عربي
Sunday 29th of September 2024
0
نفر 0

الأزمة الكبيرة في عالمنا المعاصر

الأزمة الكبيرة في عالمنا المعاصر:

إنّ أنسب اسم يطلق على العصر الذي نعيش فيه، وخصوصاً في العقود الأخيرة هو اسم الأزمة الثقافية، وقد مرّ على تاريخ التمدّن البشري مراحل مختلفة أطلق عليها أسماء خاصة وبمناسبات متعددة، ولكن لعلّه لم تمرّ أزمة ثقافية بهذه السعة والشمولية في أيّ مرحلة من المراحل، حيث تواجه أكثر دول العالم أزمة باسم الأزمة الثقافية. فإذا نظرنا اليوم إلى المسائل الثقافية في البلدان المتقدمة لوجدنا الضياع والإبهام والمأساوية العجيبة، ووجدنا التشكيك الفكري الشديد الذي لم يُعهد له مثيل على مرّ التاريخ.

فقد مرّ على الساحة الثقافية اليونانية في العهد القديم مجموعة باسم السفسطائيين كان لهم بعض الوجود والظهور ولكن ما فتئ أن بردت حركتهم التشكيكية وانتهت، وفي القرن الأول والثاني للميلاد، ظهرت موجة الشك ثانيةً على يد «بيرون» وبعض اتّباعه، إلا أنّها لم تمكث مدة طويلة، وكانت الموجة الثالثة بعد عصر النهضة، وكان لها النفوذ والشمولية أكثر من أيّ مرحلة سابقة، إلا أنّها مع ذلك لم تكن لتشمل كلّ المحافل الثقافية والجامعية في العالم، ولكن وجدت في السنوات الأخيرة موجة جديدة تدعو للشك، وهي أشدّ وأوسع بكثير من الأمواج السابقة، تشمل جميع المحافل العلمية والثقافية والجامعية في العالم إلا بعض الموارد الاستثنائية؛ فقد ساد الضياع والاضطراب الثقافي ولاقت جميع أنواع الفلسفات والمدارس التشكيكية والنسبية وأنحائها ـ التي وإن لم تحمل اسم الشك ظاهراً إلا أنّ محتواها لا يخلو من عناصر التشكيك ـ، رواجاً إلى درجة أصبح يُستهزأ في الجوّ الثقافي العالمي بالذي يدَّعِي الجزم واليقين في بعض المسائل، وإذا أرادوا أن يُحقِّروا أحداً اتهموه بأنّه من اتباع مدرسة الجزم واليقين.

نعم، لقد أصبحت مدرسة الجزم عاراً علمياً، ولاقى في المقابل مذهب الشك والنسبية والنفي المطلق رواجاً عاماً، تسلّط على الفضاء الفكري والثقافي للعالم، وأصبح فيه من يدعي اليقين ببعض الأشياء وأنّه يفهمها بشكل كامل ساذجَ الفكر ويتهم بعدم العمق العلمي والمعرفي.

لقد قلت في أحد الأماكن إنّ إطلاق اسم عصر الجاهلية الجديد على هذا العصر اسم على مسمى، حيث إنّهم يفتخرون بقولهم: لا نعلم، ويقولون: علينا أن نصل إلى مستوى نفهم جيداً أنّ كلّ شيء مشكوك، ولا يوجد شيء يقيني، بمعنى الاعتراف بالجهل والشك في كلّ شيء. نحن نواجه هذه الجاهلية الجديدة مقابل تلك الجاهلية التي ذكرها القرآن بعنوان الجاهلية الأولى: {...وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ...}([1]).

فهم يعتبرون أنّ أتباع مدرسة الجزم واليقين دليل الانحراف واللاوعي، ونحن نرى في المقابل أنّ أتباع مذهب الشك والنسبية المطلقة، التي يُدافع عنها في هذه الأيام، دليل الجهل والغباء، فقد تعلّمنا من القرآن الكريم السعي خلف المعارف اليقينية، وطرد الشك وامتلاك اليقين، ففي صفحات القرآن الأولى وفي بداية سورة البقرة يقول الكتاب الكريم: { وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}([2])وهذه هي الثقافة القرآنية، كلّما أرادت أن تلوم الأفراد والجماعات الضالة وصفتهم بأنهم أتباع الشك، على عكس ما نراه هذه الأيام تماماً حيث يصفون من يتهمونه بعدم المعرفة العلمية بأنه من أتباع اليقين !!

التعددية والتسامح والتساهل آليّات لعمل صانعي الأزمات:

نحن نعتقد أن النسبية ومذهب الشك آفة كبيرة على المجتمع البشري، ونقصاناً لمجتمعنا، وتؤدي إلى ضياع كلّ القيم والثقافة والاعتقادات التي ضحّينا من أجلها قروناً. والآن ماذا نفعل في مقابل موجة الشك العالمية التي نعتبرها أزمة ومرضاً خطيراً؟ ونحن باعتبار أنّ لنا حكومةً وبلداً إسلامياً ماذا يجب أن نفعل في المجال الثقافي، علاوة على ما يجب فعله في المجالات الأُخرى من اقتصاد وصناعة وعلم؟ ومن الطبيعي أنّنا لا نقصد من الثقافة ذلك الاصطلاح الجديد الخاص بالرقص والموسيقى والغناء، وإنّما نعني القيم والمعتقدات الدينية، ونحن نعتقد أنّ الإسلام يمتلك مجموعة من الأصول والقيم الثابتة والقطعية الأصيلة، وعلينا أن نحافظ عليها أولاً، وندعو الآخرين إليها ثانياً، لا أن نتراجع وننفعل في مقابل أمواج العلمانية والليبرالية والتعددية ومئات التيارات الفكريّة الأُخرى، ويسعى اليوم أعداء الإسلام بشتى الحيل والتزويرات المختلفة الثقافية، لتضعيف اعتقادات وقيم الناس لا سيما الشباب منهم، ومن تلك الحيل ترويج ذلك الفكر الخطير الذي يحمل اسم التعددية.

التعدّديون:

يقول التعدديون: يتملك الناس أفكاراً مختلفةً وأذواقاً متعددةً، وكلّ فكر وذوق يتبناه الشخص أو المجتمع محترم لديه، ونحن علينا أن ننظر إليه نظرة احترام أيضاً، ونحن إذا كنّا نمتلك فكراً أو ذوقاً معيَّناً فعلى الآخرين أن يحترموا ذلك أيضاً، فلا ينبغي لنا التعرض لأفكار الآخرين، ولا نأبى أن تحلّ أفكار الآخرين مكان فكرنا، فليس لأحد الحق أن يعتبر رأيه وفكره حقاً بشكلٍ مطلق، بل عليه أن ينتبه إلى أن هناك أفراداً آخرين لهم فكرهم ورأيهم. وما هو الدليل على أن فكرك هو الصحيح وفكر الآخرين خطأ؟ وبأيّ دليل تُخطِّئ فكر الآخرين وتصحّح فكرَك؟ فإذا اعتنقتم الإسلام فغيركم يعتنق المسيحية أو البوذية أو أيّ دين آخر، ولا يوجد أيّ دليل على أنّ إسلامكم أفضل من بقية الأديان؛ فلا بدّ أن يسود الاحترام فيما بيننا ويحترم كلّ منّا عقائد الآخر، وأن لا نتعصب ونسعى لإظهار ديننا وإبطال دين الآخرين، بل لا بدّ من أن يسود التسامح والتساهل في التعاطي مع أفكار وعقائد الآخرين، ونُبقي مجالاً لذلك الاحتمال، وهو : >لعل الآخرين على صواب<.

ويعتبر هذا التفكير ـ كما أشرنا ـ وسيلة تستفيد منه القوى الاستعمارية في العالم للحدّ من انتشار الثقافة الإسلاميّة وبالخصوص الثورة الإيرانية، ولإيجاد الأرضية للثقافة المادية والإلحاديّة الغربية. وقد اتبعت بعض وسائل الإعلام وبعض المنابر هذا الخط الفكري، واتسعت دائرته إلى درجة تأثّرت به بعض الشخصيات التي لم نكن نتوقع منها ذلك أبداً.

مسؤوليتنا المهمّة تجاه الشباب:

لقد كانت شخصية الإمام + وعظمته كبيرة جداً تؤثّر على أفكار وروحيّة مريديه ومُحبّيه، وكانت تلقى كلمات الإمام + وأفعاله قبولاً ولا تواجه أيّ اعتراض وأي ترديد؛ وهذه المسألة كانت ملازمة لشخصيته الاستثنائية ولذا لا يمكن لها أن تبقى دائماً ولجميع الأجيال، ومن هنا كان علينا أن نفكّر ـ إذا كان نهجه وفكره صحيحين واقعاً ـ كيف ندافع ونحافظ على هذا النهج ونقوم بالترويج له، ولا يكفي أن نقول للأجيال الصاعدة: «هكذا تصرّف الإمام وهكذا قال»، فإنّ ذلك الحبّ والحماس الموجود في جيل الثورة الأول، وما كنّا نراه من عشق للشهادة والجهاد، من الطبيعي أن لا يكون موجوداً في الأجيال اللاحقة التي لم ترَ الجمال الملكوتي للإمام + عن قرب، ولم تسمع توجيهاته في كلّ يوم وكلّ أُسبوع، فلذا علينا أن نبيّن للأجيال ذلك النهج بالمنطق والاستدلالات المقنعة.

نحن لو وضعنا أنفسنا مكان الشباب الذي بلغ الرشد والعقلانية جديداً، والذي يواجه كلّ يوم آراء وثقافات مختلفة ومتناقضة، لوجدنا أنّ المسائل ليست على تلك البساطة التي نظن، بل يلحّ السؤال في كيانهم بأنّه ما الدليل على صحة وأحقية رأي ونهج الإمام + من بين جميع هذه الأفكار والآراء المختلفة والمتضادة؟

وما هو الدليل على أن الإسلام أفضل الأديان؟

أليس في العالم جماعات تتبع المسيحية أو أديان مختلفة أُخرى، من أين نعلم أنّ دينهم وعقائدهم ليست أفضل من الإسلام وأفكار الإمام؟

لماذا علينا أن نقبل الإسلام والثورة والإمام وأفكاره؟ وأسئلة أُخرى كذلك كلها مسائل موجودة في أذهان شبابنا تجول في خاطرهم ويصرّحون بها أحيانا على ألسنتهم. وبهذا البيان يتضح أن الأرضية الذهنيّة ملائمة لترويج التعددية ومذهب الكثرة في المجال الديني والثقافي.

ويجيب المذهب التعددي عن هذه الأسئلة المطروحة وأمثالها: بأنّ الإنسان مخيّر بانتخاب الدين الذي يرغبه من بين هذه الأديان الموجودة، حيث إنّها كلّها على حدّ سواء، وكلها أديان جيدة رغم وجود بعض الاختلافات البسيطة فيما بينها! ولا يمكن أن نعتبر الإسلام أفضل من غيره لأجل اتّباع مليار مسلم في العالم له وذلك لوجود خمسة أضعاف هذا العدد تعتقد بغير الإسلام.

وقد صادفت أشخاصاً متعددين في بلدان مختلفة يعتنقون المسيحية، ولكن في نفس الوقت يقولون: إنّ الإسلام دين جيد، وعندما كنت أسألهم: لماذا لا تعتنقون الإسلام؟ كانوا يجيبون: لأنّ الدين المسيحي دين جيد أيضاً. وحتى البابا قد اعترف بأنّ الإسلام دين سامٍ ومتحضّر، ولكن لا يعني ذلك منه أنّ المسيحية دين رديء أو أنّ الإسلام أفضل من المسيحية، وإنما عندنا دينان كلّ منهما جيد وهما: الإسلام والمسيحية.

ولو صادفنا زعيم البوذيين ـ حيث يتبع هذا الدين ملايين الناس في العالم ـ فمن المحتمل أن يقول أيضاً: البوذية دين جيد والإسلام كذلك.

هذه هي التعددية الدينية، وهي تعني أنّه لا يوجد دين واحد جيد فقط بل الأديان الجيدة متعددة، ولا ينبغي أن يصرّ الشخص على أنّ شرط دخول الجنّة والسعادة الأبدية هو الإسلام، بل يمكن أن يكون المسيحي والزردشتي والبوذي وغيرهم من أهل الجنّة والسعادة. وكذلك بالنسبة للمذاهب المتعددة في دين واحد، فكلها على حق وجيدة ولا ترجيح مذهب على آخر، فليس للشيعي مثلاً أن يُخطِّئ السني، وليس للكاثوليكي أن يُخطِّئ البروتستانتي أو الأرثوذكسي، وهكذا.

ماذا يقول التعدّديون؟

يقوم التعدديون لتأييد التعددية الدينية بالاستشهاد بمظاهر مختلفة من التعددية، فعلى سبيل المثال يقولون: إنّ من يدير دول العالم اليوم أنواع وأنظمة مختلفة من الحكومات، ففي بعض الدول المتقدمة كاليابان وبريطانيا يسود النظام الملكي، وفي كثير من الدول يسود النظام الجمهوري، والنظام الجمهوري على أنحاء متعددة، فبعض يعتمد على الرئاسة وبعض يعتمد على البارلمان، وعندما يطرح هذا السؤال «أيّ نظامٍ أفضل من بين هذه الأنظمة؟» فإنّنا لا نجد جواباً قاطعاً في أبحاث فلسفة السياسة، بل نراهم يقولون: إنّ كلّ واحد من هذه الأنظمة له محاسنه وله مساوئه، ولا نقول عن واحد منها بأنه رديء، بل كلّها جيدة، وفيها مطالب جيدة، وهذه هي التعددية السياسية؛ أي عندما نريد أن ننتخب نظاماً سياسياً فليس من الضروري أن نقول: إنّ هناك نظاماً واحداً فقط جيد وصحيح، وبقية الأنظمة باطلةٌ وفاسدة.

وكذلك الأمر بالنسبة لتعدد الأحزاب السياسية وائتلافها بالنسبة لتشكيل الدولة والحكومة، فإنه مثال آخر للتعددية السياسية، فلا يمكن القول بأنّ حزباً واحداً من بين الأحزاب المختلفة في البلد والتي لها آراؤها السياسية المختلفة، هو الصحيح ونقوم بوضع بقية الأحزاب جانباً. وإذا أجمع الناس تقريباً في بلد ما على تأييد حزب معين، فإنّ ذلك علامة على تخلف البلد وانحطاطه بنظرهم، وأما البلد الراقي والمتمدّن بنظرهم فهو ذلك البلد الذي فيه اتجاهات سياسية متعددة وكلّ مجموعة من الناس تتبع حزباً غير ما تتبعه المجموعة الأُخرى، وهذا التباين في الآراء بين الأحزاب المختلفة يؤدّي إلى المنافسة بين الأحزاب، فتكون الأحزاب البعيدة عن الحكم مراقبة للأحزاب الحاكمة، وكلّ من الأحزاب يترقب ضعف وأخطاء الأحزاب الأخرى، وينجرّ هذا الاختلاف إلى أن تراقب الأحزاب نفسها بحذر، وتسعى لجبران النقص والضعف والإنحرافات لتكون أعمالها جيدة وسالمة فينالوا رأي الناس ورضاهم، وكلّ ذلك يؤدّي إلى تقدّم عمل المسؤولين والسياسيين في البلاد، بما يرجع بالنفع على عموم أفراد ذلك المجتمع، وعلى هذا الأساس نرى أنّ التعددية السياسية وكثرة الأحزاب أمراً مفيداً ومطلوباً، وأما الأنظمة السياسية ذات الاتجاه الحزبي الواحد فغير مفيدة ولا تؤديّ ما تؤديه الأنظمة ذات الاتجاهات المتعددة الأحزاب.

وأما الكلام عن المجالات الاقتصادية، فواضح للغاية، بأنّ تعدّد وازدياد القدرات والأقطاب الاقتصادية أمر مطلوب فعلاً، بخلاف الاقتصاد الذي يعتمد على قطب واحد فإنّه لا يمكن تبنيه ولا الدفاع عنه لما فيه من عيوب ومضار كثيرة. وفي مجال تعدد القدرات والأقطاب الاقتصادية نرى وجود رقابة فيما بينهم تجعل السلعة والبضاعة تصل إلى المستهلك بأفضل كيفية وأرخص قيمة، وينمو الاقتصاد ويتسع بالشكل المطلوب، بينما إذا لاحظنا الاقتصاد المنحصر بقدرة وقطب واحد، فلن نرى تلك الرقابة التي تجعل من البضاعة على ذلك المستوى من الكيفية الجيدة أو القيمة المنخفضة، ولا نرى ذلك النمو الاقتصادي المطلوب. إذاً التعددية الاقتصادية أمر مفيد ومطلوب أيضاً.

فالتعدّديون عندما يذكرون هذه الموارد ينتهون إلى هذه النتيجة، وأنّ التعدّدية كما هي مفيدة ومطلوبة في مجال السياسة والاقتصاد، لا بدّ أن تكون مفيدة ومطلوبة في مجال الدين والثقافة أيضاً، فلا بدّ أن تكون الساحة الاجتماعية محتملة لجميع الأديان، ولا بدّ أن نعتقد أيضاً أن لا تفاضل بين الأديان بتاتاً، وأنّ قبول أحد الأديان يساوي قبول الآخر، وأنّ تقسيمها إلى ما هو حق وما هو باطل، أو إلى ما هو كامل وما هو ناقص، أو إلى ما هو جيد وما هو رديء، تقسيم لا معنى ولا أساس له، فالإسلام والمسيحية، والشيعة والسنة، والبروتستانت والكاثوليك وجميع الأديان والفرق والمذاهب كلّها طرق إلى الحقيقة الواحدة، وكلّها سبل مستقيمة إلى المنزل المقصود وساحل النجاة، وأما التعصّب لأيّ واحد منها فعلامة على قلّة العقل، فالعاقل الذكي كما يقبل بالتعددية الاقتصادية والسياسية، كذلك يقبل بالتعددية الدينية ويكون تعدد الأديان بالنسبة له أمراً طبيعياً ومقبولاً ومعقولاً.

هذا هو الفكر الذي يُروّج له في المجتمع بأساليب مختلفة، وكما أشرنا سابقاً بالنسبة للسؤال الذي فرض نفسه على شبابنا وهو ـ بعد أن سلّمنا بالتعددية في مجال السياسة والاقتصاد، وأنّه لكي يحصل الاقتصاد مثلاً على نموه المطلوب في بلد معين ينبغي أن لا نجد عندهم وجهة نظر واحدة بل الاختلاف بينهم طبيعي جداً، ولا ضرورة لأن يتفقوا في وجهات النظر ـ لماذا لا نقبل بالتعددية في مجال الثقافة والدين؟ ويترقى السؤال عندهم: لماذا الإصرار على الإعتقاد بالإسلام أو المسيحية؟ وما هي الضرورة الداعية لأن يعتقد الإنسان بوجود الله؟ فإنّ هناك أشخاصاً كثيرين لا يعتقدون بوجود الله أو على الأقل يشكّون بوجوده، وهذه عقيدة أيضاً إلى جانب تلك المعتقدات، فلماذا لا نتبنّى هذه العقيدة؟

وعلى هذا الأساس نرى أن المسألة جدّية وأكبر من أن تُحلَّ بكتاب، وتستدعي أن نشمِّر عن سواعد الجدّ فنستقبل أسئلة الشباب برحابة صدر، ونقدّم لهم الأجوبة المنطقية والاستدلالية.

الردّ على الدليل الأول للتعدّديين:

وأمّا في مقام الجواب على ما ذكره التعدديون من مؤيدات فنقول:

إنّنا لا نرى وجود أيّ تلازم منطقي بين قبول الكثرة والتعددية الاقتصادية والسياسية، وبين قبول التعددية في الدين والثقافة، وبعبارة أُخرى: إنّ البيان الذي قدموه يتلخص بهذه المقولة، وهي: «بما أن التعددية في الاقتصاد والسياسة وأُمور أُخرى مفيدة ومطلوبة، فهي إذاً في مجال الدين والثقافة مفيدة ومطلوبة أيضاً». وهذه المقولة ليست إلا إدعاءً صرفاً لم يقم على إثباتها أي دليل، وهي تشبه كلام من يقول: «بما أنّ وجود أحد عشر لاعباً في كرة القدم أمر مطلوب، فوجودهم كذلك في لعبة كرة السلة أمر مطلوب أيضاً»، وهذا كلام عجيب ومضحك وليس إلا دعوى بدون دليل.

ولأهمية هذه المسألة نقوم بتوضيحها بشكل أكثر:

نحن نسلِّم أنّ في مسائل الاقتصاد والسياسة وأمثالهما لا نجد جواباً واحداً، وأنّ التعددية في مسائلها أمر ممكن وقد يكون مطلوباً أحياناً، ولكن لا ننسى أنّه عندنا مسائل كالرياضيات والفيزياء والهندسة وأمثال ذلك ليس لها إلا جواباً واحداً، ولا يُتصور أن يكون لها أجوبة متعددة، فعلى سبيل المثال( 2×2 )في الرياضيات تساوي (4) لا أكثر ولا أقل؛ وفي الهندسة قام البرهان على أنّ مجموع زوايا المثلث يساوي 180 درجة ولا يوجد أيّ جواب آخر؛ وقد ثبت في الفيزياء أنّ المسافة التي يقطعها الشيء المتحرك في زمان معين وبسرعة محددة ليس لها إلا جوابا واحدا، تحصل عليه من خلال هذه المعادلة (d = v. t )، فهل أحد يدعي أنّه كما في السياسة والاقتصاد توجد آراء متعددة ونظريّات مختلفة ولا يوجد جواب واحد كذلك في مسألة ( 2×2 )، وأن كلّ رياضي يستطيع أن يعطي جواباً غير الرياضي الآخر؟ ولا يخفى أنّه من الممكن أن نجد في مسائل الرياضيات عدة حلول للمسألة، وكلّ رياضي يعطي حلا جديداً، ولكن جميع هذه الحلول سوف توصل إلى جواب واحد صحيح، ووجود عدة حلول بعيد عن بحثنا الذي هو وجود جواب صحيح واحد.

إذاً هناك في مجال المعارف البشرية مسائل من الممكن أن يكون لها عدة أجوبة، كما أنّه هناك مسائل لا تحتمل أكثر من جواب واحد، ونحن نطرح سؤالاً أساسياً للقائل بالتعددية الدينية، وهو: كيف حكمت بأنّ الدين من تلك المسائل التي لها أكثر من جواب واحد؟ وإذا قلت لنا: إن الدين مثل السياسة والاقتصاد، وهم يحتملون عدة أجوبة والتعدد مفيد ومطلوب لهم، قلنا لك في المقابل: كلا إنّ الدين مثل الرياضيات والفيزياء ليس لهم إلا جواباً واحداً صحيحاً، ونحن نقول: إنّ السؤال عن الله «هل هو موجود أم لا؟» تماما مثل المسألة( 2 × 2 ) لا يوجد لها إلا جواباً واحداً صحيحاً لا غير.

الدليل الثاني للتعدديين:

ويتمسك التعدديون لإثبات مدعاهم ببيان آخر، فهم يقولون: إنّ الأُمور البشرية تنقسم إلى قسمين: قسم من الأُمور حقيقي وواقعي، وقسم آخر من الأمور اعتباري وجعلي، أما الأُمور الحقيقية فهي تلك المسائل التي لها جواب واحد فقط، وأما الأمور الجعليّة والاعتبارية فهي تلك المسائل التي ليس لها أيّ حقيقة واقعية وراء الجعل والاعتبار وذوق الناس، ولذا فهي تختلف باختلاف الاعتبار وباختلاف أذواق الناس والمجتمعات، على خلاف الأُمور والقضايا الواقعية التي لا تتبع الذوق والاعتبار، فإنّ مساحة هذه الغرفة مثلاً تبقى على ما هي عليه واقعاً مهما تغيّرت الأذواق والاعتبارات. كما أنّه في الأمور الاعتبارية لا يستعملون أمثال هذه الألفاظ: أفضل وأسوأ، حسن وقبيح، صحيح وخطأ، وإن كان لا بدّ من استعمالها فأفضل لفظ هو أن نقول: كلّها حسنة وجيدة، فإذا كان شخص يحبّ اللون الأخضر والثاني يحبّ اللون الأحمر فلا يحقّ لأحدهما أن يخطّئ الآخر، ويقول: إن ذوقك قبيح وخطأ وأمثال ذلك، بل الحق أن يقول: اللون الأخضر جميل وكذلك اللون الأحمر؛ والنتيجة التي نستفيدها هي أن الأُمور الاعتبارية ليس لها جواب واحد، بل تحتمل عدّة أجوبة.

ويدعي التعدديون أنّ الدين والثقافة والقيم كلّها من جملة الأمور الاعتبارية تتبع الذوق والجعل والاعتبار، فكما أنّ الجواب عن «أي لون أفضل؟» ليس واحداً، وبتعبير أدق؛ لا معنى لهكذا سؤال، كذلك الأمر بالنسبة للجواب عن «أي دين أو ثقافة أو مجموعة من القيم أفضل أو أصح؟» فهو ليس جواباً واحداً.

وبتعبير أدقّ: لا معنى لهكذا سؤال، وقبول زيد للإسلام أمر جيد، وقبول عمرو للمسيحية جيد أيضاً. وإذا قال شخص: إنّ الله واحد فهذا صحيح، وإذا قال آخر إنّ الله ثالث ثلاثة فصحيح أيضاً؛ بل لو قال شخص: إنّ الله موجود، وقال الثاني إنّه ليس بموجود فكلّ منهما على حقّ وقوله صحيح، فأنا أُحب أن أُصلي إلى الكعبة وأنت تحب أن تصلي إلى بيت المقدس، ولا فرق في ذلك أبداً لأنّ كلا الأمرين حسن وجيد، تماماً مثل رجلين أحدهما يحبّ هذا الغذاء والثاني يحبّ الغذاء الآخر، ونفس الكلام يجري في مجال الدين، فأنا أختار الإسلام وأنت تختار البوذية مثلاً ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، ولا نزاع بينهما أيضاً، حيث إنّ كلا الأمرين حسن.

وكذلك الأمر في مجال الثقافة، فرفع الإصبع بشكل خاص في الثقافة الغربية علامة على الفوز والموفقية، بينما نفس هذه الحركة في الثقافة الإيرانية علامة الفحش والإهانة، ولا يمكن لنا أن نتّهم الغربيين بهذا العمل حيث إنّه مجرد اعتبار وجعل فيما بينهم، والأُمور الدينية كالأُمور الثقافية كلّها اعتبارية وجعلية.

ويصطلح على هذه المسألة التي أشرنا إليها والتي يستند إليها التعدديون لتأييد التعددية الدينية باسم (النسبية في القيم).

خلاصة البحث وتسلسله:

وخلاصة بحث النسبية في القيم هي: أنّ المسائل القيمية والأخلاقية ليس لها حقيقة وراء الذوق والاعتبار، تتفاوت بين الأفراد والمجتمعات المختلفة، فكما أنّ المزاج في الطعام واللون يختلف من شخص إلى آخر، كذلك الأمر في القيم والحَسَن والقبيح، وكما أنّه في اللون والطعام لا يوجد فيه جيد بشكل مطلق، بل عند بعض جيد ومرغوب وعند آخرين رديء وغير مرغوب، كذلك بالنسبة للقيم والمسائل الأخلاقية، فهي عند بعض مطلوبة ومرغوب فيها وعند آخرين مرغوب عنها، فالأمر يختلف من فرد إلى فرد ومن مجتمع إلى مجتمع آخر.

وأما تسلسل البحث فقد تقدم أن التعدديين استدلوا أولاً بأنه: «كما أنّ التعددية مطلوبة ومفيدة في مجال الاقتصاد والسياسة وأمثالها، كذلك نقول في مجال الدين بإمكان ومطلوبية التعددية الدينية»، ونحن في مقام الجواب، قلنا: إنّه يوجد مسائل مثل الرياضيات والفيزياء ليس لها إلا جواباً واحداً، فلماذا لا تكون القضايا الدينية من قبيل الفيزياء والرياضيات؟ ثم قلنا بأنّ التعدديين جاؤوا بشاهد وببيان ثانٍ على مدعاهم وهو النسبية في القيم، وجاؤوا ببعض الأمثلة للآداب والعادات الأخلاقية والاجتماعية، وهم يريدون إثبات أنّ الصفة العامة للمسائل الأخلاقية والقيمية هي النسبية، ويخلصون إلى هذه النتيجة، وهي: بما أن الدين من المسائل القيمية فهو إذاً أمر نسبي.

الدليل الثالث لإثبات التعدديّة:

ويطرح التعدديون دعوى أكبر بكثير مما تقدّم أولاً، وهي: النسبية في جميع المعارف والمسائل البشرية، وفي جميع المجالات، وأنه لا تتحقّق المعرفة من دون النسبية، غاية الأمر تظهر النسبية بشكل واضح وجليّ في بعض الموارد ويُصدّق بها الجميع بسهولة، ولكن في بعض الموارد الأُخرى لا تكون بذلك الوضوح، فيظن الأشخاص العاديون أنهم وصلوا إلى معرفة مطلقة وثابتة، وفي الحقيقة أنّ هناك نسبية فيما وصلوا إليه وقد خفيت عنهم.

وهذا ما أشرت إليه في بداية البحث؛ من أنّ حقيقة القول بالنسبية في المعرفة ليس إلا مذهب الشك الجديد الذي ظهر قبل وبعد الميلاد بموجات متعددة بين الفلاسفة والعلماء، ولكن لم يكن بتلك القوّة وتلك السعة، ثم عاد اليوم ليظهر بقوة شديدة وسعة عارمة ويشمل أكثر المحافل العلمية والثقافية في العالم، وصار فخر العالِم هذه الأيام أنْ يقول: عندي شك، وصار أكبر علامة على سطحية تفكيره وقلّة علمه، أن يقول: أنا أعلم أو أنا متيقّن.

وإذا صارت جميع المعارف البشرية نسبية فلن يسلم الدين والمعرفة الدينية أبداً، بل سوف يكون أمراً نسبياً ومتغيراً، وبالتالي يمكن لنا القول: إنّ الدين المسيحي في المجتمع (ألف) جيد وحق، وفي المجتمع (ب) دين الإسلام جيد وحقّ، بل يمكن القول عن مجتمع واحد بأنّ هذا الدين الموجود فيه جيد وحقّ، ثم إذا تغيّر الزمن تغيّر معه الدين وكان الدين الجديد أيضاً جيّد وحقّ؛ والحقيقة هي أن تكون المسألة نسبيّة بين زمن وآخر وبين مجتمع وآخر، وهي بالنسبة لمجتمع شيء معيّن، وبالنسبة لمجتمع ثانٍ شيء آخر.

والتعدديون المسلمون ـ والأفضل أن نقول الذين يدّعون الإسلام ظاهراً ـ يتمسكون بالآيات القرآنية لإثبات التعددية الدينية، وأحياناً يتمسكون بالروايات وببيانات خطابية وبأشعار مولوي وحافظ والعطار وغيرهم فيقولون: الكعبة والمسجد والكنيسة والمعبد مختلفة بحسب الظاهر، ولكن كلها مظاهر لعبادة الله وكلها حقيقة واحدة.

أنت مقصودي من الكعبة والمعبد أنت مقصود

                                     وليســـت الكعـــبة والمعبد إلا ذريعة إليك

فقد تبيّن أن البحث عن التعددية بدأ بالتعددية في المسائل الاجتماعية، ثم انتقل إلى النسبية في القيم، ثم انتهى إلى النسبية المطلقة في جميع المعارف البشرية، ومن الواضح أنّه متى ما فرضت التعددية نفسها على الساحة، لم يعد هناك داع للتقيّد بالإسلام والإمام والثورة والقيم كلها، ويمكن توجيه أيّ عمل وأيّ اعتقاد وسلوك وأيّ فساد أخلاقي بسهولة. ولكي نعطيَ البحث حقّه سنتعرّض لكلّ واحدة من هذه المطالب بشكل دقيق بحثاً ورداً؛ وهذا ما سيكون إن شاء الله في البحث القادم.

 



[1] ) سورة الأحزاب: 33.

[2])  الآية 4 من سورة البقرة.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

قواعد التجويد
القرآن الكريم يحقق الهدف من نزوله
الاعلان بالمعاصي‏
معنى سنة الرسول
وأما الحديث الثاني فقد قال الشوكاني : وفي الباب ...
القيم الاخلاقية للانتظار
الاصالة والمعاصرة في حركة السيد جمال الدين ...
ذو القعدة
صلاة الليلة الأولى من رمضان المبارک
الأزمة الكبيرة في عالمنا المعاصر

 
user comment