تأثيره في وجود الإنسان :
السؤال : ما هو عالم الذرّ ؟ وكيف يؤثّر هذا العالم على شخصيتنا ومستقبلنا ؟
الجواب : المستفاد من النصوص أنّ عالم الذرّ هو عالم الميثاق وأخذ العهود ، أي أنّ العنصر البشري قد مرّ بمرحلة خاصّة في تكوينه ، تسمّى عالم الذرّ ، أودع الله سبحانه فيه قدرة كامنة في وجوده ، يمكنه من التطلّع على الحقّ ، والانجذاب نحوه ، وهي ما تسمّى بالفطرة .
وبهذه الميزة الفريدة يميل الإنسان في عالم الدنيا إلى التقرّب من المُثل العليا ، والكمال المطلق ، ومن ثمّ معرفة التوحيد ، وبعض أركان العقيدة الصحيحة .
وعليه ، فالفطرة الإنسانية هي القدرة المودعة في عالم الذرّ ، من قبل الباري تعالى لتيسير معرفته في عالم الدنيا ؛ فالإنسان كما أُعطي العقل للوصول إلى الحقيقة ، وكذلك أودع فيه الفطرة ، وهي التي تحثّه نحو الخيرات ، وتأمره بإتباع الحقّ .
____________
1- تفسير الميزان 8 / 331 .
|
الصفحة 296 |
|
وممّا ذكرنا يظهر : أنّ عالم الذرّ عالم تكويني لا تشريعي ، فلا تكليف فيه ـ كما يتوهّمه البعض ـ وحكمة وجود هذا العالم هي من أجل معونة الإنسان لمعرفة الله عزّ وجلّ ، وبعض المعتقدات الأساسية والقيم الأخلاقية .
وأمّا تأثير هذا العالم على الوجود البشري فهو واضح ممّا قلنا ، فكُلّ ما كان من ميزة وجودية مكنوّنة في عمق الضمير الإنساني ، والذي يدعوه نحو المبدأ الأعلى وما يتعلّق به ، ويصرف نظره عن الوقوع في متاهات المادّة ، فهو حصيلة ذلك العالم الذي تمثّله الفطرة السليمة .
ومجمل القول : أنّ الله تعالى قد جعل لهداية الإنسان ثلاث طرق : الرسل (عليهم السلام) ، والعقل ، والفطرة ، ومنشأ هذه الفطرة هو عالم الذرّ .
فالنتيجة : يجب علينا في هذه الدنيا إتباع هذه الفطرة ، حتّى تتمّ بها حكمة الهداية في الخلق ، وفي عكس هذه الحالة ، فسوف يكون الوجود الإنساني ناقصاً من حيث السير نحو الكمال .
( ... . البحرين . 35 سنة )
السؤال : هل يمكنكم تزويدي بآراء المفسّرين حول الآية المباركة : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ... } (1) ، ونشكركم على جهودكم الجبّارة .
الجواب : إنّ للمفسّرين ـ في هذه الآية ـ آراء متعدّدة تعويلاً منهم على الروايات الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) ، ومن أهمّ هذه الآراء رأيان .
1ـ حين خلق آدم (عليه السلام) ظهر أبناؤه على صورة الذرّ إلى آخر نسل لـه من البشر ، وطبقاً لبعض الروايات ظهر هذا الذرّ أو الذرّات من طينة آدم نفسه ،
____________
1- الأعراف : 172 .
|
الصفحة 297 |
|
وكان لهذا الذرّ عقل وشعور كاف للاستماع والخطاب والجواب ، فخاطب الله تعالى الذرّ قائلاً : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } ؟! فأجاب الذرّ جميعاً : { بَلَى شَهِدْنَا } .
ثمّ عاد هذا الذرّ أو هذه الذرّات جميعاً إلى صلب آدم أو إلى طينته ، ومن هنا فقد سمّي بهذا العالم بعالم الذرّ ، وهذا العهد بعهد { أَلَسْتَ } ؟ فبناء على ذلك ، فإنّ هذا العهد المشار إليه آنفاً هو عهد تشريعي ، ويقوم على أساس الوعي الذاتي بين الله والناس .
2ـ إنّ المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الاستعداد والكفاءات ، وعهد الفطرة والتكوين والخلق ، فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأُمّهات ، وهم نطف لا تعدو الذرّات الصغار ، وهبهم الله الاستعداد لتقبّل الحقيقة التوحيدية ، وأودع ذلك السرّ الإلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي ، كما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها .
فبناء على هذا ، فإنّ جميع أبناء البشر يحملون روح التوحيد ، وما أخذه الله من عهد منهم أو سؤاله إيّاهم : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } ؟ كان بلسان التكوين والخلق ، وما أجابوه كان باللسان ذاته !
ومثل هذه التعابير غير قليلة في أحاديثنا اليومية ، إذ نقول مثلاً : لون الوجه يخبر عن سرّه الباطني { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم } (1) ، أو نقول : إنّ عيني فلان المجهدتين تنبئان أنّه لم ينم الليلة الماضية .
وقد روي عن بعض أدباء العرب وخطبائهم أنّه قال في بعض كلامه : سل الأرض من شقّ أنهارك وغرس أشجارك وأينع ثمارك ؟ فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً ! كما ورد في القرآن الكريم التعبير على لسان الحال ، إذ جاء
____________
1- الفتح : 29 .
|
الصفحة 299 |
|
فيها : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}(1).
هذا باختصار هو خلاصة الرأيين أو النظرتين المعروفتين في تفسير الآية آنفة الذكر ، إلاّ أنّ التفسير الأوّل فيه بعض الإشكالات ، ونعرضها في ما يلي :
1ـ ورد التعبير في نصّ الآية المتقدّمة عن خروج الذرّية من بني آدم من ظهورهم ، إذ قال تعالى : { مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } ، مع أنّ التفسير الأوّل يتكلّم عن آدم نفسه أو عن طينة آدم .
2ـ إذا كان هذا العهد قد أخذ عن وعي ذاتي وعن عقل وشعور ، فكيف نسيه الجميع ؟! ولا يتذّكر أحد مع أنّ الفاصلة الزمانية بين زماننا ليست بأبعد مدى من الفاصلة بين هذا العالم والعالم الآخر أو القيامة ؟ ونحن نقرأ في آيات عديدة من القرآن الكريم أنّ الناس سواء كانوا من أهل الجنّة أو من أهل النار لا ينسون أعمالهم الدنيوية في يوم القيامة ، ويتذكّرون ما اكتسبوه بصورة جيّدة ، فلا يمكن أن يوجّه هذا النسيان العمومي في شأن عالم الذرّ أبداً ولا مجال لتأويله !
3ـ أيّ هدف كان من وراء مثل هذا العهد ؟! فإذا كان الهدف أن يسير المعاهدون في طريق الحقّ عند تذكّرهم مثل هذا العهد ، وألا يسلكوا إلاّ طريق معرفة الله تعالى ، فينبغي القول بأنّ مثل هذا الهدف لا يتحقّق أبداً وبأيّ وجه كان ، لأنّ الجميع نسوه !! وبدون هذا الهدف يعدّ هذا العهد لغواً ولا فائدة فيه .
4ـ إنّ الاعتقاد بمثل هذا العالم يستلزم ـ في الواقع ـ القبول بنوع من التناسخ ، لأنّه ينبغي ـ طبقاً لهذا التفسير ـ أن تكون روح الإنسان قد خلقت في هذا
____________
1- فصّلت : 11 .
|
الصفحة 300 |
|
العالم قبل ولادته الفعلية ، وبعد فترة طويلة أو قصيرة جاء إلى هذا العالم ثانية ، وعلى هذا فسوف تحوم حوله كثيراً من الإشكالات في شأن التناسخ ! غير أنّنا إذا أخذنا بالتفسير الثاني ، فلا يرد عليه أيّ إشكال ممّا سبق ، لأنّ السؤال والجواب ، أو العهد المذكور عهد فطري ، وما يزال كُلّ منّا يحسّ بآثاره في أعماق روحه ، وكما يعبّر عنه علماء النفس بالشعور الديني ، الذي هو من الإحساسات الأصيلة في العقل الباطني للإنسان .
وهذا الإحساس يقود الإنسان على امتداد التأريخ البشري إلى طريق معرفة الله تعالى ، ومع وجود هذا الإحساس أو الفطرة لا يمكن التذرّع بأنّ آباءنا كانوا عبدة للأصنام ونحن على آثارهم مقتدون !!
والإشكال الوحيد الذي يرد على التفسير الثاني هو أنّ هذا السؤال والجواب يتخذ شكلاً كنائياً ، ويتّسم بلغة الحوار ، إلاّ أنّه مع الالتفات إلى ما بيّناه آنفاً بأنّ مثل هذه التعابير كثير في لغة العرب وجميع اللغات ، فلا يبقي أيّ إشكال في هذا المجال .
ويبدو أنّ هذا التفسير أقرب من سواه !
|
الصفحة 301 |
|
( حسين . ... . ... )