عربي
Thursday 2nd of January 2025
0
نفر 0

الحُكم والحاكـم


 

 

 

 

 

         ذكرنا في الفصل السابق وبصورة مجملة كيفية وقوع أحداث تاريخ صدر الإسلام، وكيفية النظر إليها فيما بعد، وانعكاس هذه النظرة على مجموع البنية الفقهية والكلامية والفكر السياسي لأهل السنّة. ومن اللازم هنا أن نلج بحثنا الجديد عبر مقدمة قصيرة.

فقد أشرنا سلفاً إلى أن التكوين الفقهي والكلامي للشيعة يختلف عنه عند السنّة رغم العناصر المشتركة الأساسية التي تجمع الطائفتين، وهذا الاختلاف كوّن لدى أتباعهما نوعين متباينين من البنية النفسية والاجتماعية. ولمعرفة كيف تبلورت وتتبلور الحركات الدينية لكلتا الطائفتين وتحت تأثير أية عوامل وقواعد يحصل ذلك؟ لابدّ من معرفة النظامين ومسارهما عبر التاريخ أولاً. وما يحظى بأهمية أكبر هنا هو المبادئ والعوامل التي قامت عليها اُسس التفكير السياسي لدى المذهبين؛ ذلك أنّ الحركات السياسية والاجتماعية وحتى الفكرية والثقافية تخضع لتأثير هذه الخصائص، شئنا أم أبينا. فما لم نتعرف على هذه الخصائص ولم نقوّم نتائجها وتبعاتها لا يتسنى لنا أن نتعرف على الحركات الدينية بالشكل الصحيح لهاتين الفرقتين، الماضية منها  والمعاصرة.

قلنا: إنّ أحد أهم المبادئ التي بلورت الفكر السياسي لهذين المذهبين هو فهمهما وتفسيرهما لتاريخ الصدر الأول، ففهم أهل السنّة لهذا التاريخ يختلف عما هو واقع.

المبدأ الثاني هو شكل اعتقاد أهل السنّة بالحاكم كونه حاكماً، أي نظرة أهل السنّة للحاكم وانعكاسها على تفكيرهم السياسي، بغضّ النظر عن القضايا التي وقعت في عصر صدر الإسلام وفهمهم لها.

وأخيراً فإن المبدأ الثالث هو: أنّ المهم في رأي علماء أهل السنّة وفقهائهم ومتكلّميهم فيما يتعلق بالسلطة ومشروعيتها هو تحقيق الأمن، لا العدالة، فهم يُبدون حساسية تجاه الأمن والقدرة التي تستطيع أن تحققه، لا تجاه العدالة أو التنفيذ الدقيق للضوابط الشرعية وسنّة الرسول 9 بالصورة التي كانت على عهده 9.

تختلف نظرة الشيعة في المبدأين الأخيرين عن نظرة السنّة، بحيث يمكن ملاحظة انعكاس هذا الاختلاف في تاريخ الحركات الدينية والاجتماعية لأتباع كلا المذهبين.

إنّ الطموح لتحقيق العدالة والرغبة بها لدى الناس يُعدّ مصدر نشوء الحركات السياسية والاجتماعية. ويبدي المذهب الشيعي وعلى مرّ تاريخه حساسية تجاه مفهوم العدالة والتنفيذ الدقيق للضوابط الدينية، ويعتبر الدفاع عنه والسعي لتحقيقه جزءاً من رسالته، بينما تأتي مسألة العدالة عند المذهب السني في المرتبة الثانية، وأحياناً الثالثة من حيث الأهمية. فالمهم بالنسبة له الحكم الذي يتحقق الأمن في ظلّه.

منزلة الخلافة:

أشرنا في الفصل السابق إلى أن العامل الأول والأساسي في تكوين نظرة أهل السنّة إلى تاريخ الصدر الأول هو الإجراءات التي قام بها معاوية ضد علي بن أبي طالبD([1]) لعدائه له ولمكانته، ومحاولته لتنحية أنصاره وكانوا من المعارضين العقائديين لمعاوية، الأمر الذي دفعه لإصدار الأوامر لولاته في سبّ علي D علانية، وافتعال أحاديث في فضائل الآخرين لتُنافِس تلك التي وردت في فضل علي. وما كان للسبّ أن يستمر لأسباب كثيرة لعلّ أهمها الفضائل التي اختلقوها للآخرين، إذ كيف يمكن أن يتصف الآخرون بهذه الفضائل ويتّسم علي بنقيضها فيُسبّ ويُلعن مع أنه كان خليفة مثلهم على الأقل([2])؟! ولو استطاعوا فرضاً إدخال هذه العقيدة في أذهان الناس فهذا يعني أن الناس ستحمل أفكاراً مماثلة للخوارج تُقرِّبها منهم، الأمر الذي كان يخشاه النظام الحاكم سواء الاُموي أو العباسي؛ لأن الخوارج كانوا من ألدّ أعدائهم.

أمّا الإجراء الثاني فقد ترك تأثيره، وأصبح لتاريخ صدر الإسلام وللمسلمين حينذاك منـزلة تتساوى مع منـزلة الإسلام نفسه. وثمة عوامل اُخرى تدخّلت وساعدت على رسوخ هذه العقيدة سنتطرق إليها بإذن الله.

ولتعزيز مكانة الخلفاء الذين حلّوا بعد الخلفاء الراشدين الاُمويون منهم والعباسيون وجميع من تلقّب بالخليفة في تاريخ الإسلام وأذعن الجمهور لهم، كالمماليك في مصر وسلاطين العهد العثماني الثاني ظهرت الحاجة لإضفاء شأنٍ دينيٍّ خاصٍّ على تسلّطهم على مقاليد الحكم يُقنع الاُمّة، وكانت الوسيلة الأفضل لذلك إحاطة المنصب بمنـزلة دينية لكسب الشرعية في السيطرة على الحكم، وهذا كان يفرض عليهم رفع شأن الخلفاء بعد الرسول 9، وإظهار الخلافة على أنها أمر إلهيّ ودينيّ، وإضفاء القداسة على الخلافة والخلفاء، وبشكل عام إعطاء منـزلة دينية مقدسة لتاريخ تلك الأيام وشخصياتها، فبهذه الطريقة يصبح لمنصب الخلافة شأناً بل ضرورة دينية، الأمر الذي ينسحب عليهم وعلى مناصبهم([3]).

الواقع لم تكن لدى خلفاء بني اُمية رغبة في أن يُطلق عليهم لقب الخليفة لأن طبيعتهم البدوية والجاهلية واللااُبالية لم تكن تنسجم مع مثل هذا التكلّف. لكن الأمر يختلف تماماً عند بني العباس؛ ذلك لأنّ بقاءهم كان يستوجب التشبّث بهذا اللقب، ولم يستمر حكمهم لأكثر من خمسة قرون إلا من خلال تمسكهم بهذا العنوان رغم أن حكمهم كان صورياً في بعض المراحل، وقد تبنّوا هذه الظاهرة التي ابتدعها معاوية لأسباب تختلف كثيراً وأسندوها، بالرغم من أن بني العباس أنكروا الكثير من سياسات معاوية وبني اُمية على العموم؛ ذلك أن تقديس الخلفاء بعد الرسول9 يساعد بصورة مباشرة على تقديس مفهوم الخلافة ومن يتولاها([4]).

العامل الآخر الذي ساعد على تعزيز هذه النظرة: ضرورة مواجهة الشيعة والخوارج، إذ احتلّ الشيعة موقع المعارضة الأهم للاُمويين والعباسيين خلال القرنين أو الثلاثة قرون الاُولى. ولكلا الفريقين نظرة انتقادية لتاريخ صدر الإسلام، فرأي الشيعة واضح في هذا المجال إذ، ينظرون إلى تلك المرحلة نظرتهم إلى الفترات الاُخرى من تاريخ الإسلام دون أيّ تباين وتمايز، أمّا الخوارج فإنهم كانوا يوافقون على مرحلة من تاريخ الخلفاء الراشدين تبدأ من الخليفة الأول وتنتهي إلى أواسط خلافة عثمان، ويرفضون الفترة المتبقية من الخلافة الراشدة باعتبارها تاريخ شرك وخروج عن الدين! مضافاً لذلك فإن فهمهم للمرحلة الاُولى لم يكن يماثل فهم الآخرين لها، فالخوارج طائفة كانت تتّسم بالتحجّر العقلي ولم تكن ترغب في أن تنظر إلى فرد معين أو عصر خاص نظرة تقديس، فوافق رأيها ذلك العهد، وامتنعت عن تكفير تلك المرحلة وحسب([5]).

وعليه فإن أحد أشكال مواجهة هذين الفريقين وإثارة الرأي الإسلامي العام ضدهما القول بأنهما لا يعترفان بمشروعية تاريخ صدر الإسلام، والسبيل الأفضل للوصول إلى هذا الهدف تقديس تلك المرحلة وتمجيدها قدر الإمكان. فكلما تضاعفت الأهمية الدينية لهذه المرحلة لدى عامة الناس كلما استطاع النظام أن يقهر معارضيه ويسحب البساط من تحت أرجلهم. فمن أهم الذرائع التي تبجحوا بها وخدعوا الناس بالتأكيد عليها قولهم: إنّ المعارضة التي تتهمنا بالباطل وتقف بوجهنا تفتقد للشرعية، لأنها لا تحترم صدر الإسلام وأشخاصه([6]). وقد كان لهذه التهمة دوراً مؤثراً لا سيما ضد الشيعة؛ إذ استخدمت ولفترة طويلة كأفضل سلاح إعلامي ضدهم. وثمة أمثلة تاريخية كثيرة تكشف عن استخدام هذا السلاح ضد المعارضة وخنق أية حركة معارضة في مهدها. ولا زال هذا السلاح يستخدم في عصرنا الحاضر وبشكل واسع لاسيما من قبل السعوديين وأمثالهم، حيث يقدمون صورة لصدر الإسلام تغلق أي منفذ للإعلان عن موقف انتقادي منه، ويعزفون على هذا الوتر من أجل محاصرة الفكر الشيعي والقضاء على أية حركة إصلاحية؛ لأن عامة الحركات الإصلاحية والثورية المنبثقة من بين أهل السنّة تتخذ موقفاً انتقادياً من تاريخ صدر الإسلام وتاريخ الإسلام ككل. فحينما يخضع هذا الموقف والنهج للتشكيك فلا ريب في أن متبنّيه سيواجهون نفس المصير الأمر الذي يطمح إليه الرأي المعارض([7]).

إن العاملَين السياسيين المهمَّين المارّي الذكر ساعدا على تكثيف الهالة الدينية والإلهية حول تاريخ الصدر الأول، وقد نحا الخلفاء بعد معاوية هذا المنحى، واستمرت الحاجة قائمة له طالما كانت راية الخلافة مرفوعة، أي إلى أوائل القرن الحالي، ثم انتقلت هذه الحاجة إلى أصحاب السلطة الذين أطلقوا على أنفسهم أتباع السلف الصالح.

قداسة صدر الإسلام:

ثمة إجراءات اُخرى ساعدت على تقوية هذا التيار كان لمعاوية فيها الدور الأساس، فقد تشبّث بسياسةٍ داهيةٍ اُخرى لإثبات شرعيته وحقّه في الخلافة، حالفه الحظّ فيها، مما ساعدت هي الاُخرى على تكوين هالة مقدسة عند المسلمين عن تاريخ الصدر الأول، إذ أراد أن يربط جسراً بينه وبين الخلفاء الأوائل لا سيما أبو بكر، لكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلاً طالما كان الإمام علي D على قيد الحياة؛ لأنه لم يكن يسمح بمثل هذا الاستغلال السيّئ، وكان لشخصية الإمام علي D ومكانته وسابقته في الإسلام واختياره خليفة للاُمة من قبل إجماع المسلمين تقريباً أكبر حائل أمام تحقيق هذا الهدف الذي أصبح ممكناً بعد استشهاده D. وأفضل من يصور هذا الاستغلال هو معاوية نفسه، فلنقرأ ما كتبه للإمام الحسن D  في رسالة تتضمن قضية الصلح والهدنة، يقول:

«... إنّ هذه الاُمّة لما اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم، ولا قرابتكم من النبي، ولا مكانتكم في الإسلام وأهله، فرأت الاُمّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيها، ورأى حلماء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعامتهم أن يولّوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاماً وأعلمها بالله وأحبها له وأقواها على أمر الله، واختاروا أبا بكر، وقد كان ذلك رأي ذوي الحِجى والدين والفضيلة والناظرين للاُمة... ولو رأى المسلمون منكم من يغني غناءه أو يقوم مقامه أو يذبّ عن حريم المسلمين ذبّه ما عدلوا بذلك الأمر إلى غيره رغبة عنه، ولكنهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحاً للإسلام وأهله... والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد النبي 9، ولو علمت أنك أضبط مني للرعية، وأحوط على هذه الاُمّة، وأحسن سياسة، وأقوى على جمع الأموال، وأكيد للعدو لأجبتك إلى ما دعوتني إليه، ورأيتك لذلك أهلاً، ولكني قد علمت أني أطول منك ولاية، وأقدم منك لهذه الاُمّة تجربة، وأكثر منك سياسة، وأكبر منك سنّاً، فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنـزلة التي سألتني، فادخل في طاعتي....»([8]).

يحاول معاوية في رسالته أن يسبغ على نفسه الشرعية بنفس الدلائل التي حصل فيها أبو بكر على الشرعية، ويسعى لبيان أن القضية واحدة لدى كليهما، وأنه حصل على الشرعية على أساس نفس المعايير التي حصل فيها أبو بكر على الشرعية بحيث ينبغي حتى للإمام الحسن D أن يخضع لسلطانه.

يقول محمود صبحي بهذا الشأن: «تُعدّ رسالة معاوية هذه أول تعبير كلامي عن رأي أهل السنّة والجماعة في الخلافة عامة، وفي بيعة أبي بكر خاصة، وقد استطاع معاوية أن يحرز نصراً كلامياً عقائدياً، حين تصدّى ليكون لسان حال جمهور المسلمين من أهل السنّة... ولقد اغتنم معاوية هذه الفرصة ليظهر بمظهر المدافع عن الخلفاء وكبار الصحابة، وبذلك أصبغ على دعواه في الخلافة صبغة شرعية حين انتقل في دهاء ولباقة من الدفاع عن بيعة أبي بكر إلى مطالبته بالخلافة، فهو لا يطلبها غصباً، ولا يفرضها على الاُمّة قسراً، وإنما حاله كحال أبي بكر، فهو أضبط للرعية وأحوط للاُمة وأحسن سياسة وأكيد للعدو وأطول ولاية وأقدم تجربة وأكبر سنّاً، وهكذا انتقلت دعوى معاوية من المطالبة بدم عثمان في عهد علي إلى إيديولوجية أشدّ خطراً وأبعد أثراً وأقوى دعامة في طلب الخلافة وتثبيت دعواه»([9]).

نستنتج: أنّه ومضافاً إلى العوامل التي ذكرناها والتي كانت تحثّ معاوية على إسباغ منـزلة دينية، لتاريخ الصدر الأول وشخصياته لسحب البساط من تحت مخالفيه وعلى رأسهم الشيعة وكسر شأن الإمام علي D في أذهان الاُمّة هناك عوامل اُخرى كانت تدفعه في هذا الاتجاه، فمواجهة الإمام وشيعته سواء في حياته أو بعد استشهاده لم يكن من الممكن أن يكتب لها النجاح لولا الاستناد على هذه الفترة التاريخية، فقد كانت حاجته لذلك ملّحة، وما كان منه إلا أن يحققها بدهاء وبمختلف الأساليب، لتحتلّ فيما بعد مكانة مرموقة في التكوين الكلامي والفقهي لأهل السنّة، لا سيما فيما يخصّ قضية الإمامة والخلافة. ولو كان المنافس الرئيسي لمعاوية شخصاً غير الإمام، أو لو كان في مواجهة الإمام شخص غير معاوية لتبلور دون ريب تاريخ تلك المرحلة بصورة اُخرى، ولأصبح التكوين الفقهي والكلامي لأهل السنّة شيئاً آخر يختلف كثيراً عمّا هو عليه الآن.

سوى العوامل السياسية المذكورة، ثمة عاملان دينيان ساعدا على تعزيز هذا التيار نشير إليهما في الفقرة الآتية.

المسائل المستحدثة:

العامل الأول: ضرورة العثور على أجوبة للمسائل الدينية المختلفة الفقهية منها والكلامية، الأمر الذي واجهه المسلمون من أواخر بل أواسط القرن الأول دون أن يجدوا الجواب الصريح لها في السنّة النبوية، فبحثوا عن حل لهذه المعضلة ووجدوا أن أحد أفضل السبل لها هو مساواة تاريخ الصدر الأول بالدين نفسه للحصول على أجوبة من سنة النبي والفترة التي تلته.

فالمجتمع الإسلامي على عهد الرسول 9 كان مجتمعاً محدوداً مغلقاً، لم تكن الحاجة فيه قائمة للعثور على أجوبة لمسائل معقدة، وتُطرح أية مسألة تطرأ فيه على الرسول 9 مباشرة، إلا أن هذه الظروف تغيّرت بعد أن انتشر الإسلام سريعاً وخاصة بعد الفتوحات المهمة الاُولى، وخفوت الفورة الدينية، واستقرار المجتمع أواسط القرن الأول. ولم يكن سرّ ذلك كامناً في النموّ الاجتماعي الكمّي، وإنما في التعقيد الكيفي الحاصل من النمو الكمّي الذي كان يزداد تعقيداً يوماً بعد آخر، فقد انضوت ملل وثقافات وفلسفات ونِحَل مختلفة تحت سلطة هذه القوة الدينية الجديدة، ومثل هذه الحالة تولِّد مسائل كثيرة تبحث عن أجوبة عملية صريحة لا نظرية؛ ذلك لأن المجتمع لابدّ وأن يُدار وفق تلك الأجوبة، وهي في الواقع القوانين التي تنظِّم المجتمع.

على هذا الصعيد برزت مشكلة البحث عن الأجوبة لمسائل مستحدثة لم يرد في السنّة النبوية إلا شيئاً قليلاً منها([10])؛ لأنها كانت تعبر عن موضوعات جديدة لم يكن لها أي وجود عملي أو نظري في ذلك الزمان، لكنها بدت تطفو على السطح وتبحث عن حلول على المستويين النظري والعملي، فلم يكن أمامهم إلا تمديد الاعتبار الديني الذي كان يشمل عصر الرسول 9 فقط إلى كلّ مرحلة حكم الخلفاء الراشدين.

ولابدّ هنا من اتخاذ جانب الحياد والواقعية والقول: إنهم كانوا على حق، ذلك لو اُريد وضع اعتبار ديني لجزء من التاريخ الإسلامي أشبه في ظاهره بفترة الرسول 9، فإنّ هذا الجزء يتمثّل في فترة الخلافة الراشدة، خاصة وأنها حظيت باحترام وتقدير معظم المسلمين مما لم تحظ به أية فترة اُخرى بمثل هذا الإجماع، ولهذا اعتبرت هذه المرحلة استمراراً لمرحلة الرسول 9 وسنّته، وبالتالي اقتبس منها واستُعين بها في البحث عن حلول للأسئلة الكثيرة المطروحة، خاصة إذا علمنا أن الاجتهاد الفقهي في تلك الفترة لم يكن قد شقّ طريقه ومنهجه بعد بالصورة التي أصبح عليه فيما بعد، ولهذا كانوا مضطرين للعودة إلى النصّ في كل حالة تواجههم([11]).

أمّا الشيعة فلم يواجهوا مثل هذه المشكلة؛ لأنهم يعتقدون بأن أقوال الأئمة المعصومين E وأفعالهم هي امتداد لسنّة الرسول 9، وهي عقيدة لم تفرضها الضرورة التاريخية ولا أي عامل آخر، وإنما هي نتيجة طبيعية لاعتقادهم بمبدأ الإمامة بالمعنى الذي يفهموه ويفسّروه، وعليه فإن الشيعة ترى بأن السنّة الشرعية المعتبرة استمرت حتى سنة (260هـ) وهو عام وفاة الإمام العسكري D. إن هذا التراث الغني المتنوع والمتشعب الحاصل من الردّ على أسئلة مختلفة طرحت خلال (273) عاماً تبدأ من عصر الرسالة مروراً بعصر الأئمة وانتهاءً ببداية الغيبة الصغرى، والتأكيد على مبدأ الاجتهاد وتعيين اُسسه وحدوده، أزال الإحساس بالحاجة إلى الموضوعات التي تُعدّ حاجة ملحّة بالنسبة لأهل السنّة.

الارتباط العاطفي:

العامل الثانـي: هو العامل العاطفي الديني، فالإنسان يميل نفسياً وعاطفياً إلى حبّ أي شيء أو شخص يرتبط به بصورة أو اُخرى، سواء كان هذا الارتباط حقيقياً أم وهمياً، إذ يكفي أن يتصور في ذهنه بوجود مثل هذا الارتباط، وكان هذا العامل في الماضي أكثر تأثيراً وأقوى مما هو عليه الآن؛ ذلك أن الإنسان المعاصر يعاني أكثر من الماضي من التشتّت الفكري والعاطفي، وبالتالي فإن تعلقه وحبه لا يتجذّر في الأعماق، أمّا في الماضي فإن المرء لو أحب شيئاً أو شخصاً انجذب إليه بكلّ وجوده، وكلّما اشتدّ هذا التجاذب كلّما سرى إلى أقرباء الشخص والمحيطين به، وحصلوا في نظر  المحب على مواصفات مماثلة لمواصفات المحبوب.

وقد كان رسول الله 9 وعلى طول التاريخ الإسلامي أقدس الوجوه وأحبها على الإطلاق، واستخدمت في وصفه أجمل العبارات والأوصاف، لاسيما من قبل الصوفية الذين فاقوا بقية المسلمين في الوصف، ومن الطبيعي أن يسري حب هذه الشخصية الجذّابة إلى حب المحيطين به في ذهن محبيه. وأصبح من المستحيل لكائن من كان أن ينجذب نحو الرسول 9 ويحبه دون أن يحب ذويه والمرتبطين به، من دون أن يتحقق في مَن يكون هؤلاء وكيف عاشوا؟ إنما يكفي أنهم صاحبوه.

من هذه النافذة نظر الصوفية بل وعامة المسلمين على طول التاريخ إلى الصحابة وإلى صدر الإسلام، واعتقدوا أن تلك المرحلة كانت من أفضل الفترات لوجود رسول الله 9 فيها، وأن اُولئك الأشخاص كانوا من أفضل الناس لأنهم عايشوا رسول الله 9، وهي عقيدة حقّة مع لزوم اتضاح حدودها ومفهومها. فلا شك في أن عصر الرسول 9 اكتسب الكرامة والعزة لأنه 9 عاش فيه، كما لا ريب في أن صحابة الرسول 9 نالوا من السعادة ما لم ينَلها غيرهم بسبب معاشرتهم له 9، لكن هذا لا يعني أن تكتسب العصور القريبة من عهد الرسول 9 تلك العزة والشرف، ليُستنتج من ثم بأن عصر الصحابة هو أفضل العصور لقربه من عصر الرسول 9، ويتم التعرف على الإسلام من خلاله، كما أن سعادة الصحابة في مرافقة الرسول 9 لا تعني بالضرورة أن التزامهم بالإسلام كان التزاماً عملياً حقاً([12]).

على أية حال فقد أدت هذه الحالة النفسية إلى أن تنسحب قداسة الرسول 9 على الصحابة وعهد الصحابة ليحاطوا بهالة من القداسة الإلهية، وهذا ساعد بدوره التيار الذي كان يستهدف إضفاء منـزلة دينية على صدر الإسلام. وثمة دليل خاص على عدم وقوع الشيعة لتأثير هذه الحالة، فهم لا يختلفون عن سواهم من المسلمين في حب رسول الله 9 وتبجيله، لكنّ حبهم للصحابة ينحصر في فئة خاصة بدليل وجود أحاديث تحظى عندهم بالاعتبار التام، ولولاها لماثلوا الآخرين في سحب قداسة الرسول 9 وشأنه المعنوي على الآخرين؛ لأنّ طبيعة الإنسان تقتضي مثل هذه الحالة.

ومن المناسب هنا أن نذكر مثالاً على مكانة مَنْ أدرك الرسول 9 عند مسلمي العصور المتأخرة، وكيف أصبحت من أهم ضوابط تقويم الصلاحية الدينية والمعنوية للأشخاص. ينتقد ابن حجر رأي ابن عبد البرّ عن إمكانية مجيء مَنْ هم أفضل من الصحابة في الأزمنة الاُخرى، ويقول: إنّ هذا الرأي شاذّ ونادر جداً، والأحاديث لا تدلّ عليه، ثم يبدي رأيه ويسنده بما ورد عن عبد الله بن مبارك الذي يصفه بأنه من أعلام العلم والفقه والمعرفة حينما سُئل عن معاوية وعمر بن عبد العزيز، وأيهما أفضل؟ فأجاب بما مفاده: أنّ الغبار الداخل في أنف حصان معاوية وهو في ركاب رسول الله 9 أفضل من مائة من أمثال عمر بن عبد العزيز، وهو بذلك يريد أن صحبة رسول الله 9 ورؤيته تضفي على الإنسان قيمة لا يعادلها أي عمل ولا يساويها شرف([13]).

ولا ينكر الدور القوي للسياسة هنا، ولكن ينبغي أن نعترف بأن المسلمين نشؤوا مع هذا الطور الفكري، وتبلورت أذهانهم وشخصياتهم على أساسه فيما يبدو أنه أصبح حاجة أخلاقية ونفسية وعاطفية ودينية، فضلاً عن أنهم كانوا مضطرين لعرض نظام كلامي منسجم من مجموعة متضادة في الباطن.

فالإنسان المؤمن المعتقد بأي شيء من الدين والاُمور الاُخرى يطمح في أن يرى معتقداته تنتظم في مجموعة مترابطة منسجمة غير متضادة كحاجة أساسية من حاجاته. وهذا لا ينبع من اضطرار يفرضه عرض العقيدة على الآخرين أو الدفاع عنها بقدر ما هو حاجة باطنية تبقى دون إشباع لو لم تتمّ الاستجابة لها بهذه الطريقة، ذلك أن استقرار النفس الإنسانية إزاء معتقداتها ترتبط بهذا الانسجام والتكيف. فالقسم الأعظم من الجهود الفكرية والعلمية للإنسان سواء تلك المتعلقة بالدين أو بالعلم يُستهلك في تنظيم معتقداته وتكييفها مع بعضها لإشباع هذه الحاجة الباطنية.

ويمكن ملاحظة مثال هذا الجهد فيما يتعلق بالصحابة وشخصيات صدر الإسلام في الرأي القائل بأن أفضل هذه الاُمّة وجميع الاُمم بعد الأنبياء أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، على أساس أنه كلام سمع عن الرسول 9، وأن أفضل الناس بعدهم طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة الجراح وجميعهم يستحقون منصب الخلافة، وأفضل الناس بعدهم الصحابة، وأنه لابدّ أن يغض الطرف عن أخطائهم ولا يُذكر منهم إلا الخير...الى آخره([14]).

مجموع هذه العوامل وغيرها أدّت بأهل السنّة للاعتقاد بقداسة الصدر الأول وصحابة الرسول 9 والخلفاء الراشدين، وأصبح مبدأً مجمعاً عليه دون أن يداخله أي شك أو ترديد، حتى أصبح لديهم مرادفاً للإسلام، بحيث يمكن القول: إنّ تجاهل هذا الأمر يعني عدم إمكانية استيعاب فهم أهل السنّة للإسلام من فقه وتفسير وتاريخ وكلام وفلسفة وعرفان، وخاصة البحوث السياسية الدينية التي يحوم حولها معظم الاختلاف بين الشيعة والسنّة في فهمهم للإسلام.

عند هذه النقطة تحديداً يفترق الشيعة والسنّة دون أن يستطيع أن يدرك كلّ منهما الآخر لأنهما لا ينتبهان إلى أن معتقداتهم وآراءهم تستند على كيانين متباينين في الفكر والفلسفة والكلام والتاريخ، فيواجهان في مرحلة النقاش والبحث والتفاهم بعض  المشكلات، فكلّ طرف ينظر إلى معتقدات الآخر منظاره الديني، وينتظر منه موقفاً مخالفاً لاُسسه ومبادئه. وهذه ليست مجرد مشكلة نظرية وإنما هي حقيقة ملموسة، فما لم يقف كل من الشيعة والسنّة على خصائص النظام الفكري والاعتقادي للآخر والتصورات والإلزامات التي تنشأ عنه لن يقدرا على إجراء حوار بنّاء وتعاون مفيد، وقد فصّلنا في هذا البحث وأسهبنا بعض الشيء لأن الحالة تنطبق على المسائل السياسية الدينية أكثر من غيرها من المسائل([15]).

لنلاحظ الآن:ما هي نتائج مثل هذا الاعتقاد؟ أي: ما هي نتائجه الاعتقادية والنفسية والاجتماعية والسياسية؟ نكتفي فيما يلي بذكر نتيجتين مهمتين فقط تحظيان بأهمية بالغة فيما يتعلق بهذا البحث.



(1) ينقل ابن أبي الحديد: « إن قوماً من بني اُميّة قالوا لمعاوية: يا أمير المؤمنين، إنّك قد بلغت ما أمّلت، فلو كففت عن لعن هذا الرجل! فقال: لا والله حتى يربو عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير، ولا يذكرك له ذاكر فضلاً». النص والاجتهاد:499، نقلاً من شرح ابن أبي الحديد: 1/463.

     قارن ذلك مع قول أبي جعفر الاسكافي: «... ولولا أن لله تعالى في هذا الرجل الإمام علي D سراً يعلمه من يعلمه لم يُرو في فضله حديث، ولا عُرفت له منقبة». راجع: شرح ابن أبي الحديد: 4/56 116.

(2) ينقل غولدتسيهر بأن الاُمويين كانوا يقدِّمون خطبتي صلاة العيد على الصلاة نفسها لكي يستمع الناس إليهم قبل أن يتفرقوا، ثم يضيف: «كان الناس يغادرون المسجد بعد الصلاة لكي لا يستمعوا إلى الخطب التي تتعرض لعليٍّ D باللعن والسبّ».

Goldziher, Muslim Studies, vol II , p.51.         

(1) راجع الإسلام واُصول الحكم: 113136و 180182، ففيه تحليل ونقد لهذه الظاهرة.

(2) على العكس من العباسيين لم يكن الاُمويون بحاجة إلى الدين والتظاهر به؛ ذلك أنّ طباعهم وتربيتهم وسجاياهم كانت أقرب إلى البداوة والجاهلية، وكانت سياساتهم أشبه إلى سياسة رئيس القبيلة من سياسة خليفة إمبراطورية كبيرة أو سلطانها، ولهذا سقطت الاُسرة الاُموية سريعاً. يخاطب معاوية الذي كان يراعي الظاهر أكثر من سواه من بني اُميّة أهل الكوفة أنه يهدف إلى بسط سلطته وحكمه عليهم لا إلى تحريضهم على إقامة الصلاة وأداء الزكاة. انظر الاُمويون والخلافة:13.

     ويقول عبد الملك بكل صراحة: «أيها الناس...، فاستقيموا على سبل الهدى، ودعوا الأهواء المردية، وتجنبوا فراق جماعات المسلمين، ولا تكلّفونا أعمال المهاجرين الأولين، وأنتم لا تعملون أعمالهم..». الاُمويون والخلافة: 122.

     بيد أن العباسيين كانوا على غير هذه الشاكلة، إذ كانوا يتظاهرون ما استطاعوا بالتديّن والالتزام الشرعي لاسيما في عهد المنصور لكثرة الثورات التي قامت ضده. انظر مبادئ نظام الحكم في الإسلام: 584. وقيل في التعصب الجاهلي للاُمويين: «أنهم كانوا لا يولّون إلا ابن حرة». تاريخ ابن عساكر:5/206.

     ويقول ابن أبي الحديد: «كان يُقال: إن دولة بني اُميّة آخرها خليفة، اُمّه أمة، فلذلك كانوا لا يعهدون إلى بني الإماء منهم، ولو عهدوا إلى ابن أمة لكان مسلمة بن عبد الملك أولاهم بها». شرح ابن أبي الحديد: 7/157. وانظر أيضاً: الاُمويون والخلافة: 45،وفجر الإسلام: 91. بينما كان العباسيون على عكس ذلك تماماً فقد كانوا «لا يتزوجون إلا من الموالي، فمنذ سنة (800) للميلاد فما بعد لا تجد خليفة مولودا من اُمٍّ حرة».

G.F.Grunebaum, Classical Islam, p.80. Goldziher, Muslim Studies, vol II.pp.38-88.

    حول الفرق بين سياسة العباسيين والاُمويين، راجع الكتاب أعلاه، لا سيما الصفحات 80-89.

(1) البيان والتبيين: 2/102103.

(2) انظر مثالاً على التنديد بالشيعة بسبب مواقفهم الانتقادية من تاريخ صدر الإسلام في شرح كتاب السنّة للبربهاري. طبقات الحنابلة: 2/18- 45.

(3) تحول وثبات (الثابت والمتحول): 87 100.

(1) نظرية الإمامة لدى الشيعة الإمامية: 319320.

(1) نظرية الإمامة لدى الشيعة الإمامية: 321.

(1) على سبيل المثال: يردّ المقريزي وهو أحد أكثر المؤرخين اطّلاعاً على تاريخ صدر الإسلام وبعده والأحداث التي شهدتها تلك الفترة كل حديث مروي عن النبي 9 يتضمن سؤال الصحابة حول مواضيع معينة كالقضاء والقدر وصفات الله والآيات المتشابهة ويعتبرها أحاديث موضوعة، ويقول: إن أسئلتهم لم تكن تتجاوز حدود العبادات وكيفية أدائها. خطط المقريزي: 4/180. انظر نقداً لهذا الرأي في النظم الإسلامية: 74 77.

(1) في إعلام الموقعين: 4/118 156 بحث مشبع حول وجوب اتّباع الصحابة والتابعين. راجع أيضاً كتاب تراث الخلفاء الراشدين: 1415. وانظر أيضاً أقوال البربهاري في شرح كتاب السنّة لإبن حنبل في باب وجوب اتّباع الصحابة، حيث يؤكد على أن الدين تقليد ولزوم تقليد الصحابة، ويوصي بآثار الصحابة والسلف الصالح والتقيد بها وتقليدها وعدم تجاوزها، ويتهم من يطعن بالصحابة في إسلامه. انظر: طبقات الحنابلة: 2/29و39و25.

(1) الفتاوى الحديثة: 305. وعن عبد الله بن مبارك الذي أبدى مثل هذا الرأي وشخصيته انظر: الإسلام بين العلماء والحكام لعبد العزيز البدري: 228 و 229.

(1) طبقات الحنابلة: 2 / 21.

(1) في نقد هذا الرأي ووجود المنافق والفاسق بين الصحابة انظر: الملل والنحل للاُستاذ جعفر السبحاني: 191228، وكذلك النص والاجتهاد: 519525، ولاحظ البحث الحيوي لمحمد التيجاني في: ثم اهتديت: 77122. وأضواء على السنّة المحمدية: 329و356 363.

(2) راجع: الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4/94، والفصول المهمة في تأليف الاُمة: 7 60، وثم اهتديت 41 44.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الأبعاد الأخلاقية لمفهوم القوة
العودة إلى القرآن
جهاد النفس في فكر الإمام الخميني (قدس سره)
دخول الشباب إلى الميدان
حقیقة الوهابية(2)
أدلة وجود الإمام المهدي عليه السلام
آداب النبيّ (صلى الله عليه وآله) والتأسّي به
فضل شهر رجب
ديمومة وبقاء عاشوراء
قوله ( ص ) شعية علي ( ع ) هم الفائزون يوم القيامة

 
user comment