نِساءٌ في حياةِ النبي
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وقد كانت سيدة نساء عصرها كمالاً وجمالاً ومكانة ، وكرامة ، فهي سليلة دوحُة ثابتة الفروع ، وفرع شجرة عميقة الجذور ، وقد عرفت بين قومها بسمو الروح وعلو الهمة وقوة الشخصية ، وثبات الفكرة وصواب الرأي ، وقد كانت مع كل هذه الثروات المعنوية والأدبية ثرية في مالها أيضاً ، وقد كانت تفتش عمن تستودعه المال ليتاجر لها به على أن يكون أميناً صادقاً مخلصاً ، فهي جادة في طلب ضالتها من بين شباب قريش وشيوخها ، وبما أنها امرأة لا تتاح لها المراقبة الدقيقة كانت تحتاج إلى صاحب ثقة تتمكن أن تودعه مطمئنة مرتاحة .
ومحمد بن عبد الله كان يفتش بدوره أيضاً عمن يدفع له مالاً يتاجر له به. فهو وإن كان فتى قريش الأول ومحط أنظارهم جميعاً ، ولكنه لم يكن ليستغني عما يحتاج إليه غيره من رجال قريش. ويسمع كما يسمع غيره أن خديجة بنت خويلد تفتش عمن يتاجر لها بمالها فيتقدم إليها عارضاً عليها استعداده للقيام بهذه المهمة .
وخديجة بنت خويلد تلاقي عرضه بالقبول بل بالرضاء ، والاطمئنان فهي تعرف محمد بن عبد الله وتعرف عنه الكثير أيضاً ، ولم يكن في مكة من لا يعرف محمداً الصادق الأمين .
فخديجة راضية لهذه الشركة ومتفائلة بها خيراً وتدفع له أموالها ، وهي واثقة من أنها قد سلمتها ليد أمينة حريصة على أداء الأمانة ، ولذلك فقد أخلدت إلى راحة نفسية عميقة وظلت تنتظر رجوع محمد بن عبد الله وغلامها ميسرة الذي أرسلته مع محمد ، ورجع محمد ورجع معه ميسرة .
فالزواج في نظر الرسول الأعظم امتزاج روحين ، ووحدة هدف ، وغاية وتعانق قلبين طاهرين قبل أن يكون صلة جسدية .
وكان صلوات الله عليه يحمل لها معه الربح الزاكي الوفير وتخلد خديجة بنت خويلد إلى غلامها ميسرة تسأله عمن رافق في السفر وتحلف عليه أن يشرح لها كل ما وجده منه وما رآه عليه ، وهي على شبه يقين من أن غلامها سيقص عليها من أمر رفيقه عجباً ، وغلامها مندفع يعدد لها مناقب محمد ، ويصف لها حركاته وسكناته والإعجاز في سلوكه ، وأسلوبه وكل شيء فيه ، وهي منصتة له بقلبها وفكرها وبكل جارحة فيها تستزيده ولا تنكر من حديثه شيئاً ، ولا تستغرب منه خبراً ، فهي قد عرفت أن محمداً بن عبد الله رجل لا كالرجال وقد سمعت عنه ما جعلها على يقين من أن له في مستقبله شأناً سماوياً .
وخديجة في ذلك الحين امرأة في نهاية العقد الرابع من عمرها ، وكانت قد تزوجت ومات عنها زوجها ، وهي في ريعان الشباب.
خديجة بنت خويلد ـ وقد أثرت عليها شخصية محمد بن عبد الله ، واستولت على أفكارها وأمانيها روحه السامية بكل ما فيها من معاني الكمال ـ تود من صميم قلبها أن تقرن به حياتها الثمينة ، وأن تكون له كأروع ما تكون الزوجة الوفية المخلصة.
نعم خديجة بنت خويلد الغنية بمالها وجمالها وعزها ، ومجدها تبعث الى محمد بن عبد الله الصادق الأمين وتطلب اليه الزواج حباً في شخصه ، وتفانياً في روحه ونفسه .
وقد كان صلوات الله عليه في ذلك الحين شاباً في أواسّط العقد الثالث من عمره المبارك وهو يتمتع بكل معاني الكمال من الجمال والعزة والكرامة وسمو المكانة وعلو الرتبة وقوة الشخصية وقد كان يتمكن بسهولة أن يخطب له أي فتاة من فتيات قريش مهما علت بشأنها وجمالها .
فهو منار شباب قريش والمقدم عليهم في كل مضمار ، ولكنه بدافع خفي وجد نفسه يندفع الى خديجة بنت خويلد السيدة التي تكبره بخمسة عشر سنة متجرداً عن العواطف الشهوانية ، والأهواء المادية مترفعاً عن كل ما يصبو إليه غيره من متعة جسدية ، وغايات رخيصة .
فهو كان يرى في الزواج شركة روحية مقدسة لا تطغو عليها المادة ولا تتحكم فيها النزعات الحيوانية .
فالزواج في نظر الرسول الأعظم امتزاج روحين ، ووحدة هدف ، وغاية وتعانق قلبين طاهرين قبل أن يكون صلة جسدية .
ومن أجدر من خديجة بنت خويلد بأن تحتل في قلب محمد وفي حياته مكان الصدارة ، وفعلاً فقد دخلت خديجة في حياة رجلها الخالد كإمرأة رابعة ، ولكنها لم تدخل في حياته وهو محمد بن عبد الله فحسب ، بل وهو رسول الله وخاتم أنبيائه أيضاً.
وهكذا كانا مفترقين ثمّ جمعهما القدر السماوي دون أن يشعرا ليضم ثروة خديجة إلى دعوة محمد، وما أحوج الدعوة إلى رصيد تسلك به الطريق ، وقد وجد كل منهما ضالته المنشودة في قرينه وصفيه ، فخديجة بنت خويلد ربيبة الترف والدلال والمتقلبة في أحضان النعمة والثراء ، تفنى في رجلها الحبيب الفقير وتتعرف في كل لحظة على معنى من معانيه ، يزيدها فناءً فيه ويحبّب إليها ذلك الفناء.
ومحمد بن عبد الله أحسن رجال قريش شكلاً وأعرقهم أصلاً وأصدقهم لساناً وأقواهم جناناً وأذيعهم صيتاً وأعلاهم درجةً وهو في الخامسة والعشرين من عمره الشريف يخلص لزوجته الوفية خديجة وهي في الأربعين من عمرها المبارك ، يخلص لها خلوص الزوج الواثق ويركن الى حنانها وعطفها ركون الإبن إلى أمه.
وخديجة هي رابعة امرأة دخلت في حياته صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن أتراه كان نسي النساء الثلاث اللاتي تقدمنها ...
أتراه قد أهمل ذكرهن أو تجاهل وجودهن في حياته الماضية ؟
كلا فإن محمداً بن عبد الله لم يكن من النمط الذي ينسى من أحبوه ، أو يتجاهل ذكر من لم يتجاهلوه .
وما أكثر ما كان يسرح مع أفكاره في ساعات عزلته ، ويرجع بها إلى الوراء إلى أيام حداثته ، وصباه الأول ، من عهد أمه آمنة إلى مرضعته حليمة ، إلى زوجة عمه الكريمة فاطمة بنت أسد ، ويقف معهن عند كل لمحة حب ، أو لفتة عطف ، ويدعو لهن بالرحمة والغفران ، وكان يرى حياته الماضية ، وكأنها شريط يتتابع ويتلاحق أمام عينيه بكل ما يحمل هذا الشريط من إكرام وآمال ومحن ، ومصاعب .
ثمّ يعود ليستقر بأفكاره عند واقعه الحالي ، ويُركِّز على خديجة هذه السيدة الطاهرة التي يحس بها كقوة خفية تشد ظهره ، وتسند كيانه ، وكأنه كان يعلم أنها سوف تقف معه ، إذ لا واقف غيرها ، وتصدقه حين لا مصدق سواها ، وتمضي السنون تتلاحق ، والأحداث تتابع ومحمد بن عبد الله هو وخديجة بنت خويلد يشقان طريقهما معاً في الحياة وقد ظللتهما سماء الحب وأحاطتهما يد الأخلاص والوفاء .
وكان صلوات الله عليه كثيراً ما يعتكف الساعات الطوال في غار حراء ،يعتزل بها الدنيا بروحه وفكره ، وجسده ، ويروح يسبح في ملكوت السماوات.
وما أكثر ما كانت تستبطئه خديجة وتفتقد قدومه في وقته المعين ، فتذهب بنفسها غير واثقة من أن تنيب عنها خادمه أو ترسل دونها رسولاً ، تذهب لتفتش عنه في الأماكن التي تعلم أنه يزورها دائماً ، وخصوصاً غار حراء ... فقد كان هو الخلوة المفضلة لدى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وقد كانت خديجة تحمل له بيدها الطعام والماء ، ولا تذهب إلاّ للإطمئنان على سلامته ، فقد كانت تشجعه على هذا الاعتكاف لثقتها من أن وراء هذه الخلوات رسالة مقدسة سوف يحملها بعلها الغالي . ولذلك فلم تكن تتبرم لغيابه أو تعتب عليه وكانت تشعر بروحها وهي تذهب معه أينما ذهب ، فهي معتكفة معه في الغار ، وهي سارحة واياه في البراري والقفار ، فإن فاتها أن تسايره جسمياً فإنها لم تكن لتفارقه روحياً ، وفكرياً ، وكانت تتابع حركاته وسكناته بعينها الساهرة الحنون وهي رفيقة به عطوفة عليه ...
مصدر : المرأة مع النبي « صلى الله عليه وآله » في حياته و شريعته