عربي
Wednesday 27th of November 2024
0
نفر 0

وهناك حديث لا ضرر ولا ضرار، وحديث رفع عن أمتي تسعة أشياء

وهناك حديث لا ضرر ولا ضرار، وحديث رفع عن أمتي تسعة أشياء:

الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة، والحسد، والوسوسة في الخلق، وقول الرسول الأعظم وما اضطروا إليه صريح الدلالة على أن الضرورات تبيح المحظورات (2).

وقال الإمام الغزالي (450 هـ‍/ 1059 م - 505 هـ‍/ 1111 م) في موسوعته إحياء علوم الدين (باب ما رخص فيه من الكذب): أن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم، قد اختفى من ظالم، فالكذب فيه واجب، ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه، إلا بكذب، فالكذب مباح، إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن، لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه، فيخشى أن يتداعى إلى ما لا

____________

(1) مسند الإمام علي بن أبي طالب ص 242 - 243.

(2) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 50.


الصفحة 220


يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة، فيكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة (1).

وقال الإمام الرازي في التفسير الكبير، في تفسير قوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * - بعد أن نقل الأقوال المختلفة في التقية - قال: روى عن الحسن البصري أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى - فيما يرى الرازي - لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان (2).

ونعى الإمام الشاطبي (المتوفى 1388 م) في الموافقات على الخوارج إنكارهم سورة يوسف من القرآن، وقولهم (المتوفى 1388 م) بأن التقية لا تجوز في قول أو فعل على الإطلاق والعموم (3).

وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في الأشباه والنظائر: لا يجوز أكل الميتة في المخمصة، وإساغة اللقمة (1445 - 1505 م) في الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر، ولو عم الحرام قطراً، بحيث لا يوجد فيه حلال، إلا نادراً، فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه (4).

وقال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص الرازي (5) (305 هـ‍/ 917 م - 370 هـ‍/ 981 م) - من أئمة الحنفية - في قوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *، يعني أن تخافوا تلف النفس، أو بعض الأعضاء، فتتقوهم بإظهار

____________

(1) أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 9 / 1588 (دار الشعب - القاهرة 1970).

(2) الشيعة في الميزان ص 50.

(3) الإمام الشاطبي: الموافقات 4 / 180.

(4) السيوطي: الأشباه والنظائر ص 76.

(5) أنظر عن الجصاص (تاريخ بغداد 4 / 314 - 315، معجم المؤلفين لكحالة 2 / 7 - 8، الفهرست لابن النديم ص 208، المنتظم لابن الجوزي 7 / 105 - 106، الأعلام للزركلي 1 / 165، البداية والنهاية لابن كثير 11 / 297، تذكرة الحفاظ للذهبي 959، الجواهر للقرشي 1 / 84 - 85، شذرات الذهب 3 / 71، فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي - المجلد الأول 1 / 102 - 104 - جامعة الإمام محمد بن مسعود الإسلامية 1403 هـ‍/ 1983 م).


الصفحة 221


الموالاة من غير اعتقاد لها، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ، وعليه الجمهور من أهل العلم.

وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي عن الحسن بن أبي الربيع الجرجاني عن عبد الرازق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون الله) *، قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً ولياً في دينه، وقوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *، يقتضي جواز إظهار الكفر عند التقية، وهو نظير قوله تعالى: * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * (1).

وروى مسلم في صحيحه بسنده عن ابن المنكدر، سمع عروة بن الزبير يقول: حدثتني عائشة أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إئذنوا له، فلبئس ابن العشيرة، أو بئس رجل العشيرة، فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة فقلت: يا رسول الله، قلت له الذي قلت، ثم ألنت له القول، قال:

يا عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة ودعه أو تركه الناس، إتقاء فحشه (2).

وفي السيرة الحلبية: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، قال له حجاج بن علاط: يا رسول الله إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وأنا أريد أن آتيهم، فأنا في حل، إن نلت منك، وقلت شيئاً فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يقول ما شاء (3).

وهذا الذي قاله صاحب السيرة الحلبية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقله الجصاص

____________

(1) الجصاص: أحكام القرآن 2 / 10 (ط 1347 هـ‍).

(2) صحيح مسلم 16 / 144 (ط بيروت 1981 م).

(3) أنظر: السيرة الحلبية 2 / 761 - 763، تاريخ الطبري 3 / 17 - 19، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2 / 223 - 224، سيرة ابن هشام 3 / 259 - 260، السيرة النبوية لابن كثير 2 / 407 - 492.


الصفحة 222


إلى الجمهور من أهل العلم، وهو الذي جاء في كل كتب السيرة، وهو بعينه ما تقول الإمامية، إذن القول بالتقية لا يختص بالشيعة دون السنة، أما قصة نعيم بن مسعود الأشجعي، فأشهر من أن تذكر، وقد فصلتها كتب السيرة كذلك (1).

ويقول الأستاذ مغنية: لا أدري كيف استجاز لنفسه من يدعي الإسلام، أن ينعت التقية بالنفاق والرياء، وهو يتلو من كتاب الله، وسنة نبيه، ما ذكرنا آنفاً من الآيات والأحاديث، فضلاً عن أقوال أئمة السنة، وهو غيض من فيض مما استدل به علماء الشيعة في كتبهم، ثم كيف تنسب الشيعة إلى الرياء، وهم يؤمنون بأنه الشرك الخفي، ويحكمون ببطلان الصوم والصلاة والحج والزكاة، إذا شابها أدنى شائبة من رياء (2).

وعلى أية حال، فالتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم (3). وعن ابن عباس إلا أن تتقوا منهم تقاة، قال: التقاة التكلم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان، وعن عكرمة في قوله إلا أن تتقوا منهم تقاة، قال: ما لم يهرق دم مسلم، وما لم يستحل ماله (4).

هذا وقد روى الكليني - أكبر علماء الإمامية، والمتوفى 328 هـ‍/ 939 م - أخباراً كثيرة في التقية، فروى عن الإمام أبي عبد الله أنه قال: تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شئ، إلا في النبيذ والمسح على الخفين.

____________

(1) أنظر: مغازي الواقدي 2 / 480 - 487 (بيروت 1984)، ابن كثير: السيرة النبوية 3 / 214 - 217، ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3 / 273 - 274، ابن حزم: جوامع السيرة ص 151 - 152 (القاهرة 1982)، عرجون: محمد رسول الله 4 / 181 - 189 (دمشق 1985)، أبو زهرة: خاتم النبيين 2 / 788 - 790، البوطي: فقه السيرة ص 1 / 22 (بيروت 1978)، الندوي: السيرة النبوية ص 219 - 220، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 2 / 211 - 214 (بيروت 1990)، الشيعة في الميزان ص 51.

(2) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 51.

(3) تفسير القرطبي ص 1299.

(4) تفسير الطبري 6 / 313 - 317.


الصفحة 223


وقال في قوله تعالى: * (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) * (1) قال:

بما صبروا على التقية، وما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف، إن كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير، فأعطاهم الله أجرهم مرتين.

وقد سئل أبو الحسن عن القيام للولاة فقال: قال أبو جعفر الباقر: التقية من ديني، ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له.

وسئل الإمام أبو جعفر عن رجلين من أهل الكوفة أخذا، فقيل لهما: إبرآ من أمير المؤمنين علي عليه السلام، فبرئ واحد منهما، وأبى الآخر، فخلي سبيل الذي برئ، وقتل الآخر، فقال: أما الذي برئ، فرجل فقيه في دينه، وأما الذي لم يبرأ، فرجل تعجل إلى الجنة.

وأراد جماعة السير إلى العراق، فقالوا لأبي جعفر: أوصنا، فقال أبو جعفر: ليقو شديدكم ضعيفكم، ولتعد غنيكم على فقيركم، ولا تبثوا سرنا، ولا تذيعوا أمرنا.

وقال أبو عبد الله: إن أمرنا مستور مقنع بالميثاق، فمن هتك علينا أذله الله (2).

3 - التقية من الدليل العقلي

وهو يوجب المحافظة على النفس والنفيس، استناداً إلى قول الله تعالى * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (3).

والنبي صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى للإنسانية كلها - إنما قد أخفى الدعوة في بادئ الأمر، وبدأ يدعو للإسلام سراً، لأنه رأى أولاً ضرورة التقية، حتى زالت

____________

(1) سورة القصص: آية 54.

(2) الكليني: الكافي ص 400 وما بعدها، أحمد أمين: ضحى الإسلام 3 / 247 - 248 (القاهرة 1368 هـ‍ / 1949 م).

(3) سورة البقرة: آية 195.


الصفحة 224


أسبابها، عندما أمره الله * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين) * (1).

وعلى أية حال، فالصدع بالرأي، بعد الإسرار به، لم يكن شجاعة بعد جبن، بل كان قوة في كلتا الحالتين، استترت الأولى بالتقية، وكشفت الثانية عن نفسها بخلع التقية.

ويرى الشيعة عامة أن أبا طالب - عم النبي ومربيه، وشاهد نبوته معه منذ طفولته - إنما كان مستتراً وراء التقية، وكان مؤمناً بابن أخيه محمد نبياً ورسولاً، وقد تظاهر بغير ذلك، بالصمت حيناً، وبالتجاهل حيناً، ليتسنى له الدفاع عن محمد وعلي، عليهما السلام (2).

هذا وقد أكد التقية قبل الإمام الصادق جده الإمام علي زين العابدين، حين قال:

إني لأكتم من علمي جواهره * كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتننا
وقد تقدم في هذا أبو حسن * إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به * لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي * يرون أقبح ما يأتونه حسنا
(3)

ولقد جرى على ذلك بعض الصوفية، فقالوا بالعلم الباطن، الذي لا يفهم من اللغة ولا من المنطق، وإنما عن طريق الإلهام والمكاشفة.

هذا ويذهب كاشف الغطاء إلى أن الشريعة الإسلامية المقدسة، إنما قد أجازت للمسلم في مواطن الخوف أن يتدرع بستار التقية، إخفاء للحق، وصوناً له، ريثما تنتصر دولة الحق، هذا وتجب التقية، إن كان تركها يستوجب تلف

____________

(1) سورة الحجر: آية 94 - 95.

(2) عبد القادر محمود: الإمام جعفر الصادق رائد السنة والشيعة ص 178.

(3) المجلسي: بحار الأنوار ص 86 - 87.


الصفحة 225


النفس، دون فائدة، وللمرء أن يضحي بنفسه أو يحافظ عليها، ولكن يحرم العمل بالتقية، إن كان ذلك ترويجاً للباطل (1).

ويذهب الشيخ المفيد (333 هـ‍/ 944 م - 414 هـ‍/ 1022 م) إلى أن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقد تجوز في حال دون حال، للخوف على المال، ولضروب من الاستصلاح (2).

هذا فضلاً عن أنها واجبة في الأقوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها، الضرب من اللطف والاستصلاح، وليس يجوز من الأفعال في قتل المؤمنين، ولا فيما يعلم أو يغلب أنه فساد في الدين (3) وهكذا كانت التقية واحدة من أهم عقائد الشيعة الإمامية، فرضتها الظروف السياسية، وما صاحبها من اضطهاد الشيعة، فاتقوا السلطان حفظاً للأرواح وقد أصبحت التقية صفة خاصة للشيعة الإمامية، وقد دانوا بها، امتثالاً لأمر الأئمة، فقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: من لا تقية له، لا دين له (4).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن التقية إنما بدأت مع أحد الضعفاء، وكما أشرنا من قبل، مع سيدنا عمار بن ياسر (5)، رضي الله عنه،

____________

(1) العاملي: أعيان الشيعة 11 / 154 - 160.

(2) محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالشيخ المفيد: أوائل المقالات في المذاهب والمختارات ص 96 (ط تبريز 1371).

(3) نفس المرجع السابق ص 97.

(4) الطبرسي: مشكاة الأنوار في غرر الأخبار - النجف - 1951 ص 39 وما بعدها.

(5) ليس صحيحاً ما ذهب إليه الدكتور الشيبي من أن عمار بن ياسر، رضي الله عنه، كان عبداً سابقاً، كما أنه ليس صحيحاً أن قصة تعذيبه كانت بعد الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة المنورة، قال الواقدي وغيره من أهل العلم بالنسب والخبر: إن ياسراً والد عمار عرني قحطاني مذحجي من عنس، إلا أن ابنه عمار كان مولى لبني مخزوم، لأن أمه سمية كانت أمة لبعض بني مخزوم، وعن مجاهد: إن أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله وأبو بكر وبلال وخباب وصهيب وعمار وأمه سمية، وعذبت أسرة ياسر في الله عذاباً شديداً، وفي عمار نزلت: * (من كفر بالله من بعد إيمانه * إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *، ومن المعروف أن الآية مكية

=>


الصفحة 226


هكذا قرر الإسلام، وقرر نبي الإسلام مبدأ التقية، بوصفها وسيلة لحماية النفس، من خطر يودي بها من غير طائل، حتى قال ابن حزم: وقد أباح الله عز وجل كلمة الكفر عند التقية، وأباح بها الدم في غير التقية (1).

ولعل من الجدير بالإشارة إلى أن تخيير الإسلام للكفار المقهورين بين الإسلام أو السيف أو الجزية، تدخل في باب إقرار التقية، فليس خافياً على الإسلام وشارعه أن الدخول في الدين الجديد على هذه الصورة تحت حد السيف، أو ما لا يمكن توفيره من مال، يعني دفع كلا الضررين، بتحمل أهون الثلاث، وهو الدخول في دين القاهرين، فلا يمكن أحداً أن يتصور أن معتنق الإسلام - وعلى هذه الصورة - جاد في إسلامه، اللهم إلا إذا رأى فيه الروح مما كان يعاني، شأن المسلمين الأولين، وذلك أمر يدخل في باب الحدس والتخمين.

ومن ثم لم يبق إذن، إلا أن يكون الإسلام مؤمناً بمبادئه ومثله، واثقاً من تأثيرها في الناس، إذا أتيح لهم أن يزنوا الأمور، ويجربوا الحياة الجديدة - ولو بالإكراه أولاً - فهو من هذه الناحية أنما يغري بالتقية، ويقدمها إلى الجاهلين به، ثقة منه في كسبهم، متى آمنوا، واطمأنوا، فتفادي القتل والجزية، والدخول في الإسلام بالفتح، إنما هو مبدأ إسلامي حمله الإسلام إلى المغلوبين، لإغرائهم باعتناقه، فهذه تقية لا جدال فيها، كما يبدو.

____________

<=

والسورة مكية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمر بعمار وأمه وأبيه، وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة، فيقول: صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة.

وهاجر عمار إلى المدينة، وشهد بدراً واحد والخندق وبيعة الرضوان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أول من بنى مسجداً في الإسلام.

وظهر يوم اليمامة، واستعمله عمر بن الخطاب أميراً على الكوفة، وكان من محبي الإمام علي بن أبي طالب وآل البيت، وحضر معه الجمل وصفين، واستشهد في صفين عام 37 هـ‍ (657 م) وكان عمره 94 أو 93 أو 91 سنة (أنظر: أسد الغابة 4 / 139 - 135، أنساب الأشراف 1 / 156 - 175).

(1) ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 / 111.


الصفحة 227


ثم إن الإسلام لم يكتف بإتاحة الولاء تقية للمغلوبين على أمرهم من أرستقراطي المدينة - وكانوا يعرفون صراحة بالمنافقين - وكان الإسلام يتألف قلوبهم بالمال، وجعلهم إحدى الطوائف الثماني التي لها نصيب من أموال الصدقات - كما تشير إلى ذلك الآية 60 من سورة التوبة - وقد ظل المنافقون يقبضون أموال الصدقات هذه إلى أن ألغى عمر بن الخطاب نصيبهم، حين قوي الإسلام، وأحس بأن في ذلك تقليلاً من هيبته، وتلك إمارة على إتاحة الإسلام تقية حتى للأرستقراطيين السابقين (1) ولو أخذنا غنائم غزوة حنين كمثال لما كان يعطيه الإسلام للمؤلفة قلوبهم، لرأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي المؤلفة قلوبهم أول الناس، فيعطي أبو سفيان بن حرب مائة من الإبل وأربعين أوقية فضة، فيطلب مثلها لولده يزيد، وحين يعطيه رسول الله ما أراد، يطلب مثلها أيضاً لولده الثاني معاوية بن أبي سفيان، فيعطيه الرسول كذلك مائة من الإبل، وأربعين أوقية فضة، ثم يعطي رجالاً من بني عبد الدار وبني زهرة وبني مخزوم.

وأعطى الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن، ومالك بن عوف كل منهم مائة من الإبل، وأعطى العباس بن مرداس أربعين من الإبل، فقال في ذلك شعراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقطعوا لسانه عني، فأعطوه مائة من الإبل، وقد أعطي كل ذلك من الخمس، كما أعطي غيره كثير (2).

____________

(1) كامل الشيبي: التقية: أصولها وتطورها ص 236 - 238 مجلة كلية الآداب - جامعة الإسكندرية - العدد السادس عشر عام 1962 م).

(2) أنظر: الواقدي: كتاب المغازي - تحقيق مارسدن جونسن - الجزء الثالث ص 943 - 949 (بيروت 1404 هـ‍/ 1984 م)، ابن هشام: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم 4 / 366، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 2 / 427 - 433 (بيروت 1990 م).

عرجون: محمد رسول الله 4 / 390 - 400، ابن كثير: السيرة النبوية 3 / 667 - 683. السيرة الحلبية 3 / 61 - 75، 83 - 98، ابن شهبة: السيرة النبوية 2 / 379 - 394، ابن الأثير الكامل في التاريخ 2 / 261 - 273، تاريخ الطبري 3 / 70 - 94.

 


الصفحة 228


ومن عجب أن هؤلاء الأعراب والطلقاء والرؤساء الذين تزاحموا على الغنائم واستأثروا بالكثير منها، لم يغنوا عن الإسلام شيئاً في مآزقه الأولى، بل كانوا هم العقبات الصلدة التي اعترضت مسيله، حتى تحطمت تحت معاول المؤمنين الراغبين في ثواب الآخرة، المؤثرين ما عند الله، ولكنهم اليوم - بعدما أعلنوا إسلامهم - يبغون من النبي أن يفتح لهم خزائن الدنيا، فحلف لهم أنه ما يستبقي منها شيئاً لشخصه، ولو امتلك مل ء هذه الأودية مالاً، لوزعه عليهم.

ومن عجب أيضاً - بل هو أكثر عجباً - أن الذين فروا عند الفزع، هم الذين كثروا عند الطمع، وأعجب العجب أن أبا سفيان بن حرب، كان أول من تقدم يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يعطيه من الفئ، وهو نفسه الذي كان يصيح فرحاً، عندما كانت الهزيمة - في أول المعركة - تطل بوجهها القبيح على جيش المسلمين، والأزلام التي كان يستقسم بها في الجاهلية، ما تزال في كنانته، يصيح لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وعندما تكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل، وبأربعين أوقية من فضة، لم يشبع ذلك نهمه، وإنما طلب لابنه يزيد مثلها، وحين أجيب إلى سؤله طلب مثلها لابنه الآخر معاوية، وهكذا أخذ أبو سفيان وولداه يومئذ ثلاثمائة من الإبل، ومائة وعشرين أوقية من الفضة.

وهكذا فإن هناك أقواماً كثيرين، يقادون - كما يقول الأستاذ الغزالي - إلى الحق، من بطونهم، لا من عقولهم، فكما تهدى الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم، تظل تمد إليها فمها، حتى تدخل حظيرتها آمنة، فكذلك هذه الأصناف من البشر، تحتاج إلى فنون من الإغراء، حتى تستأنس بالإيمان، وتهش له.

روى مسلم في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء.


الصفحة 229


فهذا الأعرابي لا يعجبه المنطق السليم، ولا الطبع الرقيق، قدر ما يعجبه عطاء بملء جيوبه، ويسكن مطامعه، ومن هنا قال صفوان بن أمية: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطيني من غنائم حنين، وهو أبغض الخلق إلي، حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه (1).

وهذا العطاء كله - كما يقول ابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ‍/ 1292 - 1350 م) نفل النبي صلى الله عليه وسلم، به رؤوس القبائل والعشائر ليتألفهم به وقومهم على الإسلام، وذلك بهدف تقوية الإسلام وشوكته وأهله، واستجلاب عدوه إليه.

وهكذا أرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين لا يعرفون قدر نعمة الإسلام، بالشاة والبعير، كما يعطى الصغير ما يناسب عقله ومعرفته، ويعطى العاقل اللبيب ما يناسبه (2).

وفي السيرة الحلبية: كانت المؤلفة ثلاثة أصناف، صنف يتألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا، كصفوان بن أمية، وصنف ليثبت إسلامهم، كأبي سفيان بن حرب، وصنف لدفع شرهم، كعيينة بن حصن، والعباس بن مرداس، والأقرع بن حابس (3).

4 - التقية عند الخوارج:

لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الخوارج (4) ; إنما كانوا أول من

____________

(1) أنظر محمد الغزالي: فقه السيرة - القاهرة 1976 ص 425 - 427 - (رواه مسلم 7 / 75، والترمذي 2 / 42، وأحمد 3 / 401 عن سعيد بن المسيب).

(2) ابن قيم الجوزية: زاد المعاد من هدى خير العباد 3 / 484 - 486 (بيروت 1405 هـ‍/ 1985 م).

(3) السيرة الحلبية 3 / 85.

(4) أنظر عن الخوارج (ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 5 / 29 - 33 (ط محمد علي صبيح - القاهرة 1384 هـ‍/ 1964 م)، البغدادي: الفرق بين الفرق ص 72 - 113، الشهرستاني:

الملل والنحل 1 / 114 - 138 - القاهرة 1387 هـ‍/ 1968 م، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2 / 265 - 283).


الصفحة 230


دان بالتقية، وتوسل بها (1)، والذي دعا الخوارج إلى التقية، الكره والحقد المتبادل بينهم وبين جماعة المسلمين، حتى كان اصطياد الخارجي يعني القضاء عليه، وقد قاتلهم سيدنا الإمام علي بن أبي طالب حتى كاد أن يبيدهم، ولكنهم كانوا لا ينفذون حتى يملأوا الشعاب والجبال من جديد، ومن هنا تعلقوا بالتقية حفاظاً على حياتهم، وخلاصاً من الفناء. ويذهب الشهرستاني (479 - 548 هـ‍) إلى أن التقية إنما قد تسببت في انقسام الخوارج (2)، وذلك أن نافع بن الأزرق (3) كان يكفر القاعدين عن الحرب، وكان يقول: التقية لا تحل،

____________

(1) اجنتس جولدتسيهر: العقيده والشريعة في الإسلام ص 180 (ترجمة محمد يوسف موسى وآخرين - القاهرة 1946).

(2) يقول أبو الحسن الأشعري في كتاب: (مقالات الإسلاميين 1 / 88): وكان سبب الاختلاف الذي أحدثه نافع أن امرأة عربية من اليمن كانت ترى رأي الخوارج تزوجت رجلاً من الموالي برأيها، فقال لها أهلها: فضحتينا، فأنكرت ذلك، فلما جاء زوجها، قالت: إن أهل بيتي وبني عمي قد بلغهم أمري، وأنا خائفة أن أكره على تزويج بعضهم، فاختر مني إحدى ثلاث خصال: إما أن تهاجر إلى عسكر نافع حتى تكون مع المسلمين في حوزهم ودارهم، وإما أن تخبأني حيث شئت، وإما أن تخلي سبيلي، فخلى سبيلها، ثم إن أهلها استكرهوها فزوجوها ابن عم لها، لم يكن على رأيها، فكتب بمن بحضرتها إلى نافع بن الأزرق يسألونه عن ذلك، فقال رجل منهم: إنها لم يسعها ما صنعت، ولا وسع زوجها ما صنع من قبل هجرتها، لأنه كان ينبغي لهما أن يلحقا بنا، لأننا اليوم بمنزلة المهاجرين بالمدينة، ولا يسع أحداً من المسلمين التخلف عنا، كما لم يسع التخلف عنهم، فتابعه على قوله نافع بن الأزرق وأهل عسكره، إلا نفراً يسيراً، وزعمت الأزارقة أن من أقام في دار الكفر، فهو كافر لا يسعه إلا الخروج.

وقال المبرد في الكامل (3 / 131) جاء مولى لبني هاشم إلى نافع فقال له: إن أطفال المشركين في النار، وإن من خلفنا مشرك، فدماء هؤلاء الأطفال لنا حلال، قال له نافع: كفرت وأدللت بنفسك، قال: إن لم آتك بهذا من كتاب الله فاقتلني. (قال نوح: رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً). فهذا أمر الكافرين، وأمر أطفالهم، فشهد نافع أنهم جميعاً في النار، ورأى قتلهم، وقال: الدار دار كفر، إلا من أظهر إيمانه، ولا يحل أكل ذبائحهم ولا تناكحهم، ولا توارثهم، ومن جاء منهم جار، فعلينا أن نمتحنه، وهم ككفار العرب، لا نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، والقعد بمنزلتهم، والتقية لا تحل، فنفر جماعة من الخوارج عنه، منهم نجدة بن عامر، واحتج بقول الله تعالى:

* (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * (الشهرستاني 1 / 119).

(3) هو أبو راشد نافع بن الأزرق بن قيس بن نهار، أحد بني حنيفة، كان أول خروجه بالبصرة في عهد عبد الله بن الزبير، وفي عام 65 هـ‍اشتدت شوكته حتى قتل في جمادى الآخرة (خطط

=>


الصفحة 231


والقعود عن القتال كفر، ومن ثم فقد انصرف زعماء الخوارج وأتباعهم إلى نجدة الحروري الذي قتل على أيام عبد الملك بن مروان (65 - 86 هـ‍/ 685 - 705 م)، وكان نجدة يرى أن التقية جائزة، واحتج بقول الله تعالى * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * (1)، وبقول الله تعالى: * (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) * (2).

وقال: القعود جائز، والجهاد - إذا أمكنه - أفضل، قال الله تعالى * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً) * (3).

وقال نافع: هذا في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حين كانوا مقهورين، وأما في غيرهم - مع الإمكان - فالقعود كفر، لقول الله تعالى: * (وقعد الذين كذبوا الله ورسوله) * (4).

ومع ذلك، فلقد رسخت التقية في بيئة الخوارج، إلى حد أن صار النقاش - بعد نافع - يدور حول كونها: هل تطبق التقية في العمل أو في القول أو في كليهما، فرأينا الضحاك - وهو رئيس فرقة من الخوارج، وقد قتل عام 128 هـ‍(746 م) - يرى أنها تجوز في القول، دون العمل، وكان أسلافهم النجدات يرونها: جائزة في القول والعمل، وإن كان في قتل النفس (5).

هذا فضلاً عن أن الخوارج إنما هم الذين ابتدعوا مصطلح دار التقية ودار العلانية، وأن دار مخالفيهم إنما هي دار كفر، وكانوا يعنون بدار التقية: المواطن التي يغلب عليها غيرهم من المسلمين، فبينوا لنا مدى

____________

<=

المقريزي 2 / 354، الكامل لابن الأثير 4 / 81، الكامل للمبرد 2 / 171، 180، شرح نهج البلاغة 1 / 380).

(1) سورة آل عمران: آية 38.

(2) سورة غافر: آية 28.

(3) سورة النساء: آية 95.

(4) سورة التوبة: آية 90، وانظر: الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 125.

(5) كامل الشيبي: المرجع السابق ص 239.


الصفحة 232


اضطرارهم إلى التعلق بهذا الدرع، الذي حمى كثيراً من المسلمين قبلهم وبعدهم، بل لقد كان من لصوق التقية بالخوارج، أنهم - مع اعتبارهم أن غيرهم من المسلمين كفاراً - جوزوا تزويج المسلمات - أي الخارجيات - من كفار قومهم - أي المسلمين ذوي المذاهب الأخرى - في دار التقية. ولعل هذا إنما يعني أنهم - وهم غلاة المخلصين لمبادئهم - إنما قد سمحوا بالزنا، الذي يعنيه تزويج الكافر بالمسلمة - بقدر ما يتعلق الأمر بعقيدتهم - ليس في سبيل المحافظة على حياتهم، وإنما لأن الظروف تقتضي التقية والكتمان، هذا فضلاً عن أن للصدقات عندهم تنظيم خاص، يختلف في حال التقية عنه في حال العلانية.

ومع ذلك، فإن هذا لا يعتنقه كل الخوارج، ولكنه الرأي المشهور من كثير من فرقهم، وقد التزم به النجدات والإبراهيمية والضحاكية والإباضية والصوفية، وغيرهم (1).

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

وقفوهم إنهم مسئولون
مكانة السيدة المعصومة (عليها السلام):
يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا
ملامح شخصية الإمام جعفر الصادق عليه السلام
أحاديث في الخشية من الله (عزّ وجلّ)
أقوال علماء أهل السنة في اختصاص آية التطهير ...
فاطمة هي فاطمة.. وما أدراك ما فاطمة
معرفة فاطمة عليها السلام
علي مع الحق - علي مع القرآن - شبهة وجوابها - خلاصة ...
صدق الحدیث

 
user comment