مراحل نزول الإنسان
كل كائن بما في ذلك الإنسان يمرّ بمرحلة لم يكن فيها >شيئاً< ثم أصبح >شيئاً<، وهاتان المرحلتان عبارة عن >ظل< وفي ذلك الزمان حيث هو في ذات العلم الإلهي المكنون وبشكل إجمالي، له وجود في >ذات العلم المكنون< وهذه هي نفسها المرحلة الأولى يعني >اللاشيئية< ثم شاء الله عز وجل أن ما في ذات علمه المكنون أن يكون في حالة >مدّ الظل< على شكل أعيان ثابتة وهذه هي المرحلة الثانية لتكون مؤهلة وقابلة لتلقي الأمر الإلهي >كن< فيتعلق بها الوجود؛ لأنه قبل هذه المرحلة لم يكن شيئاً حتى يكون جديراً للأمر >كن< الوجودي.
{إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}([1]).
وهذه المرحلة تتحقق بالتجلي ولا يمكن تصور سرعتها أبداً:
{وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}([2]).
وهذه إشارة قرآنية صريحة في قوله تعالى:
{أَ وَلا يَذْكُرُ الإِْنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً}([3]).
وكذا قوله تعالى: {هَلْ أَتى عَلَى الإِْنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً}([4]).
وهذه هي مرحلة العين الثابتة وهي ليست سوى شيء غير مذكور.
ومن هذه الآية الكريمة يمكن فهم وإدراك المرحلة الثالثة، وهي أن الإنسان يمكن أن يكون شيئاً قابلاً للذكر، وهي ذات المرحلة حيث زمن الوجود الخلقي وتجلّي شمس الوجود المحمدي وجلوة نوره ، والوجود الخلقي له درجات ومن أجل أن يكون خلالها جديراً بالذكر والإشارة.
كل شئ وقبل تحقق الوجود الخارجي والعيني موجود في علم الله على نحو الوجود العلمي، فنحن كنا معلومين للحق ثم بإرادته وأمره >كن< ظهرنا من العلم إلى العين وأصبح لنا وجوداً خارجياً.
ومن الواضح جداً أن كل شيء يكون محلاً لخطاب الله ويتلقى أمر >كن< من خالق الوجود لا يمكن أن يكون عدماً محضاً لأن العدم المحض ليس أهلاً للخطاب، وإذن فنحن وإن لم يكن لنا وجود خارجي فنحن كنّا في علم الحق تعالى.
فمن جهة أن وجودنا العلمي وبسبب تجرّده كان مرافقاً للعلم ومواكباً.
وعلى هذا يكون من المؤكد أنه وقبل أن يكون لنا وجود خارجي كان لنا وجود علمي، وهذا الوجود العلمي هو وجود مجرّد وهو مجرّد بالنسبة لذات العالم.
وإذن فقبل هذا كانت لنا شيئية علمية لا شيئية عين ذات العلم، يعني أننا كنا نعلم في مقام العلم والتجرد بوجودنا إلا أن وجودنا ليس عينياً ولا خارجياً، ولذا ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِْنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً}([5]).
وهذه الشعلة للتذكير والإضاءة إنما جاءت لأننا كنا نعلم، ولكن دهمتنا الغفلة وغلب علينا النسيان أو أننا نتناسى ونستغفل أنفسنا، ذلك لو أننا دققنا النظر وتأملنا وفكرنا بعمق فأننا سنتذكر أننا لم نكن شيئاً ثم أصبحنا شيئاً لكننا، لم نكن شيئاً قابلاً للذكر وأهلاً للإشارة، ثم بعد ذلك خلقنا وأصبحنا شيئاً مذكوراً.
وإذن فإن المقطع القرآني الكريم: (أولا يذكر الإنسان) يدل على أنه كان للإنسان علم سابق نسيه على نحو ما.
فإذا ما نفضنا غبار الغفلة فإننا سنتذكر أن الله عز وجل كلمنا وخاطبنا في زمن ما، وفي مرحلة خاصّة من مراحل وجودنا وقد علمنا أنه لم نكن شيئاً مذكوراً، وأنه تبارك وتعالى شاء أن ينقلنا من العلم والعين الثابت إلى العين الخارجية والخلقية.
وينبغي هنا أن نلتفت إلى هذه الحقيقة وهو أن تنزّل الإنسان من نشأة علم الحق إلى العين، ومن ثم إلى الخارج هو على نحو التجلّي لا على نحو التجافي، يعني أن نشأة علم الله لم تقفر من وجود الإنسان وأن الإنسان الذي انتقل إلى عالم الخارج فإن وجوده العملي، يظل محفوظاً في مرحلة العلم الإلهي كما هو الحال في انتقال العلم من الأستاذ إلى التلميذ، لكن هذا الانتقال لا يكون على نحو التجافي، وإنما على نحو التجلّي.
وإذن فنحن وإن كنا في الخارج ولنا وجود في ظرف العين، لكننا ما نزال موجودين في مرحلة العلم الإلهي للحق تعالى وبين هاتين النشأتين ارتباط تكويني وعلاقة قائمة.
وعلى هذا فإننا نستطيع أن ننفض عن ذاكرتنا غبار النسيان وأن نعي علاقتنا ونقويها مع وجودنا العلمي في المرحلة النورية العالية فنتذكر كل ما قد نسيناه.
وإذن فإن وجودنا الطبعي والمادي في >أسفل السافلين< هو الدرجة الأخيرة لوضعنا الوجودي وأعلى منها هو الوجود المثالي، ثم يلي هذه الدرجة والمرحلة الوجود العقلي وأعلى من هذه أيضاً هو الوجود العلمي في ذات المكنون.
وعلى هذا فإن مرحلة >الظل< تلك هي نفسها مرحلة {لَمْ يَكُ شَيْئاً}([6]) لأنها في دائرة الذات البسيطة ومن ثم تحقق وجودها بالخطاب الأمري (كن) وأصبحت (شيئاً مذكورا)([7]).
ويتوجب القول: إن الأمر الإلهي والخلق قد اجتمعنا في الإنسان:
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَْمْرُ}([8]).
ليظهر الإنسان.
يقول القرآن الكريم في شإن هذا الكائن العجيب:
{إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}([9]). ويقول أيضاً:
{إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ}([10]). هاتان الآيتان وغيرهما تشيران إلى الوجود الطبيعي والخلقي في درجات أسفل السافلين المادية، ومن ثم يقول الله عز وجل:
{فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ}([11]).
ومن هذه الآيات الكريمة نستنتج بأن الإنسان مخلوق جامع ويمتاز على سائر المخلوقات.