أولاد يعقوب (عليه السلام)
قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ}(1).
إنّ في القصص القرآنية دروساً عظيمة، وعميقة لو تدبّرناها واستفدنا منها، لقضينا على كثير من مشاكلنا الدينية والدنيوية.
فالقرآن الكريم هنا ـ وبشكل قصة بسيطة يفهمها العامة والخاصة ـ يعالج أخطر مشكلة واجهتها الأمة الإسلامية، بل أخطر مشكلة واجهتها البشرية، وهي مشكلة النزاعات والصراعات التي تضرب الأمم من الداخل، فها هو يذكر لنا قصة يوسف (عليه السلام) وإخوته، ويشرح لنا أحداثها ونتائجها، ويذكر مشاكلها، ثم يكشف أسرار تلك المشاكل، ويبين عللها.
ومن المعلوم أن أولاد يعقوب (عليه السلام) لم يكن لديهم صراع ديني، أي لم تكن بينهم مشاكل عقائدية، ولا اختلافات مذهبية، ولا شيء من هذا القبيل.
فلماذا تنازعوا؟!
وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم نجده يجيب على سؤالنا، ويكشف
____________
(1) يوسف: 7.
|
|
|
لنا سرّ وسبب ذلك النزاع، قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(1).
هاتان الآيتان الكريمتان تكشف لنا سرّ النزاع الذي دار بين أولاد يعقوب (عليه السلام)، فقد أرشد يعقوب (عليه السلام) ولده العزيز يوسف (عليه السلام) أن لا يقصص رؤياه على إخوته، لأنّهم سوف يكيدون له كيداً شديداً، كما كاد الشيطان لآدم (عليه السلام).
ولكن لماذا يكيدون له ذلك الكيد المذكور في الآية الأولى؟!
تجيب الآية التالية بعدها، وتذكر سبب ذلك الكيد، وهو المقام الإلهي الذي سوف يُعطى ليوسف من قبل الله عزّ وجلّ، فإنّ الله سبحانه سيجتبيه ويعلّمه من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليه، كما أتمّها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق، وهذا مقام عظيم يُظلم أولياء الله من أجله دائماً!
أتمنى لو يقرأ كلّ مسلم القرآن الكريم من جديد، ويدقّق ويبحث عن سرّ النزاعات التي دارت بين أولياء الله، وأعدائهم، سيجد أنها
____________
(1) يوسف: 5، 6.
تبدأ أوّلاً من ذلك المبدأ الذي بدأت منه بين آدم (عليه السلام) وإبليس، وهو مبدأ { أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ}، ومبدأ {نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} ومبدأ {أبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} ومبدأ { لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله} ومبدأ { لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ومبدأ (إن النبوة والإمامة لا تجتمع في بيت واحد) وكلّها أقاويل اختلفت في اللفظ وتوحّدت في المعنى.
لذلك تجد القرآن الكريم ركّز على مسألة الاصطفاء والاختيار، فإنك تجد آيات كثيرة جداً كلّها تركّز على هذه المسألة، وتدعو الناس للتسليم والخضوع، ولو أردنا ذكر هذه الآيات، لطال بنا المقام، ولكن سنذكر آيات قليلة فيما يلي من البحوث ـ إن شاء الله تعالى ـ.
إنّ في قصة يوسف وإخوته لآيات للسائلين الذين يسألون عن الحق، ويطلبونه، فمن يقرأ قصة يوسف يندهش كثيراً حينما يرى أنّ أبناء نبي الله يعقوب (عليه السلام) وهم الذين تربوا في بيت الوحي، كيف يتصرفون ذلك التصرف الذي لا يليق لبشر يحمل روحاً إنسانية، فضلاً عن روح دينية وإيمانية؟. نعم، إنها مشكلة قد توجب الحيرة، ولكن لاغرو، فقد سبقهم إلى ذلك إبليس الذي كان في مقام عظيم، لأن الحسد والتكبر، وعدم الخضوع للمختار من قبل الله عزّ وجلّ يهوي بصاحبه إلى مكان سحيق، فإخوة يوسف هم أولاد يعقوب بن إسحاق
|
|
|
بن إبراهيم (عليهم السلام)، إبراهيم الذي قال له المولى عزّ وجلّ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} فلم يتأنَّ (عليه السلام) حتى يشكر الله عزّ وجلّ على ذلك المقام الكبير الذي لم يصل إليه إلاّ بعد أن ابتلاه الله عزّ وجلّ بكلمات فأتمّهن، ولكنه (عليه السلام) بادر قبل شكر النعمة إلى طلب ذلك المقام لذريته؛ حيث حكى عنه المولى (عليه السلام) فقال سبحانه: { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }.
نعم، إن أولاد يعقوب يعلمون جيداً أن ذلك المقام انتقل من أبيهم إبراهيم (عليه السلام) إلى إسماعيل، ثم إلى إسحاق ثم إلى يعقوب، وبقي الأمر في أولاد يعقوب فمن منهم سيكون هو المرشح لذلك المقام الإلهي العظيم، ولذا أشار يعقوب إلى ولده العزيز يوسف على أنه هو المرشّح لذلك المقام، كما حكى القرآن الكريم ذلك عنه، حيث قال:
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(1).
ومن يراجع الروايات التاريخية، يرى كيف كانت القصة مؤلمة، وكيف كان يوسف (عليه السلام) يستغيث بهم واحداً واحداً، فلا يجيبه أحد،
____________
(1) يوسف: 6.
|
|
|
فما هو السر الذي جعلهم بهذه الحال من القسوة والغلظة؟
جواب هذا نَجده في قوله تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً }(1).
فهذه الآيات الكريمة شبهت المعاندين تشبيهاً فاضحاً، وذلك لأنّ الحمر المستنفرة تتحرك بدون شعور حركات عجيبة وغريبة، وأما إذا كانت نافرة من أسد، فإنك ترى منها العجب كلّ العجب؛ لأنها تهرب هروباً غير طبيعي، بحيث أنه لو كان أمامها جهنم لاقتحمتها، وهكذا الكثير من الناس! فبمجرد أن يختار الله عزّ وجلّ أحدهم، تقوم قيامتهم، ويتمنون لو وقعت السماء على الأرض، ولا يكون ذلك، ويضحّون بكل شيء، ويفترون على الله ورسوله الكذب، ويقتلون أولياء الله، ويكونون جنداً للشيطان.
كل ذلك احتجاجاً واعتراضاً على الله عزّ وجلّ، لأنّه اختص برحمته من يشاء، وهذا الاحتجاج والاعتراض ليس قولياً ولكنّه عملي، وإنّ هذا لهو الظلم العظيم؛ ذلك لأنّ كلّ إنسان لا يرضى أن يجبره أحد على ما لا يريد، ويعتبر ذلك الإجبار ظلماً عظيماً، فكيف يسعى البعض بعمله معارضاً ما يريده الله عزّ وجلّ، وهو العبد الحقير أليس ذلك هو الظلم العظيم؟
____________
(1) المدّثر: 49، 50، 51، 52.
|
|
|
لقد ذكر القرآن الكريم قصصاً كثيرة لبني إسرائيل، ومن الواضح أنّ مقصود القرآن الكريم هو دعوة المسلمين إلى الاعتبار بتلك الحوادث التاريخية المهمة.
ومن يقرأ القرآن الكريم يجد أنّ بني إسرائيل مرّوا بمراحل عديدة، وخطيرة جداً، يجب على كلّ مسلم أن يدرس تلك المراحل بدقّة، ويعرف السبب والسرّ الذي أوصلهم إلى تلك المراحل.
ونحن هنا نقسّم المراحل التي مرّوا بها، حسب ما نص عليه القرآن الكريم إلى أربع مراحل.
قال تعالى: { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}(1).
وهناك آيات أُخرى كثيرة بهذا المضمون، شرحت حال بني إسرائيل قبل إرسال موسى (عليه السلام) إليهم، وكيف كانوا في ذلّ وهوان،
____________
(1) البقرة: 49.
|
|
|
فقد استعبدهم فرعون، وحقّرهم وأذلّهم، وكل ذلك يشرحه القرآن الكريم، ويشرح كيف أذلهم وسحقهم فرعون وجنوده، فرعون الذي ادّعى أنّه ربّهم الأعلى، وفعل بهم ما فعل، ولم يستطع أحد مقاومته والوقوف أمام ظلمه وطغيانه.
ولكن كيف استطاع بنو إسرائيل التخلّص من هذا البلاء العظيم، هذا ما سنذكره في مرحلتهم الثانية.
بعد أن جمع فرعون السحرة من كل حدب وصوب؛ ليواجهوا معجزة موسى (عليه السلام)، كما ورد في القرآن الكريم بقوله تعالى: {قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}(1).
فهؤلاء السحرة مجتمعون لمواجة آية موسى (عليه السلام) (العصا)، ينتظرهم كل النعيم المادي بجميع أشكاله، شريطة أن يقولوا للنّاس إنّ ما عند موسى (عليه السلام) إنّما هو سحر كسحرهم، وينتظرهم كلّ أنواع العذاب، والظلم والقهر إن هم أيّدوا موسى (عليه السلام) وقبلوا قوله بأنّ العصا ليست سحراً، بل هي معجزة من الله وآية منه ـ تعالى ـ.
____________
(1) الأعراف: 111، 112، 113، 114.
|
|
|
وهذا الموقف الصعب الذي وقفه السحرة من أصعب المواقف التي عرفها التاريخ البشري، نظراً للظروف التي يعيشها السحرة، وأجواء الاختناق التي كانت تحيط بهم، ولا يحتاج هذا الموقف من ناحية صعوبته إلى توضيح أكثر؛ لوضوحه لمن تدبّر آيات القرآن الكريم التي تتحدّث عن هذا الموضوع؛ إذ يتّضح له إلى أي حدّ كان الموقف صعباً بالنسبة للسحرة، ولكنّ السحرة أمام هذا الموقف الصعب اختاروا رضى الله عزّ وجلّ بعد أن عرفوا أحقيّة موسى (عليه السلام) فيما ادّعاه، وبعد ذلك هدّدهم فرعون بعذابه وناره.
فرعون ذلك الكهنوت الظالم، الذي كان الخوف منه يجري في دماء بني إسرائيل، فهم منذ الولادة لم يعرفوا من فرعون إلاّ الظلم، والسحق والقهر، فهو الذي كان يبقر بطون أمهاتهم ويستحيي نساءهم ويقتل رجالهم، ومنذ ولادة موسى (عليه السلام) إلى أن بُعِث نبياً، وفرعون نفسه هو الحاكم لم يمت في هذه المدّة الطويلة، وهذا يدلّ على طول المدة التي حكم فيها، فالسحرة أمام رجلٍ قد خالط الخوف منه لحمهم ودمهم، فماذا سيكون موقفهم يا ترى؟!
لقد وقف السحرة موقفاً تخشع له الأرض والسماء، موقفاً من أشرف وأعظم المواقف التي عرفها التاريخ، كما يحكي القرآن الكريم ذلك حيث يقول: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ
|
|
|
السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَالله خَيْرٌ وَأَبْقَى}(1).
هذا الموقف العظيم، هو موقف التسليم لله عزّ وجلّ {َاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ} يعني أنّنا سلّمنا وأسلمنا أمرنا لله ـ تعـالى ـ، وهو خيرٌ وأبقى.
نعم هذه المرحلة هي من أشد المراحل، التي واجهها بنو إسرائيل، ولكنّهم بصبرهم وتحمّلهم وجهادهم خرجوا من هذه المرحلة منتصرين فائزين، وهذه المرحلة التي انتصر فيها بنو إسرائيل تسمى (مرحلة التسليم لله تعالى)، ولكن هناك مراحل أخرى تنتظرهم، فلننظر ماذا يفعلون فيها، هل ينتصرون أم يسقطون، كما سقط إبليس ومن سلك مسلكه؟
وقبل أن نذكر المرحلة الثالثة، لابدّ أن نشير إلى أنّ الله عزّ وجلّ، قد مدح بني إسرائيل وفضّلهم على العالمين; كل ذلك من أجل المرحلة الثانية التي تسمى (مرحلة التسليم لله) فقد جاءت آيات كثيرة
____________
(1) طه: 71، 72، 73.
|
|
|
تمجّدهم وتشيد بهم وبعملهم، وتذكر فضلهم ومقامهم كما في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}(1).
ولقد باء بنو إسرائيل بفضل عظيم، ولكن يا ترى هل يستمر هذا المجد وهذا التفضيل؟ هذا ما نلاحظه في المرحلة الثالثة.
بعد أن فضّل الله بني إسرائيل ـ وذلك بسبب خضوعهم لموسى (عليه السلام) المختار من قبل الله عزّ وجلّ، ابتلاهم الله بنفس ما ابتلى به إبليس وأولاد يعقوب، وغيرهم حيث استمرت الحكمة الإلهية بانتقاء واصطفاء بعض بني إسرائيل على بعض، فقد ورد في الروايات أنّ الله عزّ وجلّ اختار من بني إسرائيل أربعة آلاف نبي، ولكن كما حكى القرآن الكريم عنهم حيث يقول: {... أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}(2). إن مشكلتهم هي الاستكبار على المختار من قبل الله عزّ وجلّ، وهذه هي مشكلة أكابر المجرمين في كل زمان ومكان، فإنها كانت مشكلة إبليس، حيث استكبر وأبى أن يسجد لآدم (عليه السلام) وقال أنا خير منه، وهي مشكلة
____________
(1) البقرة: 122.
(2) البقرة: 87.
|
|
|
أولاد يعقوب، فلم يخضعوا ليوسف إلاّ بعد ما عجزوا عن الإطاحة به، وهي مشكلة أكابر قريش، وغيرهم من أكابر المجرمين الذين يضلّون عوامّ الناس تحت عناوين برّاقة.
فبنو إسرائيل بسبب هذه المشكلة سقطوا إلى أسفل سافلين، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب على غضب، ووصف حالهم ـ تعالى ـ حيث يقول: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}(1).
فيجب على المسلم ان يعتبر ولا يقع فيما وقع فيه بنو إسرائيل من الخطأ الكبير، بل ينبغي عليه الإسراع في التسليم والخضوع للمختارين من قبل الله عزّ وجلّ ولا يستكبر عليهم أبداً، وينبغي عليه أن يصرف كل همّه للبحث، والتعرف على المختارين من قبل الله عزّ وجلّ ويستعين في ذلك بطول الدعاء، وإدامة الإصرار على الله عزّ وجلّ حتى يرشّحه لمقام معرفة المختارين من قبله عزّ وجلّ.
هكذا استمرّ بنو إسرائيل في السقوط، كما سقط إبليس وقابيل وغيرهما من المفسدين، ولكنهم في فترة من الزمان انتبهوا من غفلتهم، وعرفوا سرّ سقوطهم، وهو معارضتهم وعنادهم لخيرة الله
____________
(1) المائدة: 60.
|
|
|
عزّ وجلّ وصفوته منهم، وعرفوا أنه لا يمكن أن يصلح لهم شأن إذا لم يسلّموا أمورهم لرجل يختاره الله عزّ وجلّ عليهم وهذا ما سنذكره في المرحلة الرابعة.
4. مرحلة الانتباه ومعرفة سرّ السقوط:
تنبّه بنو إسرائيل لسرّ سقوطهم وذلّهم وسحقهم، وهو معاندتهم لصفوة الله، وعلموا أنّه لن تقوم لهم قائمة، إذا لم يسلموا لمن يختاره الله ولياً وحاكماً عليهم، لذلك لجأوا إلى نبي لهم، وقالوا ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، وهو ما جاء في قصة طالوت (عليه السلام) في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(1).
____________
(1) البقرة: 246، 247.
|
|
|
هذه الآيات الكريمات تذكر قصة طالوت (عليه السلام) وتبيّن أن بني إسرائيل عرفوا أنّه لا خلاص لهم من الذل والهوان، إلاّ اللجوء إلى رجل يختاره الله عزّ وجلّ لهم قائداً وإماماً.
وفي هذه الآيات دروس وعبر ومن جملتها:
1. معرفة بني إسرائيل لسرّ الفلاح، وهو التسليم لمن اختاره الله عزّ وجلّ واجتباه.
2. مع معرفتهم اليقينية بذلك إلاّ أنّهم لمّا اختار الله عزّ وجلّ رجلاً منهم وهو طالوت؛ إذا بهم يعترضون على خيرة الله عزّ وجلّ كما اعترض إبليس، وقابيل وأكابر المجرمين، ومن شاكلهم من أعداء الله المعاندين لاختيار الله عزّ وجلّ في كلّ زمان ومكان، وقالوا: نفس الكلمة الشيطانية {نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} كما قال: إبليس { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} وقالوا: {لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ} وقال إبليس: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}.
وهكذا دائماً يبدأ النزاع والخلاف، ثم يتحوّل إلى فرق ومذاهب، كل حزب بما لديهم فرحون.
ولكن بني إسرائيل كانوا في ظروف صعبة، أجبرتهم على التسليم لولي الله وخيرته طالوت (عليه السلام) ; مع أنّ نبيهم قد بيّن لهم أنّ
|
|
|
مسألة الولاية ـ بأي نوع كانت ـ هي بيد الله يعطي ملكه من يشاء، فلماذا الناس دائماً يريدون أن ينازعوا الله عزّ وجلّ في ملكه؟!
3. بما أنّ بني اسرائيل كانوا غير راضين في أوّل الأمر بولاية طالوت، أراد الله عزّ وجلّ امتحان إيمانهم فابتلاهم ببلاء عظيم، وهو النهر الذي منعهم عن الشرب منه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ}(1).
هكذا ابتلاهم الله على يد وليّه؛ ليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين، ولم يبقَ مع طالوت إلاّ الذين أخلصوا وسلّموا تسليماً، وأكثر من ثبت معه هم أهل الآخرة، الذين يعلمون، ويوقنون أنّهم ملاقوا الله عزّ وجلّ والذين جاؤوا من أجل نيل الشهادة.
هذه الآيات الكريمة تعلمنا دروساً عظيمة نحتاج إليها كثيراً في هذه الحياة، فمنها أن طالوت مع كونه غير نبي حرّم على أتباعه ما أحلّ لهم موسى، وجميع من سبقه من الأنبياء، وهو الماء، بل الأعجب
____________
(1) البقرة: 249.
|
|
|
منه أنه أباح لهم غرفة واحدة، وحرّم الغرف الأخرى، والماء واحد والحال واحد، وهذا هو قمة ابتلاء الإيمان والخضوع، فلو فرضنا أنفسنا مكان أصحاب طالوت، هل سنتحمل منه هذا الأمر الذي يبدو كأنه تحكّم واستخفاف بالأتباع مع أنه لم يكن نبياً ولا هو ذو مقام ولا ذو مال في قومه قبل اختياره للقيادة، إنه موقف صعب يحتاج الى درك كبير لمقام المختارين من قبل الله عزّ وجلّ حتى ولو لم يكونوا من الأنبياء، ولا المرسلين، فلو أخذ رجل ـ ثبت لي أنه مختار من قبل الله ـ رمانة وشقها نصفين، ثم قال لي هذا النصف حرام عليك، وهذا حلال، هل عندي استعداد لأن أخضع له في مثل هذا الأمر الذي يبدو وكأنه عبث؟ إذا لم أشعر من نفسي بتقبل هذا الأمر وأمثاله، فيجب علي أن أراجع حساباتي، وأجدد النظر في أمر إيماني بالله عزّ وجلّ، ومن تلك الدروس أيضاً أننا نرى أن بني إسرائيل لمّا سلّموا أمرهم لخيرة الله، وصفوته نالوا العزّ والمجد في الدنيا والآخرة، ولكنهم بعد ما انحرفوا عن تلك الحال، وعادوا إلى عادتهم الخبيثة، وهي محاربة أولياء الله وخيرته، كانت نتيجة عملهم أن سلب الله ـ تعالى ـ منهم شرف النبوة إلى يوم القيامة، وأبدلهم بالعزةِ الذلةَ والهوان والمسكنة إلى يوم القيامة.
فلنعتبر ممّا حدث لبني إسرائيل، وإلاّ نزع الله منّا شرف الإسلام، والدين الحق إلى يوم القيامة، فالله عزّ وجلّ ليس بينه، وبين أحد هوادة.