامتزج الماءان ، فأخذ طيناً من أديم الأرض فعركه عركاً شديداً ، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذرّ يدبّون : إلى الجنّة ولا أُبالي ، وقال لأصحاب الشمال : إلى النار ولا أُبالي .
ثمّ قال : ألست بربّكم ؟ قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين " الحديث (2) .
وفيه ، بإسناده عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن قول الله عزّ وجلّ : { فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } (3) ما تلك الفطرة ؟ قال : " هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد قال : ألست بربّكم ؟ وفيه المؤمن والكافر " (4) .
وفي تفسير العيّاشي ، وخصائص السيّد الرضي ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن علي (عليه السلام) قال : أتاه ابن الكواء فقال : أخبرني يا أمير المؤمنين عن الله
____________
1- الأعراف : 174 .
2- الكافي 2 / 8 .
3- الروم : 30 .
4- الكافي 2 / 12 .
|
الصفحة 286 |
|
تبارك وتعالى ، هل كلّم أحداً من ولد آدم قبل موسى ؟ فقال علي (عليه السلام) : " قد كلّم الله جميع خلقه برّهم وفاجرهم ، وردّوا عليه الجواب " ، فثقل ذلك على ابن الكواء ولم يعرفه ، فقال لـه : كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين ؟
فقال لـه : " أو ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيّه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى } ، فقد أسمعهم كلامه ، وردّوا عليه الجواب ، كما تسمع في قول الله يا بن الكواء { قَالُواْ بَلَى } ، فقال لهم : إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا ، وأنا الرحمن الرحيم ، فأقرّوا لـه بالطاعة والربوبية ، وميّز الرسل والأنبياء والأوصياء ، وأمر الخلق بطاعتهم ، فأقرّوا بذلك في الميثاق ، فقالت الملائكة عند إقرارهم بذلك : شهدنا عليكم يا بني آدم أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين " (1) .
أقول : والرواية كما تقدّم ، وبعض ما يأتي من الروايات ، يذكر مطلق أخذ الميثاق من بني آدم من غير ذكر إخراجهم من صلب آدم وإراءتهم إيّاه .
وكان تشبيههم بالذرّ ـ كما في كثير من الروايات ـ تمثيل لكثرتهم كالذرّ لا لصغرهم جسماً أو غير ذلك ، ولكثرة ورود هذا التعبير في الروايات سمّيت هذه النشأة بعالم الذرّ .
وفي الرواية دلالة ظاهرة على أنّ هذا التكليم كان تكليماً حقيقياً ، لا مجرّد دلالة الحال على المعنى .
وفيما دلالة على أنّ الميثاق لم يؤخذ على الربوبية فحسب ، بل على النبوّة وغير ذلك ، وفي كُلّ ذلك تأييد لما قدّمناه .
وفي تفسير العيّاشي عن رفاعة قال : سألت أبا عبد الله عن قول الله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } ؟ قال : " نعم ، لله الحجّة على جميع خلقه ، أخذهم يوم أخذ الميثاق هكذا " وقبض يده (2) .
____________
1- تفسير العيّاشي 2 / 41 .
2- المصدر السابق 2 / 37 .
|
الصفحة 287 |
|
أقول : وظاهر الرواية أنّها تفسّر الأخذ في الآية بمعنى الإحاطة والملك .
وفي تفسير القمّي عن أبيه عن ابن أبي عمير ، عن ابن مسكان ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قولـه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى } ، قلت : معاينة كان هذا ؟ قال : " نعم ، فثبتت المعرفة ، ونسوا الموقف وسيذكرونه ، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه ، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذرّ ، ولم يؤمن بقلبه ، فقال الله : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ }(1)"(2) .
أقول : والرواية تردّ على منكري دلالة الآية على أخذ الميثاق في الذرّ تفسيرهم قولـه : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } أنّ المراد به أنّه عرّفهم آياته الدالّة على ربوبيته ، والرواية صحيحة ، ومثلها في الصراحة والصحّة ما سيأتي من رواية زرارة وغيره .
وفي الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه ، عن ابن أبي عمير عن زرارة : أنّ رجلاً سأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم } إلى آخر الآية ، فقال وأبوه يسمع : " حدّثني أبي أنّ الله عزّ وجلّ قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم ، فصبّ عليها الماء العذب الفرات ، ثمّ تركها أربعين صباحاً ، ثمّ صبّ عليها الماء المالح الأجاج ، فتركها أربعين صباحاً ، فلمّا اختمرت الطينة ، أخذها فعركها عركاً شديداً ، فخرجوا كالذرّ من يمينه وشماله ، وأمرهم جميعاً أن يقعوا في النار ، فدخلها أصحاب اليمين فصارت عليهم برداً وسلاماً ، وأبى أصحاب الشمال أن يدخلوها " (3) .
____________
1- يونس : 74 .
2- تفسير القمّي 1 / 248 .
3- الكافي 2 / 7 .
|
الصفحة 288 |
|
أقول : وفي هذا المعنى روايات أُخر ، وكان الأمر بدخول النار كناية عن الدخول في حظيرة العبودية ، والانقياد للطاعة .
وفيه ، بإسناده عن عبد الله بن محمّد الحنفي ، وعقبة جميعاً ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : " إنّ الله عزّ وجلّ خلق الخلق ، فخلق من أحبّ ممّا أحبّ ، فكان ما أحبّ أن خلقه من طينة الجنّة ، وخلق من أبغض ممّا أبغض ، وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار ، ثمّ بعثهم في الظلال " .
فقيل : وأيّ شيء الظلال ؟ قال : " ألم تر إلى ظلّك في الشمس شيء ، وليس بشيء ، ثمّ بعث معهم النبيين ، فدعوهم إلى الإقرار بالله ، وهو قولـه : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } (1) ، ثمّ دعوهم إلى الإقرار ، فأقرّ بعضهم وأنكر بعض ، ثمّ دعوهم إلى ولايتنا فأقرّ بها والله من أحبّ ، وأنكرها من أبغض ، وهو قولـه : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } "، ثمّ قال أبو جعفر (عليه السلام) : " كان التكذيب " (2) .
أقول : والرواية وإن لم تكن ممّا وردت في تفسير آية الذرّ ، غير أنّا أوردناها لاشتمالها على قصّة أخذ الميثاق ، وفيها ذكر الظلال ، وقد تكرّر ذكر الظلال في لسان أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ، والمراد به ـ كما هو ظاهر الرواية ـ وصف هذا العالم الذي هو بوجه عين العالم الدنيوي وبوجه غيره ، وله أحكام غير أحكام الدنيا بوجه وعينها بوجه ، فينطبق على ما وصفناه في البيان المتقدّم .
وفي الكافي وتفسير العيّاشي عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : كيف أجابوا وهم ذرّ ؟ قال : " جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه " (3) .
وزاد العيّاشي : " يعني في الميثاق " (4) .
____________
1- الزخرف : 87 .
2- الكافي 1 / 436 .
3- المصدر السابق 2 / 12 .
4- تفسير العيّاشي 2 / 27 .
|
الصفحة 289 |
|
أقول : وما زاده العيّاشي من كلام الراوي ، وليس المراد بقولـه " جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه " دلالة حالهم على ذلك ، بل لما فهم الراوي من الجواب ما هو من نوع الجوابات الدنيوية ، استبعد صدوره عن الذرّ ، فسأل عن ذلك ، فأجابه (عليه السلام) بأنّ الأمر هناك بحيث إذا نزلوا في الدنيا كان ذلك منهم جواباً دنيوياً باللسان والكلام اللفظي ، ويؤيّده قولـه (عليه السلام) ما إذا سألهم ، ولم يقل : ما لو تكلّموا ونحو ذلك .
وفي تفسير العيّاشي أيضاً عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } قالوا بألسنتهم ؟ قال : " نعم ، وقالوا بقلوبهم " ، فقلت : وأين كانوا يومئذ ؟ قال : " صنع منهم ما اكتفى به " (1) .
أقول : جوابه (عليه السلام) أنّهم قالوا : بلى بألسنتهم وقلوبهم ، مبنيّ على كون وجودهم يومئذ بحيث لو انتقلوا إلى الدنيا كان ذلك جواباً بلسان على النحو المعهود في الدنيا ، لكن اللسان والقلب هناك واحد ، ولذلك قال (عليه السلام) : نعم وبقلوبهم ، فصدق اللسان ، وأضاف إليه القلب .
ثمّ لمّا كان في ذهن الراوي ، أنّه أمر واقع في الدنيا ونشأة الطبيعة ، وقد ورد في بعض الروايات التي تذكر قصّة إخراج الذرّية من ظهر آدم : تعيين المكان لـه ، وقد روى بعضها هذا الراوي ، أعني أبا بصير سأله (عليه السلام) عن مكانهم بقولـه : وأين كانوا يومئذ ، فأجابه (عليه السلام) بقولـه : " صنع منهم ما اكتفى به " ، فلم يجبه بتعيين المكان ، بل بأنّ الله سبحانه خلقهم خلقاً يصحّ معه السؤال والجواب ، وكُلّ ذلك يؤيّد ما قدّمناه في وصف هذا العالم ، الرواية كغيرها مع ذلك ، كالصريح في أنّ التكليم والتكلّم في الآية على الحقيقة دون المجاز ، بل هي صريحة فيه .
____________
1- المصدر السابق 2 / 40 .
|
الصفحة 290 |
|
وفي الدرّ المنثور : " أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأُصول ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه عن أبي أُمامة : أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : " خلق الله الخلق وقضى القضية ، وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء ، فأخذ أهل اليمين بيمينه ، وأخذ أهل الشمال بيده الأُخرى ، وكلّتا يد الرحمن يمين ، فقال : يا أصحاب اليمين فاستجابوا لـه ، فقالوا : لبّيك ربّنا ، وسعديك ، قال : ألست بربّكم ؟ قالوا : بلى ، قال : يا أصحاب الشمال فاستجابوا لـه ، فقالوا : لبّيك ربّنا وسعديك ، قال : ألست بربّكم ؟ قالوا : بلى ، فخلط بعضهم ببعض ، فقال قائل منهم : ربّ لم خلطت بيننا ؟ قال : ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين ، ثمّ ردّهم في صلب آدم ، فأهل الجنّة أهلها ، وأهل النار أهلها " . فقال قائل : يا رسول الله فما الأعمال ؟ قال : " يعمل كُلّ قوم لمنازلهم " ، فقال عمر بن الخطّاب : إذاً نجتهد " (1) .
أقول : قولـه (صلى الله عليه وآله) : " وعرشه على الماء " كناية عن تقدّم أخذ الميثاق ، وليس المراد به تقدّم خلق الأرواح على الأجساد زماناً ، فإنّ عليه من الإشكال ما على عالم الذرّ بالمعنى الذي فهمه جمهور المثبتين ، وقد تقدّم .
وقولـه (صلى الله عليه وآله) : " يعمل كُلّ قوم لمنازلهم " أي أنّ كُلّ واحد من المنزلين يحتاج إلى أعمال تناسبه في الدنيا ، فإن كان العامل من أهل الجنّة عمل الخير لا محالة ، وإن كان من أهل النار عمل الشر لا محالة ، والدعوة إلى الجنّة وعمل الخير ، لأنّ عمل الخير يعيّن منزله في الجنّة ، وأن عمل الشر يعيّن منزله في النار لا محالة ، كما قال تعالى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ } (2) .
____________
1- الدرّ المنثور 3 / 143 .
2- البقرة : 148 .
|
الصفحة 291 |
|
فلم يمنع تعيّن الوجهة عن الدعوة إلى استباق الخيرات ، ولا منافاة بين تعيّن السعادة والشقاوة بالنظر إلى العلل التامّة ، وبين عدم تعيّنها بالنظر إلى اختيار الإنسان في تعيين عمله ، فإنّه جزء العلّة ، وجزء علّة الشيء لا يتعيّن معه وجود الشيء ولا عدمه ، بخلاف تمام العلّة ، وقد تقدّم استيفاء هذا البحث في موارد من هذا الكتاب ، وآخرها في تفسير قولـه تعالى : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ } (1) ، وأخبار الطينة المتقدّمة من أخبار هذا الباب بوجه .
وفيه ، أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس في قولـه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَم } الآية ، قال : خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنّه ربّه ، وكتب أجله ورزقه ومصيبته ، ثمّ أخرج ولده من ظهره كهيئة الذرّ ، فأخذ مواثيقهم أنّه ربّهم ، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم (2) .
أقول : وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس بطرق كثيرة في ألفاظ مختلفة ، لكن الجميع تشترك في أصل المعنى ، وهو إخراج ذرّية آدم من ظهره ، وأخذ الميثاق منهم .
وفيه ، أخرج ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة في قولـه تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم } قالوا : لمّا أخرج الله آدم من الجنّة قبل تهبيطه من السماء ، مسح صفحة ظهره اليمنى ، فأخرج منه ذرّية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذرّ ، فقال لهم : " ادخلوا الجنّة برحمتي " ، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرّية سوداء كهيئة الذرّ فقال : " ادخلوا النار ولا أبالي " ، فذلك قولـه : "
____________
1- الأعراف : 30 .
2- الدرّ المنثور 3 / 141 .
|
الصفحة 292 |
|
أصحاب اليمين وأصحاب الشمال " ، ثمّ أخذ منهم الميثاق فقال : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } ؟ قالوا : بلى ، فأعطاه طائفة طائعين ، وطائفة كارهين على وجه التقية .
فقال هو والملائكة : شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين ، أو يقولوا : إنّما أشرك آباؤنا من قبل ، قالوا : فليس أحد من ولد آدم إلاّ وهو يعرف الله أنّه ربّه ، وذلك قولـه عزّ وجلّ : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } (1) ، وذلك قولـه : { قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (2) يعني يوم أخذ الميثاق .
أقول : وقد روي حديث الذرّ كما في الرواية موقوفة وموصولة عن عدّة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كعلي (عليه السلام) ، وابن عباس ، وعمر بن الخطّاب ، وعبد الله بن عمر ، وسلمان ، وأبي هريرة ، وأبي أُمامة ، وأبي سعيد الخدري ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمن بن قتادة ، وأبي الدرداء ، وأنس ، ومعاوية ، وأبي موسى الأشعري .
كما روي من طرق الشيعة عن علي ، وعلي بن الحسين ، ومحمّد بن علي ، وجعفر بن محمّد ، والحسن بن علي العسكري (عليهم السلام) ، ومن طرق أهل السنّة أيضاً عن علي بن الحسين ، ومحمّد بن علي ، وجعفر بن محمّد (عليهم السلام) بطرق كثيرة ، فليس من البعيد أن يدعى تواتره المعنوي .
وفي الدرّ المنثور أيضاً : وأخرج ابن سعد وأحمد عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي ، وكان من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : " إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم ، ثمّ أخذ الخلق من ظهره ، فقال : هؤلاء
____________
1- آل عمران : 83 .
2- الأنعام : 149 .
|
الصفحة 293 |
|
في الجنّة ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ولا أبالي " ، فقال رجل : يا رسول الله فعلى ماذا نعمل ؟ قال : " على مواقع القدر " (1) .
أقول : القول في ذيل الرواية نظير القول في ذيل رواية أبي أُمامة المتقدّمة ، وقد فهم الرجل من قولـه : " هؤلاء في الجنّة ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ولا أبالي " الخبر ، سقوط الاختيار ، فأجابه (صلى الله عليه وآله) بأنّ هذا قدر منه تعالى ، وأنّ أعمالنا في عين أنا نعملها ، وهي منسوبة إلينا ، تقع على ما يقع عليه القدر ، فتنطبق على القدر وينطبق هو عليها ، وذلك أنّ الله قدّر ما قدّر من طريق اختيارنا ، فنعمل نحن باختيارنا ، ويقع مع ذلك ما قدّره الله سبحانه لا أنّه تعالى أبطل بالقدر اختيارنا ، ونفي تأثير إرادتنا ، والروايات بهذا المعنى كثيرة .
وفي الكافي عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله عزّ وجلّ : { حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ } (2) قال : " الحنفية من الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " ، قال : فطرهم على المعرفة به .
قال زرارة : وسألته عن قول الله عزّ وجلّ : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى } الآية ، قال : " أخرج من ظهر آدم ذرّيته إلى يوم القيامة ، فخرجوا كالذرّ فعرفهم وأراهم نفسه ، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربّه " ، وقال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "كُلّ مولود يولد على الفطرة ، يعني على المعرفة ، بأنّ الله عزّ وجلّ خالقه ، كذلك قولـه : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ } (3)" (4) .
____________
1- الدرّ المنثور 3 / 144 .
2- الحج : 31 .
3- لقمان : 25 .
4- الكافي 2 / 13 .
|
الصفحة 294 |
|
أقول : وروى وسط الحديث العيّاشي في تفسيره عن زرارة بعين اللفظ ، وفيه شهادة على ما تقدّم من تقرير معنى الإشهاد والخطاب في الآية ، خلافاً لما ذكره النافون أنّ المراد بذلك المعرفة بالآيات الدالّة على ربوبيته تعالى لجميع خلقه .
وقد روي الحديث في المعاني بالسند بعينه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) ، إلاّ أنّه قال : فعرفهم وأراهم صنعه بدل قولـه : فعرفهم وأراهم نفسه ، ولعلّه من تغيير اللفظ قصداً للنقل بالمعنى ، زعماً أنّ ظاهر اللفظ يوهم التجسّم ، وفيه إفساد اللفظ والمعنى جميعاً ، وقد عرفت أنّ الرواية مروية في الكافي ، وتفسير العيّاشي ، بلفظ : أراهم نفسه .
وتقدّم في حديث ابن مسكان عن الصادق (عليه السلام) قولـه : قلت معاينة كان هذا ؟ قال : " نعم " ، وقد تقدّم أن لا ارتباط للكلام بمسألة التجسّم .
وفي المحاسن عن الحسن بن علي بن فضال ، عن ابن بكير ، عن زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } الآية ، قال : " ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف ، ويذكرونه يوماً ، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه " (1) .
وفي الكافي بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : " كان علي بن الحسين (عليهما السلام) لا يرى بالعزل بأساً ، يقرأ هذه الآية : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى } فكُلّ شيء أخذ الله من الميثاق فهو خارج ، وإن كان على صخرة صماء " (2) .
____________
1- المحاسن 1 / 241 .
2- الكافي 5 / 504 .
|
الصفحة 295 |
|
أقول : ورواه في الدرّ المنثور عن ابن أبي شيبة ، وابن جرير عنه (عليه السلام) ، وروي هذا المعنى أيضاً عن سعيد بن منصور ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
واعلم أنّ الروايات في الذرّ كثيرة جدّاً ، وقد تركنا إيراد أكثرها لوفاء ما أوردنا من ذلك بمعناها ، وهنا روايات أُخر في أخذ الميثاق عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وسائر الأنبياء (عليهم السلام) ، سنوردها في محلّها إن شاء الله تعالى " (1) .
( علي . ... . ... )