منكروا المهدي من أهل السنة وعلة إنكارهم:
اتضح من خلال البحث والدراسة في الابحاث المهدوية لدى أهل السنة أن عدد المنكرين للامام المهدي هو أقل بكثير من عدد المثبتين، وأن أغلبهم من المتأخرين المعاصرين، ومنهم: الشيخ عبدالله بن زايد المحمود رئيس المحاكم الشرعية في قطر، حيث ذكر في كتابه «المهدي المنتظر بعد الرسول خير البشر» أسماء المنكرين للامام المهدي4 وأدلتهم في ذلك، وقد ردّ عليه عبدالمحسن بن حمد العباد في كتابه الردّ على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي، وهذا الكتاب هو من أفضل الكتب في هذا الخصوص.[i] ولم ينكر العلماء القدامى أحاديث الإمام المهدي4، وان امتنع بعضهم عن بيان رأيه، لكن لايدل هذا على الانكار.
ويعتبر ابن خلدون اول من ضعّف أحاديث المهدي4، واطال الحديث في مناقشتها. حيث ذكر في مقدمته تحليلاً لثلاث وعشرين حديثا فقط من أحاديث المهدي رواها أهل السنة، وقد كانت له نظرة صوفية في هذا التحليل، ادى به إلى انكار أحاديث المهدي4. وكان لـه استدلالان في هذا الانكار:
الاستدلال الأول:
ذكر أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل في سند الحديث، فاذا وجدنا خللا في رجال الأسانيد، ففي هذا السند خدشة، ولاتقبل هذه الرواية.[ii] وقال في نهاية تحليله لمجموعة من الاخبار لم تتعدى الثلاث والعشرين حديثا في الإمام المهدي4: أن الأحاديث التي خرّجها أئمة الحديث من أهل السنة حول المهدي وظهوره في آخرالزمان قليلة، بل هي أقل، وهي لاتخلو عن الاشكال السندي.[iii]
اما الاستدلال الثاني لابن خلدون:
ينبغي الاعتقاد واثبات هذه الحقيقة وهي: ان لادعوة في هذه الحياة الدنيا تصل إلى الكمال الامن خلال العصبية، وقوّتها، فقد كان للفاطميين والطالبيين عصبية، أما عصبية قريش فإنها تلاشت واضمحلت في العالم الإسلامي، ورجحت عصبية الشعوب الأخرى على عصبية قريش، وعليه: فان ظهور المهدي صحيح، ولكن لاسبيل لظهور دعوته بلاعصبية الفاطميين. [iv]
و انتقد كبار علماء أهل السنة كلام ابن خلدون، لكن ظهر من كلام ابن خلدون أن هناك روايات وأخبار لم يتطرق اليها الجرح أو التعديل. والعجيب في كلامه أنه تحدث عن منكري وجود الإمام المهدي4 بنحو غامض ومبهم، فهو لم يذكر واحداً من المنكرين ليقوي بها حجته وأدلته، وهذا في حد ذاته يمثل قوة المنهج المهدوي في فكر أهل السنة.
لقد ابتنى الاستدلال الثاني لابن خلدون على نظرته الاجتماعية للأمور، وذلك عندما قال: اما الادعاء عدا العمل لدى بعض العامة المنتظرين ظهور هذا الفاطمي فغير مقبول، وهم بلهاء وحمقى، لانهم لايستندون إلى العقل، وليس لهم قليلا من العلم، فهم يعتقدون ان هذا الفاطمي يظهر من الزاب في المغرب العربي!!
لكن ان التزم ابن خلدون بكلامه، فعليه ان يقبل ان العصبية ليس وحدها كافية لان تكون دليلا للنهوض والغلبة لرجلٍ كالمهدي4، بل ان وعود هذا الفاطمي في تطبيق العدالة هو الذي أخذ بمجامع القلوب وافئدة الناس، جعلهم يلتفّون حوله لنصرته، وهذا وحده كاف في ايجاد هذا الارتباط مع هذا الفاطمي دون العصبية التي ذكرها ابن خلدون.
و لا تجد منكراً آخر للمهدي في الكتب عدا ابن خلدون، الذي كان أول ممن اسس الرفض لهذا الاعتقاد كما ذكرنا. اي منذ القرن الثامن الهجري إلى عصرنا الحاضر.
وكتب محمد رشيد رضا ـ المعروف بالسلفية في شمال افريقيا ـ متاثراً بافكار ابن خلدون ومحمد عبده[v]: أن فكرة المهدي هي من الاسرائيليات التي دخلت الإسلام، بل هي أساساً قضية سياسية متلبسة بثياب الدين، فلا رواية فيه أبداً، إلاّ في الأسانيد الشيعية، فالزنادفة استلموا الحكم من العرب، واعادوه إلى فارس، وهم يبحثون عنه.[vi] وأضاف أيضاً: أن وجود التعارض في أحاديث المهدي واضح، ومنكروا الاعتقاد بالمهدي كثيرون، ولهذا لم يرو مسلم والبخاري في صحيحهما أحاديث المهدي، لعدم قبولهما هذه الأحاديث.
ان فكرة المهدي كانت سببا في وقوع الفتن في المجتمعات الإسلامية، لان هناك كثير ممن يهوى الرئاسة والسلطة كان قد استغل فكرة المهدي للوصول إلى الحكم، فأظهروا البدع وأفسدوا في الأرض، وكان سببا في ظهور علماء كثيرين كانوا قد رفعوا شعار تطبيق العدالة بحجة أن المهدي سيظهر، وينشر القسط والعدل في ربوع العالم.
وقدر رفع ابن خلدون العظيم صوته عاليا وقال: ان لله سننا وأحكاماً، أحدها: ان الدول والحكومات زائلة مادام انها لاتتبنى نهج العصبية في ترسيخ دعائم حكمها، فقد اخذ الاعاجم (الترك والفرس) العصبية من قريش وأهل بيت النبي6، فلو كانت أخبار المهدي صحيحة، فظهوره مستحيل، إلاّ بعد ان تسترجع العصبية الهاشمية والعلوية، فالمسلمون تحدثوا كثيراً عن المهدي، واعتقدوا أن السنن الالهية ستنتقض وتتغير في يوم ما، مع ان فكرة المهدي هي من عصبيات الفرس المجوس الذين سعوا إلى هدم وتحطيم الدولة العربية، فنسبوا أبحاث المهدي إلى كعب الاحبار وقد كان له مقاما وشأنا رفيعا.[vii]
ثم استمر رشيد رضا في بيان التعارض في أحاديث المهدي واعتقد أن هذا دليل الوضع وعدم صحة هذه الاحاديث، وقال: ان روايات المهدي وضعت بعد شهادة علي7 لتكون بشارة لانتقام المهدي من بني أمية.
وقال أيضاً: ومن الموضوعات ايضاً: ظهور السفياني من بني أمية. واستدل بكلام استاذه محمد عبده: بان الإسلام الصحيح هو ما كان على العهد الأول من زمن رسول الله(ص)، وقبل ظهور الفتن، ولهذا وافق على أحاديث الفتن المروية في الصحاح الستة.[viii]
و ذكر رشيد رضا في موضع آخر دون أن ينكر أصل البحث في اشارة منه إلى بعض المشاكل فقال: يعتقد الخاص والعام ان ظهور رجل يلقب بالمهدي من آل البيت هو من علائم الساعة، وانه سيظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلا، وسينزل عيسى إلى الارض في آخر حكمه، وسيقتل الدجال...الخ، فمن اضرار هذا الانتظار يأس المسلمين في استعادة العدل والمجد والعزة للاسلام والمسلمين.[ix]
و يظهر من خلال تحليل كلام رشيد رضا شدة تأثره بافكار ابن خلدون، وان المشاكل التي رآها في الاعتقاد بالمهدي لم تكن سوى تعصبه العربي والقومي، ومخالفة الشيعة، فهذه هي الاسباب الحقيقية في انكار المهدي4. أما ادعاء كونها من الاسرائيليات، فهذا الادعاء وارد على كافة أسناد الشيعة فلا يدل على انكارها.
قال البستوي: لقد قمت بدراسة وتحليل كافة أحاديث المهدي سنداً ودلالة، فاستنتجت ان لا علاقة لكعب الاحبار في أسناد هذه الأحاديث الصحيحة حول المهدي، هذا أولاً.
وثانياً: ليس هناك اي تعارض في هذه الأحاديث الصحيحة، فالتعارض يحصل في الأحاديث الضعيفة[x].
ومن المنكرين المعاصرين لفكرة المهدي4، هو الكاتب الاجتماعي أحمد أمين المصري في كتابه ضحى الإسلام، حيث أدعى فيه أن أحاديث المهدي هي من وضع الشيعة[xi] واكمل كلامه ـ وهو يجيب على نفسه ـ : لقد تنازل الأمويون عن مطالبهم امام الشيعة في وضع أحاديث المهدي، فوضعوا في مقابله قصة السفياني، وسكت العباسيون لحسم القضية لصالحهم، ولكنني كنت أرجو من المعتزلة ان يرفعوا النقاب في الكشف عن هذه الظلالة، فلم اعثر لهم على شيء مع الاسف، لكن الزيدية الذين هم خلف للمعتزلة، أنكروا أحاديث المهدي في كتبهم ومصنفاتهم.[xii]
ان ماذكره الكاتب الاجتماعي أحمد أمين هو ادعاء محض لا حقيقة له حول إنكار الزيدية أحاديث المهدي4، فهم ليس انهم لم ينكروا هذه الأحاديث فحسب، بل اكدوا في مواضع كثيرة من كلامهم على صحتها، وضرورة الاعتقادبها.
كتب زيد بن علي في مجموعة رسائله: المهدي حق، وهو مصلح من أهل البيت ولن تدركوه، ويكون ذلك عند انتقاع الزمن فلا تنكلوا عن الجهاد.[xiii]
وجاء في مجموعة رسائل المرتضى محمد بن يحيى الهادي (م 310 هـ) سئلت عن المهدي، وانه ابن من؟ فأجاب: انه وعد إلهي، وسيظهر من ذرية الحسن أو الحسين. ثم اكد في موضع آخر على صحة أحاديث المهدي4 ومنها اخبار الرايات السود القادمة من خراسان.[xiv]
وروى عالم زيدي آخر وهو الحسين بن بدرالدين (م 633 هـ) في كتابه ينابيع النصيحة روايات المهدي4 وقال: ان الاخبار حول مهدي آخرالزمان كثيرة متواترة.[xv]
وقال البعض أمثال سامي النشار في نشأة الفكر الإسلامي في الإسلام،[xvi] وأحمد محمود صبحي في علم الكلام في بحثه حول الزيدية:[xvii] ان كل امام يدعو الناس إلى نفسه وقد توفّرت فيه شروط الامامة فهو المهدي.
لكن هذين الباحثين الاجتماعيين أخطئا في كلامهما، لأن السيد عبدالرحمن المؤيد بن الضحياني نفى هذه الرؤية والاعتقاد وقال: إننا لا ننكر ان كل من جمع شروط الإمام فهو المهدي، ولكن هؤلاء المهديون هم غير المهدي المنتظر الموعود به في آخرالزمان، والذي بشر به النبي6.[xviii]
وحكى الإمام يحيى بن الحسين خلاف ما اعتقده أحمد صبحي وسامي النشار في رسائل العدل والتوحيد فقال: ان المهدي هو آخر امام من ذرية علي6.[xix] ونقل الاشعري في مقالات الإسلاميين: أن بعض الزيدية يعتقد ان ذالنفس الزكية هو المهدي، وقسم آخر منهم: أنه محمد بن القاسم، وثالث: أنه يحيى ابن عمر، فهو المهدي الذي سيظهر في آخرالزمان.[xx]
اذن، ما ذكره الكاتب الاجتماعي أحمد أمين ومدرسته الاجتماعية حول اعتقاد الزيدية بالمهدي يفتقد الشواهد والادلة والبراهين القوية والثابتة، بل الأدلة ضده.
ولم يكن لمنكري المهدوية أي دليل أو برهان قوي يثبت صحة ادعائهم، بل ان كلام بعضهم ينقض كلام البعض الآخر، وأما ادلة المنكرين الآخرين فهي مشابهة تماماً لأدلة المنكرين المذكورين آنفاً.
و اعتقد محمد محيالدين عبدالحميد: أن أحاديث المهدي من الاسرائيليات، ورأى سعد محمد حسن مؤلف المهدية في الإسلام انها من وضع الشيعة، وقد تقدم الجواب عن هذا الادعاء...
وأجاب عبدالمحسن عباد في كتابه المصلح العالمي باسهاب وتفصيل في رد هذا الادعاء.
وينبغي القول هنا: أن كافة منكري أحاديث المهدي4 عدا ابن خلدون هم من المفكرين المعاصرين ومعظمهم من مصر، لأنهم تأثروا بالعقلانية الجديدة ومبدأ التشكيك الذي ظهر في اوربا في عصر التطور العلمي والتقنية الحديثة، فمن خلال تحليل اوضاع مصر، يمكن اعتبار رؤية محمد عبده السلبية حول روايات الفتن ومخالفته الشديدة للتصوف من جهة، ودعوة المتصوفة الشديدة للمهدي4، وتسامحهم ضد حالات العنف والمخالفات السياسية والثقافية المتمثلة في الهجمة الاوربية الشرسة، وعدم مواكبتهم لهذه الاصلاحات من جهة أخرى ـ على انها غير مؤثرة في انتشار هذا الفكر واتساعه.
[i] ـ الكتاب الثاني الذي يتضمن أمور ومطالب هامة من الكتاب الاول؛ ترجمه السيد هادي خسروشاهي في كتابه المصلح العالمي والمهدي الموعود في نظر أهل السنة، واشار في مواضع كثيرة إلى أخطاء عبدالله بن زيد المحمود.
[ii] ـ مقدمة ابن خلدون، ص 312، مطبعة مصطفى محمد، مصر ، المصدر السابق، ترجمة محمد پرويني الگنابادي، ج1، ص 608، الطبعة الخامسة، شركة الانتشارات العلمية والثقافية، طهران، 1366 ش ق.
[iii] ـ المصدر السابق، ص 322 وص 630.
[iv] ـ المصدر السابق، ص 327-328، وص 639-640.
[v] ـ محمدرشيد رضا، تفسير المنار، ج9، ص 480، الطبعة الثانية، انتشارات دارالمعرفة، بيروت.
[vi] ـ المصدر السابق، ج9، ص 482.
[vii] ـ المصدر السابق، ج9، ص 499-501.
[viii] ـ المصدر السابق، ج9، ص 504-506.
[ix] ـ المصدر السابق، ج6، ص 57-58.
[x] ـ المهدي السابق، ج1، ص 377-380.
[xi] ـ ج 3، ص 246-273، الطبعة الثانية: انتشارات دارالكتاب العربي، بيروت.
[xii] ـ المصدر السابق، ج3، ص 243.
[xiii] ـ مجموعة كتب ورسائل الإمام الأعظم أميرالمؤمنين زيدبن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، جمع وتحقيق ابراهيم بن يحيى الدرسي الحمرسي، ص 384، الطبعة الأولى: منشورات مركز أهل البيت للدراسات الإسلامية، اليمن، 1422 هـ ق.
[xiv] ـ محمد بن يحيى الهادي، مجموعة كتب ورسائل الإمام المرتضى، ج1، ص 128 و207-210، الطبعة الأولى: منشورات مكتبة التراث الإسلامي، اليمن، 1423 هـ ق.
[xv] ـ تحقيق المرتضى بن زيد المحطوري الحسني، ص 468-469، الطبعة الثانية: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع، اليمن، 1422 هـ ق.
[xvi] ـ ج 2، ص 132، الطبعة السابعة: دارالمعارف، مصر، 1977 م.
[xvii] ـ ج3، ص 128، الطبعة الثالثة: انتشارات دارالنهضة العربية، بيروت، 1411 هـ ق.
[xviii] ـ المصدر السابق، ج 3، ص 128، الهامش.
[xix] ـ تحقيق محمد عمارة، ج2، ص 74 و82، انتشارات دارالهلال.
[xx] ـ انظر: هذه المجموعة، مهدي فرمانيان؛ مقالة «ردود وانعكسات الاعتقاد بالموعود»، قسم المهدوية والزيدية.