عربي
Saturday 4th of January 2025
0
نفر 0

أدلة الحرمة، وما فيها

أدلة الحرمة، وما فيها


 

 

 


توطئة:

إن من المعروف: أن الأمور كلها على الإباحة ما لم يرد الدليل الدال على أن للمورد حكماً خاصاً به.. وعلى هذا الأساس نقول: إن من يدَّعي حرمة هذا اللطم المؤلم، أو ضرب السلاسل، وجرح الرؤوس، فعليه أن يأتي بالدليل، لننظر فيه.. وقد أورد القائلون بالتحريم، أدلة على مدَّعاهم، هي:

أدلة القائلين بالحرمة:

استدل القائلون بحرمة جرح الرؤوس، بالأدلة التالية:

الدليل الأول على التحريم:

النواهي الشرعية عن إلقاء النفس في التهلكة. وعمدة أدلتهم على ذلك(1) هو الآية الشريفة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ..}(2).

____________

(1) قد ذكر هذه الأدلة الشيخ الأنصاري [رحمه الله] في فرائد الأصول ج1 ص176 ط مؤسسة النعمان ـ بيروت سنة 1411 هـ.

(2) سورة البقرة/ 195.


   


واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1).

وبقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}(2)، ونحو ذلك..

المناقشة:

أولاً:

إنه ليس في اللطم العنيف، وجرح الرأس، وضرب السلاسل هلاك، ليقال: إنه إذا لطم أو جرح رأسه، فإنه يلقي بنفسه إلى التهلكة.

ثانياً:

إنه لو سلم أن ذلك قد يحصل، فإن الحرام منه يكون خصوص ما يؤدي إلى ذلك، أو خيف أن يؤدي إليه.. أو احتمل ذلك احتمالاً يعتدّ به العقلاء، ويقفون عنده ولا يتجاوزونه، وإلا للزم تحريم ركوب الدابة، والسيارة، والقطار، والطائرة، فإن احتمالات الهلاك فيها أكثر من اللطم المؤلم، وضرب السلاسل، وجرح الرأس.

ثالثاً:

إن قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(3)، ناظر إلى التهلكة في الآخرة، لأنها تتحدث عن الإنفاق في أمر الجهاد، وأن الامتناع عن هذا الإنفاق يعرِّض الإنسان لعقاب الله سبحانه، وللهلاك في الآخرة..

رابعاً:

وأما سائر الآيات التي ذكروها دليلاً فهي لا تدل على ذلك، إذ هي ناظرة إلى العذاب الإلهي في الآخرة، كما يظهر لمن يرجع إليها..

فإن الله سبحانه حين يحذر الناس نفسه، إنما يحذرهم من العذاب

____________

(1) سورة النور/ 63.

(2) سورة آل عمرآن/ 28.

(3) سورة البقرة / 195.


 


الذي يواجههم به في الآخرة..

كما أنه قد حذّرهم من الفتنة من جهة، ومن العذاب الأليم من جهة أخرى، والعذاب الأليم إنما هو في الآخرة، وأما الفتنة فليست هي الهلاك والموت، وذلك ظاهر..

الدليل الثاني على التحريم:

إن ضرب الرؤوس بالسيوف، والظهور بالسلاسل، ونحو ذلك.. فيه توهين للمذهب، ومن موجبات السخرية والاستهزاء به..

مناقشة هذا الدليل:

ونقول:

إن هذا الدليل غير مقبول لأكثر من جهة وسبب..

أولاً:

إنه لا يدل على الحرمة الذاتية للجرح، والضرب بالسلاسل واللطم، بمعنى أن الضرب والجرح لو خليِّ وطبعه فهو حرام.. بل هو على ضد ذلك أدل وأظهر، لأنه يعتبر أن الحرمة إنما نشأت من عنوان عارض على الضرب، واللطم المؤلم وجرح الرأس، هو وهن المذهب، وإيجاب السخرية..

فمعنى ذلك: أن الضرب نفسه لو أوجب عز المذهب، لكان راجحاً ومطلوباً شرعاً، فأين هي الحرمة الذاتية لنفس الضرب، واللطم، والجرح؟!..

أليس هذا ظاهر الدلالة على أن نفس الفعل، لا اقتضاء فيه لشيء، ولكن التحريم قد كان بسبب الوجوه، والاعتبارات العارضة عليه..


 


ولسنا نناقش في هذا الأمر، بل هذا هو ما أفتى به فقهاؤنا، وليس هو محل الكلام، بل هو رجوع منه عن مدعاه..

ثانياً:

إن وظيفة الفقيه هي أن يخبر عن الحكم الشرعي، على سبيل الاشتراط والتعليق، فيقول: إن لزم من هذا الفعل توهين المذهب، فحكمه كذا..

والمكلف هو الذي يتولى تطبيق هذا الحكم على مورده، حين يرى أنه قد تعنون بذلك العنوان.

فإن كان العنوان هو توهين للمذهب فعلاً، فإن عليه أن يلتزم بحكم التوهين، وإن كان هو الإعزاز للمذهب، فإنه يؤدي واجبه في فعل ما فيه هذا الإعزاز..

وإذا رأى الفقيه أن المورد قد تعنون بعنوان التوهين للمذهب، فإن رؤيته هذه لا تلزم الآخرين في شيء، بل يكون في ذلك كواحد من الناس، يطبق لنفسه، وقد يخطئ في التطبيق، وقد يصيب.. وليس لصفة الاجتهاد أثر في تطبيقه هذا، ولا هي توجب ميزة له..

إلا إذا كان هذا الفقيه حاكماً، ورأى أن ثمة مصلحة للإسلام في المنع عنه، وأصدر حكماً ولائياً ـ لا مجرد فتوى ـ فإنه يطاع في هذه الحالة..

ولكن ذلك لا يصيّره حراماً ذاتاً، ولا قبيحاً عقلاً.. بل تبقى حرمته تابعة للعناوين العارضة له..

ثالثاً:

إننا إذا أردنا مجاراة بعض الناس في الحديث عن التطبيقات الخارجية، باعتبارنا من أفراد هذا المجتمع، فإننا نقول:

إن دعوى لزوم التوهين قد تكون صحيحة في بعض المواطن، لا


 


في جميعها، فلا تُقبل دعوى ذلك في جميع المواطن.. خصوصاً في بلاد شيعة أهل البيت [عليهم السلام]. فإنه لا يلزم التوهين في قم المقدسة مثلاً.. بل يلزم من ذلك تقوية الدين وعزته..

وسيأتي المزيد من توضيح هذه النقطة إن شاء الله تعالى..

الدليل الثالث على التحريم:

إن ضرب الرؤوس، واللطم المؤلم، وضرب السلاسل، فيه إيذاء للنفس، وإضرار بها، وهو محرم عقلاً وشرعاً.

مناقشة هذا الدليل:

ونقول: إن هذا الدليل لا يمكن قبوله، وذلك للأمور التالية:

أولاً:

إن من الواضح: أن جرح ولطم الإنسان نفسه وإيلامها، ليس من قبيل الظلم القبيح ذاتاً، والحرام شرعاً.. إذ لو كان كذلك لم يجز الحكم باستحباب الجرح في بعض الموارد، كالحجامة، والختان، وثقب أذن المولود.

ولم يجز نتف شعر الحاجبين للمرأة، وغير ذلك مما ورد في الروايات.

فإن الحرام والقبيح لا يصير مستحباً.

وتجويز ارتكابه في مورد التزاحم لا يغيره عن صفة القبح والحرمة الواقعية..

كما أنه لو كان ضرراً حراماً، أو كان قبيحاً عقلاً، كالظلم، لم يجز الإقدام عليه، في موارد المعالجة، خصوصاً في الأمور التي هي غير ذات


    


أهمية، كعمليات التجميل، وإزالة البثور عن الجلد.. ونحو ذلك.

بل إن بعض أنواع هذا الجرح، ومستوياته، ليس فيه اقتضاء القبح، فليس هو من قبيل الكذب الذي إن لم يطرأ عليه عنوان حسن، فإنه يبقى على صفة القبح الذي تقتضيه طبيعته.

بل هو خاضع في حسنه وقبحه للعناوين الطارئة عليه، فقد يحسن، وقد يقبح، وقد يرجح، وقد يكون مرجوحاً.. كما سيتضح.

وستأتي شواهد ذلك إن شاء الله تعالى.

ثانياً:

إن جعل اللطم، والجرح من مصاديق الضرر غير ظاهر الوجه، فإن للألم مراتب، ولا شك في أن بعض مراتب الألم ليست ضرراً.

بل إن بعض مراتب وموارد الجرح أيضاً، ليست ضرراً فالتعميم على سبيل ضرب القاعدة، والقول بأن الضرر حرام بقول مطلق، في غير محله..

ثالثاً:

ما هو الدليل على حرمة الضرر والإيذاء، فإن كان الدليل على حرمة الضرر، هو حكم العقل بوجوب دفع ما يقطع بأن فيه مضرة على الإنسان.. بل حكمه بوجوب دفع الضرر المظنون، بل والمحتمل أيضاً.. فهو أيضاً لا يمكن القبول به، ولا الالتفات إليه. كما سيتضح في الفصل التالي:

الإضرار.. والإقدام على الضرر..

بداية نقول:

هناك حالتان يختلف الحكم فيها:

الأولى:

الإضرار بالغير، بأن يتعمد شخص الإضرار بالغير، فهذا لا


 


شك في حرمته، بأي مستوى كان، إذ إن أي اعتداء على حقوق الناس، أو تعد على حدودهم، مرفوض وممنوع عنه شرعاً.. حتى لو كان هذا التعدي للحدود بمثل غمز جسد الطرف الآخر، أو الجلوس على فراشه، أو التصرف في آنيته، بدون إذنه، فكيف بما هو أشد من ذلك. كضربه، أو جرحه..

غير أن الشارع قد أذن ببعض التصرفات المرتبطة بالغير، منها ما يصل إلى حد الجرح، مثل الختان، وثقب أذن المولود..

بل هو قد أذن أو أوجب القتل أيضاً ـ كما في حالات الجهاد، والقصاص، ونحو ذلك..

الثانية:

الإضرار بالنفس، بأن يفعل الإنسان بنفسه ما يؤلمها، ويؤذيها، أو يدخل النقص عليها، ولهذا الضرر والأذى حالات ومراتب..

فإن كان مجرد أذى وألم، فإنه ليس من الأمور التي يحكم العقل بقبحها، كما أنه لا دليل على حرمته شرعاً.. بل لقد صرح الشارع للإنسان بإيلام بل بجرح نفسه في موارد كثيرة. وستأتي أمثلة ذلك..

وهذا يكشف عن أن مجرد الألم ليس ضرراً على الحقيقة، أو أنه ليس ضرراً في أكثر موارده، وأن إطلاق الضرر عليه، فيه مسامحة..

وحتى لو كان ضرراً على الحقيقة، فإنه ليس حراماً شرعاً، ولا قبيحاً عقلاً..

نعم، لو كان الضرر ليس مجرد ألم أو جرح، بل هو بمستوى قطع الأعضاء أو التسبب ببعض الأمراض الصعبة، فذلك مما لم يأذن الشارع به.. إلا في موارد معينة كما سنرى..

وبعد ما تقدم نقول:


 

  


العقلاء واحتمالات الضرر:

إننا حين نراقب السلوك العام للعقلاء، وهم يواجهون المخاطر، بهدف أن نتلمس ما فيه تنوع، يفيد في إعطاء صورة عن جهات البحث وموارده، فإننا نقول:

إن العقلاء يقدمون على الكثير من الموارد التي يحتمل فيها الهلاك، ومنها ما هو من سنن الحياة فيهم، التي ليس فقط لم يمنع عنها الشارع، بل هو قد حث عليها، وعمل على تنظيمها، والحفاظ على استمرارها، مثل:

إقدام النساء على الحمل، مع وجود احتمال حصول الموت حال الولادة، وقد حصل ذلك بالفعل كثيراً، وقد اعتبر الشارع من تموت حال الولادة بمثابة شهيدة..

وفي سياق آخر، فإن العقلاء يمارسون ركوب القطارات، والطائرات، والسيارات, والصعود إلى مواضع خطرة في الأشجار الباسقة، أو الأبنية الشاهقة، لمعالجة الأعمال فيها، وفي ذلك ما فيه من تعريض للنفس إلى المهالك، وقد حصل ذلك بالفعل، فهلكت أنفس كثيرة، ولم يمتنع العقلاء عن تلك الأمور، كما لم يمنعهم الشارع عنها أيضاً.

بل إن بعض الناس يعطي إحدى كليتيه لمريض آخر يعز عليه.. أو في مقابل مال يحتاج إليه..

وهذا يدل على أن احتمال الضرر ـ ولو كان هذا الضرر هو الهلاك ـ لا يوجب امتناع العقلاء عن السعي نحو أهدافهم، فكيف إذا كان هذا الضرر، مجرد جرح، لا يلبث أن يندمل، أو ألم لا يلبث أن يزول..

فلو كان ذلك مما تمنعه العقول، لتوقفت كثير من الأعمال، ولفشلت


 


كثير من الخطط..

وهذا يدل على أن ثمة حيثيات أخرى تدخل في حسابات العقلاء، في إقدامهم وإحجامهم، حيث يكون للمنافع والمضار، وللعناوين العامة، وغير ذلك دور في القبول وأثر في الرفض، وأثر في الإقدام والإحجام..

العقلاء والضرر المحتم:

بل إننا نشاهد في هذه العقود المتأخرة، فريقاً من الناس يقدمون على أمور فيها الهلاك المحتم لأنفسهم، مثل الإضراب عن الطعام حتى الموت، وذلك من أجل الضغط على حكامهم لتلبية مطالب لهم، معيشية، أو سياسية، أو غيرها.. ولا يستقبح ذلك الناس منهم، ولا ينكرونه عليهم، بل هم يعطونهم كل الحق في ذلك..

بل أصبح ذلك من الأساليب الشائعة.. فلو كان قبيحاً عقلاً لوجب أن يكون الأمر مختلفاً.

الشرع لا يشرع القبيح:

وواضح: أن الأمور القبيحة عقلاً، لا يمكن أن يشرعها الله سبحانه، ولا أن يأمر أنبياءه بممارستها، فهو تعالى لا يأمر بالظلم، ولا بكفران النعمة، ولا بالإساءة إلى محسن..

وها نحن نجد أن الله تعالى، قد أمر نبيه إبراهيم [عليه السلام] بذبح ولده النبي إسماعيل [عليه السلام]، رغم أن مقام النبي إسماعيل [عليه السلام] هو مقام النبوة..

ولم يطلب النبي إبراهيم [عليه السلام] من ربه البيان، ولا اعترض النبي إسماعيل [عليه السلام]، على أبيه، بأن هذا الذي تريد أن تفعله


 


قبيح شرعاً، فكيف تقدم عليه، وكيف يمكن أن يأمرك الله تعالى به..

قاعدة وجوب دفع الضرر:

وعلى كل حال، فإن القدر المتيقن هو وجوب دفع الضرر، في صورة ما إذا كان الضرر كبيراً يصل إلى حدّ التسبيب بالهلاك، أو الابتلاء بمرض صعب، دون أن يكون في مقابل ذلك ما هو أهم وأعظم.. من المصالح والقضايا التي تحتم عليهم التضحية والإقدام..

وذلك موضع إجماع، كما ذكره علماؤنا قدس الله أسرارهم(1). ويمكن القبول بأن مقتضى الحرمة موجود، كالحفاظ على النوع الإنساني، أو نحو ذلك.. إلا إذا زوحم بمقتضي آخر أقوى منه، فالتأثير يكون للأقوى..

ولكن الضرر الذي هو دون ذلك، كالجرح اليسير الذي لا يؤدي إلى إتلاف عضو، والمرض اليسير كالزكام ونحوه، فقد يقال: إن العقل لا يحكم بلزوم دفعه، وليس فيه اقتضاء لشيء بعينه، بل الأمر تابع فيه للعناوين والحالات الطارئة. في كل مورد بخصوصه..

للتوضيح فقط:

ولمزيد من التوضيح لمراتب الضرر وحالاته، نقول:

1 ـ إن هناك ما هو قبيح ذاتاً، فلا يمكن أن يكون حسناً، مهما طرأ عليه من أحوال. وذلك مثل الظلم، ومجازاة الإحسان بالإساءة،. وهناك ما هو حسن كذلك كالعدل وشكر المنعم.. فإن الظلم قبيح في جميع

____________

(1) راجع: الجواهر ج5 ص104 و105.


 


الأحوال، بمجرد وجوده وتحقق عنوانه.. والعدل حسن كذلك.. ويستحيل أن يكون الظلم حسناً، والعدل قبيحاً..

وجرح النفس واللطم ليس من هذا القبيل حتماً وجزماً، فقد يكون الجرح حسناً ومحبوباً للشارع، كالحجامة ونحوها..

2 ـ هناك ما فيه اقتضاء القبح، بمعنى أنه لو خلي وطبعه، لكان على ما هو عليه من الاقتضاء المؤثر.. إلا إذا زاحمه مقتضٍ آخر، كأن طرأ عليه عنوان يحبه الشارع، فإنه يصيّره بذلك حسناً، وذلك كالكذب، فإنه إذا طرأ عليه عنوان نجاة نبي من القتل مثلاً، فإن اقتضاءه للحرمة يزول، ويحل محله اقتضاء آخر، فيصير نفس الإخبار بخلاف الواقع حسناً وواجباً..

وكذلك الحال بالنسبة إلى ما يكون فيه اقتضاء الحسن، كالصدق مثلاً. فقد يصبح حراماً، كالمثال المذكور آنفاً..

وقتل النفس من هذا القبيل، فإنه ليس قبيحاً ذاتاً.. إذ لو كان كذلك لم يصح الأمر به على سبيل العقوبة، أو القصاص، ولم يصح أمر الله سبحانه نبيه إبراهيم [عليه السلام].. فإن القبيح ذاتاً لا يمكن أن يصبح حسناً أصلاً، تماماً كما هو الحال في الظلم مثلاً، فإنه كلما وجد، يوجد على صفة القبح، وحين يزول عنه القبح، فإنه لا يعود ظلماً، بل يصير عدلاً، أو إحساناً.

وقطع الأعضاء أيضاً كذلك، فإن فيه اقتضاء القبح، ولكن إذا توقف العلاج على قطعها، أصبح ذلك سائغاً، وربما لازماً، وواجباً أيضاً..

3 ـ وهناك ما لا اقتضاء فيه لحسن ولا لقبح، بل هو في ذلك تابع للعناوين التي تطرأ عليه، وذلك مثل القيام، الذي قد يكون مبغوضاً حراماً، كما إذا كان تعظيماً لفاجر، وقد يكون راجحاً محبوباً كما إذا كان تعظيماً لمؤمن..

 


     


وبعدما تقدم نقول:

قد يقال: إن ما يفعله الناس في حياتهم العادية, مما يسبب لهم تعباً، ونصباً، كقلع الصخور، وحمل الأثقال، والعمل في الحقول حتى تجرح آلات العمل أيديهم، وتلفح الشمس وجوههم، وكذا ما يدخل في سياق أهدافهم العقلائية. مثل: ثقب الأنوف والآذان، لتعليق الخزائم، والأقراط، وكذلك الختان، ونتف النساء لشعر الحاجبين، أو نتف شعر الأنف والإبطين.. وكذلك الوشم، وغير ذلك، إن ذلك كله قد يقال: إنه من هذا القسم الأخير، مع أنه يتضمن جرحاً، ووخزاً بالأبر، وألماً. فإن تَعَلُق غرضهم بهذا الأمر، هو الذي جعل الإقدام عليه راجحاً بنظرهم، إذ إنهم لا يفعلون ذلك من أجل العبث واللهو.

وليس ترك بعضهم لمثل هذه الأعمال، لأجل أن عقولهم قد منعتهم، من حيث أنها تحكم بقبحها ذاتاً، وإنما استثقالاً منهم للألم، وإيثاراً للراحة، وحباً بها، أو لعدم ميلهم إلى تلك الأمور، لأنهم لا يرون لها قيمة تذكر..

وفيما بين هذين الحدين: أعني قتل النفس من جهة، ونتف الشعر أو الوشم وثقب الأذن من جهة أخرى.. مراتب بعضها أشد من بعض، ومنها المرض اليسير كالزكام، الذي حكم كثير من الفقهاء(1) بأنه لا يسوِّغ الانتقال من الوضوء إلى التيمم.

____________

(1) جواهر الكلام ج5 ص105 عن المعتبر، والمبسوط، وظاهر تحرير الأحكام، والشرايع بل في المبسوط نفي الخلاف عنه وعن الخلاف والمنتهى: بل ربما استظهر الإجماع عليه. والموجود فيهما المرض لا يخاف منه التلف، ولا الزيادة فيه وذهب إليه صاحب الجواهر أيضاً.


 


ومن هذه المراتب، ما ورد عن الشارع الأمر به استحباباً، أو طلباً لتأكيد حالة الصحة والسلامة البدنية، مثل ما ورد من الحث على الحجامة، أو الأمر بالفصاد، والختان، وثقب الأذن، ونحو ذلك مما فيه جرح وإدماء(1).

وجرح الرؤوس في مراسم عاشوراء، وكذلك ضرب السلاسل، فضلاً عن اللطم، ليس بأشد من أمر الحجامة، فضلاً عما هو أعظم منها كما سنرى.. فكيف يدَّعى أن ذلك حرام ذاتاً، أو قبيح عقلاً، وأنه من الضرر الواجب دفعه؟! إن هذه الدعوى فيها الكثير من المجازفة.. خصوصاً إذا لاحظنا أنه لا يترتب على هذه الأفعال، لا هلاك، ولا مرض، بحسب العادة..

وفي مختلف الأحوال.. فإن ذلك كله إذا تعنون بعنوان راجح: واجب أو مستحب، فإنه يأخذ حكم ذلك العنوان.. وإذا تعنون بما هو مبغوض ومرجوح، فكذلك..

الأدلة السمعية على حرمة الضرر

هذا كله لو كان الدليل على حرمة الضرر المحتمل أو المظنون، أو المقطوع به، هو العقل، أما لو كان الدليل عليه هو الأدلة السمعية، فنقول:

إنه ليس ثمة من دليل سمعي، قادر على إثبات أن الأضرار بالنفس، وإيذاءها محرم بجميع مراتبه، بل إن ذلك لم يقل به أحد ممن يعتد

____________

(1) ويلاحظ أن الشارع الحكيم، الذي شرع أحكاماً تقوم على أساس الرفق والرحمة بالحيوان، والمنع من التعدي عليه وأذاه. قد شرع أيضاً لزوم شق سنام الإبل حين الإحرام، وفي بعض الروايات أن ذلك بمنزلة التلبية، مع أن ذلك فيه بعض الأذى لذلك الحيوان.


 


بقوله من العلماء. فالقدر المتيقن من الإيذاء المحرم، هو ما يؤدي إلى الهلاك، أو ما كان ضرراً بالغاً، يصل إلى حد قطع عضو، أو التسبب بحدوث مرض عضال.

ولم يوردوا أدلة سمعية على ذلك سوى ما ذكرناه، من الاستناد إلى قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وقد ذكرنا فيما تقدم: أنها إنما تنهى عن الهلاك الأخروي الذي هو التعرض لغضب الله عز وجل، بسبب عدم امتثال أوامره في الإنفاق في الجهاد.. فالتهلكة في الآية هي الأخروية.. وهناك إشكالات أخرى على استدلالهم بهذه الآية تقدمت، فلا حاجة لإعادتها..

واستدلوا له أيضاً بقوله تعالى(1): {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}. حيث دل على حرمة قتل النفس، ولا سيّما بملاحظة الآية التالية لها، وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً}.

ولكن في دلالة هذه الآية أيضاً مناقشات.. لكن الذي يهون الخطب، هو: أن حرمة أن يقتل الإنسان نفسه، مما لا ريب فيها، ولا شبهة تعتريها، حتى إنها قد تلحق بالضروريات..

فلا حاجة إلى إقامة الأدلة على ذلك، ولا ضرورة للنقض والإبرام فيها.

وأما ما دون القتل من مراتب الأذى، فلا يمكن الحكم بحرمته بصورة قاطعة، بل لا شك في جواز بعض مراتبه كما ظهر مما تقدم، وسيزيد وضوح ذلك فيما يأتي أيضاً..

____________

(1) سورة النساء/ 29 ـ 30.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

استشهاد الإمام الهادي علیه السلام
التزكية والعمل الاجتماعي
ولادة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)
القصيدة التائية لدعبل الخزاعي
الرسول والنساء
من حكم وأقوال الإمام الهادي عليه السلام
الصِّلة بين الإنتَاج وَالتَداول
الاحتفال بذكرى الانبياء و عباد اللّه الصالحين
باب علة الغيبة
الشعائر الإلهية في الذكر الحكيم

 
user comment