أضواء من أخلاق أمير المؤمنين علي×
في سوق التمارين
مرّ أمير المؤمنين علي× بأصحاب التمر، فإذا هو بجارية تبكي فقال: يا جارية ما يبكيك؟ فقال: بعثني مولاي بدرهم، فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به فلم يرضوه، فلما أتيته به أبى أن يقبله، فالتفت الإمام× إلى التمار، وقال: يا عبدالله، إنها خادمة وليس لها أمر، فأردد إليها درهمها وخذ التمر، فقام الرجل فلكز الإمام وهو لا يعرفه، فصاح الناس: هذا أمير المؤمنين فربا الرجل (أي أخذه الربو وأصبح تنفسه صعباً) وأصفرّ وأخذ التمر وردّ إليها درهمها، ثم قال: يا أمير المؤمنين أرض عني: فقال أمير المؤمنين×: ما أرضاني عنك أن أصلحت أمرك ووفيت الناس حقوقهم([1]).
الصفح الجميل
بعث أمير المؤمنين× إلى لبيد بن عطارد التميمي في كلام بلغه فمرّ به أمير المؤمنين× في بني أسد، فقام إليه نعيم بن دجاجة الأسدي فأفلته، فبعث إليه أمير المؤمنين× فأتوه به وأمر به أن يضرب فقال له: نعم والله أن المقام معك لذلّ وأنّ فراقك لكفر، فلما سمع ذلك منه قال×: قد عفونا عنك أن الله عز وجل يقول: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}([2]) أما قولك: إن المقام معك لذلّ فسيئة اكتسبتها، وأما قولك أن فراقك لكفر فحسنته اكتسبتها، فهذه بهذه([3]).
ذروة الإيثار
عن خالد بن ربعي قال: إنّ أمير المؤمنين× دخل مكّة في بعض حوائجه، فوجد إعرابيّاً متعلّقاً بأستار الكعبة وهو يقول: يا صاحب البيت! البيت بيتك والضيف ضيفك، ولكلّ ضيف من ضيفه قرى (ما يقدّم للضيف) فاجعل قراي منك الليلة المغفرة، فقال أمير المؤمنين× لأصحابه: أما تسمعون كلام الأعرابيّ؟ قالوا: نعم، فقال: الله أكرم من أن يردّ ضيفه؛ فلمّا كانت الليلة الثانية وجده متعلّقاً بذلك الركن وهو يقول: يا عزيزاً في عزّك فلا أعزّ منك في عزّك أعزّني بعزّ عزّك في عزّ لا يعلم أحد كيف هو، أتوجْه إليك وأتوسّل إليك، بحقّ محمد وآل محمد عليك أعطني ما لا يعطيني أحد غيرك، وأصرف عنّي ما لا يصرفه أحد غيرك؛ قال: فقال أمير المؤمنين× لأصحابه: هذا والله الأسم الأكبر بالسريانيّة، أخبرني به حبيبي رسول الله’ سأله الجنّة فأعطاه، وسأله صرف النّار وقد صرفها عنه.
قال: فلمّا كانت الليلة الثّالثة وجده وهو متعلّق بذلك الركن وهو يقول: يا من لا يحويه مكان ولا يخلو منه مكان بلا كيفيّة كان، أرزق الأعرابيَّ أربعة آلاف درهم، قال: فتقدّم إليه أمير المؤمنين× فقال: يا أعرابيّ سألت ربّك القرى فقراك، وسألته الجنّة فأعطاك، وسألته أن يصرف عنك النار وقد صرفها عنك، وفي هذه الليلة تسأله أربعة آلاف درهم؟ قال الأعرابيّ: من أنت؟ قال: أنا عليّ بن أبي طالب، قال الأعرابيّ أنت والله بغيتي وبك أنزلت حاجتي، قال: سل يا أعرابيّ، قال: أُريد ألف درهم للصّداق، وألف درهم أقضي به ديني، وألف
درهم أشتري به داراً، وألف درهم أتعيّش منه، قال: أنصفت يا أعرابيّ، فإذا خرجت من مكّة فاسأل عن داري بمدينة الرّسول.
فأقام الأعرابيّ بمكّة أُسبوعاً وخرج في طلب أمير المؤمنين× إلى مدينة الرسول: ونادى: من يدلّني على دار أمير المؤمنين وأذا ابنه الحسين بن عليّ، فقال الأعرابيّ: من أبوك؟ قال: أمير المؤمنين عليٌّ بن أبي طالب، قال: من أمّك؟ قال: فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، قال: من جدّك؟ قال: رسول الله محمد بن عبدالله ابن عبدالمطلب قال: من جدّتك؟ قال: خديجة بنت خويلد، قال: من أخوك؟ قال: أبو محمّد الحسن بن عليّ، قال: لقد أخذت الدنيا بطرفيها، أمش إلى أمير المؤمنين وقل له: إنّ الأعرابيّ صاحب الضمان بمكّة على الباب، قال: فدخل الحسين بن عليّ× فقال: يا أبة أعرابيٌّ بالباب يزعم أنّه صاحب الضّمان بمكّة، قال: فقال: يا فاطمة عندك شيء يأكله الأعرابيّ؟ قال: اللهمَّ لا، قال: فتلبّس أمير المؤمنين× وخرج وقال: أدعوا لي أبا عبدالله (سلمان الفارسيّ)، قال: فدخل إليه سلمان الفارسي فقال: يا أبا عبدالله أعرض الحديقة التي غرسها رسول الله’ لي على التجّار، قال: فدخل سلمان إلى السوق وعرض الحديقة، فباعها باثني عشر ألف درهم، ووقع الخبر إلى سؤّال المدينة فاجتمعوا، ومضى رجل من الأنصار إلى فاطمة÷ فأخبرها بذلك، فقالت: آجرك الله في ممشاك، فجلس علي× والدّراهم مصبوبة بين يديه حتّى اجتمع إليه أصحابه، فقبض قبضة قبضة وجعل يعطي رجلاً رجلاً حتّى لم يبق معه درهم واحد.
فلمّا أتى المنزل قالت له فاطمة÷: يا ابن عمّ بعت الحائط الذي غرسه لك والدي؟ قال: نعم بخير منه عاجلاً وآجلاً، قالت: فأين الثمن؟ قال: دفعته إلى أعين استحييت أن أُذلّها بذلّ المسألة قبل أن تسألني، قالت فاطمة: أنا جائعة وابناي جائعان ولا أشكّ إلا وأنّك مثلنا في الجوع، لم يكن لنا منه درهم؟ وأخذت بطرف ثوب علي×، فقال علي×: يا فاطمة خلّيني، فقالت: لا والله أو يحكم بيني وبينك أبي، فهبط جبرئيل× على رسول الله’ فقال: يا محمّد السلام يقرؤك السلام ويقول: أقرأ علياً منّي السلام، وقل لفاطمة: ليس لك أن تضربي على يديه، فلمّا أتى رسول الله’ منزل عليّ وجد فاطمة ملازمة لعلي×، فقال لها: يا بنيّة مالك ملازمة لعليّ؟ قالت: يا أبة باع الحائط الذي غرسته له باثني عشر ألف درهم، لم يحبس لنا منه درهماً نشتري به طعاماً، فقال: يا بنيّة إنّ جبرئيل يقرؤني من ربي السلام ويقول: اقرأ عليّاً من ربّه السلام، وأمرني أن أقول لك: ليس لك أن تضربي على يديه، قالت فاطمة÷: فإنّي أستغفر الله ولا أعود أبداً.
قالت فاطمة÷: فخرج أبي’ في ناحية وزوجي في ناحية، فما لبث أن أتى أبي ومعه سبعة دراهم سود هجريّة، فقال: يا فاطمة أين ابن عمّي؟ فقلت له: خرج، فقال رسول الله’: هاك هذه الدراهم، فإذا جاء ابن عمّي فقولي له يبتاع لكم بها طعاماً، فما لبثت إلا يسيراً حتّى جاء علي×، فقال: رجع ابن عمّي فإنّي أجد رائحة طيبة؟ قالت: نعم وقد دفع إلى شيئاً تبتاع به لنا طعاماً، قال علي×: هاتيه، فدفعت إليه سبعة دراهم سوداً هجريّة، فقال: بسم الله والحمد لله كثيراً طيّباً، وهذا من رزق الله عزّ وجل، ثمّ قال: يا حسن قم معي، فأتيا السوق فإذا هما برجل واقف وهو يقول: من يقرض الملي الوفيّ؟ قال: يا بنيّ نعطيه؟ قال: إي والله يا أبة، فأعطاه عليّ× الدراهم، فقال الحسن: يا أبتاه أعطيته الدراهم كلّها؟ قال: نعم يا بنيّ، إنّ الذي يعطي القليل قادر على أن يعطي الكثير.
قال: فمضى عليّ بباب رجل يستقرض منه شيئاً، فلقيه أعرابيٌّ ومعه ناقة فقال: يا عليّ اشتر منّي هذه الناقة، قال: ليس معي ثمنها، قال: فإنّي أنظرك به إلى القبض، قال: بكم يا أعرابيّ؟ قال: بمائة درهم، قال عليّ: خذها يا حسن فأخذها، فمضى عليّ× فلقيه
أعرابيّ آخر المثال واحد والثياب مختلفة، فقال: يا عليّ تبيع الناقة؟ قال عليٌّ: وما تصنع بها؟ قال: أغزو عليها أوّل غزوة يغزوها ابن عمّك قال: إن قبلتها فهي لك بلا ثمن، قال: معي ثمنها وبالثمن اشتريتها، فبكم اشتريتها؟ قال: بمائة درهم، قال الأعرابيّ: فلك سبعون ومائة درهم، قال عليٌّ×: خذ السبعين والمائة وسلّم الناقة، والمائة للأعرابي الذي باعنا الناقة والسبعين لنا نبتاع بها شيئاً، فأخذ الحسن× الدراهم وسلّ الناقة، قال عليّ×: فمضيت أطلب الأعرابيّ الذي ابتعت منه النّاقة لأعطيه ثمنها، فرأيت رسول الله’ جالساً في مكان لم أره فيه قبل ذلك ولا بعده، على قارعة الطريق، فلمّا نظر النبي’ إليَّ تبسّم ضاحكاً حتّى بدت نواجذه، قال عليّ×: أضحك الله سنّك وبشّرك بيومك، فقال: يا أبا الحسن: إنّك تطلب الأعرابيّ الذي باعك الناقة لتوفيه الثمن؟ فقلت: إي والله فداك أبي وأمّي، فقال: يا أبا حسن الذي باعك الناقة جبرئيل والذي اشتراها منك ميكائيل، والناقة من نوق الجنّة، والدراهم من عند رب العالمين عزّ وجلّ، فانفقها في خير ولا تخف إقتاراً([4]).
العفو العام
بعد انتهاء حرب الجمل وقع في قبضته العديد من ألدّ أعدائه فعفا عنهم ومن بينهم موسى بن طلحة بن عبيد الله فقد جيئ به إلى الإمام أمير المؤمنين× قال له: قل: >استغفر الله وأتوب إليه، ثلاث مرّات فخلّى سبيله< وقال له× أذهب حيث شئت، وما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أوكراع فخذه، واتق الله فيما تستقبله من أمرك و أجلس في بيتك<([5]).
ويطعم اليتامى ويخدم الأرامل
رأى علي× امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها، وسألها عن حالها، فقالت: بعث علي بن أبي طالب صاحبي (زوجي) إلى بعض الثغور (الحدود) فقتل، وترك عليَّ صبياناً يتامى، وليس عندي شيء، فقد الجأتني الضرورة إلى خدمة الناس.
فانصرف الإمام× وبات ليلته قلقاً، فلما أصبح حمل زنبيلاً فيه طعام، فرآه بعضهم وقال له: أعطني أحمله عنك يا أمير المؤمنين؟ فقال×: من يحل عني وزري يوم القيامة؟
فأتى وقرع الباب، فقالت من هذا؟ قال×: أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة، فافتحي فإنّ معي شيئاً للصبيان، فقلت: رضى الله عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب، فدخل وقال: أنني أحببت اكتساب الثواب، فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعللين الصبيان لأخبز أنا، فقالت: أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان فعلّلهم حتى أفرغ من الخبز.
قالت (وهي تروي القصة): فعمدتُ إلى الدقيق فعجنته وعمد عليّ إلى اللحم فطبخه وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، وكلما ناول الصبيان من ذلك شيئاً قال له: يا بني أجعل علي بن أبي طالب في حلّ مما مرّ في أمرك (مما جرى عليك) فلما أختمر العجين قالت: يا عبدالله أسجر التنور فبادر لسجره فلما أشعله ولفح في وجهه جعل يقول: ذق يا علي هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى، فرأته امرأة (من الجيران أو غيرهم) تعرفه فقالت: ويحك هذا أمير المؤمنين.
فبادرت المرأة وهي تقول واحيائي منك يا أمير المؤمنين: فقال×: بل واحيائي منك يا أمة الله فيما قصرت في أمرك([6]).
واشترى× تمراً بالكوفة فحمله في طرف ردائه، فتبادر الناس إلى حمله وقالوا: يا أمير المؤمنين نحن نحمله، فقال× ربّ العيال أحق بحمله([7]).
تواضع للأمة
خرج أمير المؤمنين على أصحابه، وهو راكب، فمشوا خلفه، فالتفت إليهم فقال: لكم حاجة؛ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنّا نحب أن نمشي معك، فقال×: انصرفوا فإنّ مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب ومذلّة للماشي([8]).
الأصبغ عن عليّ× في قوله: >وعباد الرحمن([9])< قال: فينا نزلت هذه الآية.
الصادق×: كان أمير المؤمنين× يحطب ويستسقي ويكنس، وكانت فاطمة÷ تطحن وتعجن وتخبز.
وروي أنّه اشترى تمراً بالكوفة، فحمله في طرف ردائه، فتبادر الناس إلى حمله وقالوا: يا أمير المؤمنين نحن نحمله، فقال×: ربّ العيال أحقّ بحمله.
قوت القلوب عن أبي طالب المكّي: كان علي× يحمل التمر والمالح بيده ويقول:
لا ينقص الكامل من كماله ما جرَّ من نفع إلى عياله
زيد بن عليّ: إنّه كان يمشي في خمسة حافياً ويعلّق نعليه بيده اليسرى: يوم الفطر والنحر والجمعة وعند العيادة وتشييع الجنازة؛ ويقول: إنّها مواضع الله، وأحبّ أن أكون فيها حافياً.
كان يمشي في الأسواق وحده وهو ذاك(خليفة) يرشد الضالّ ويعين الضعيف ويمرُّ بالبيّاع والبقّال فيفتح عليه القرآن ويقرأ: {تِلْكَ الدَّارُ الآْخِرَةُ نَجْعَلُها} الآية.
عن أبي عبدالله× قال: خرج أمير المؤمنين× على أصحابه وهو راكب، فمشوا خلفه فالتفت إليهم فقال: لكم حاجة؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنّا نحبّ أن نمشي معك، فقال لهم: انصرفوا فإنّ مشي الماشي مع الراكب مفسدة للرّاكب ومذلّة للماشي: قال: وركب مرّة أخرى فمشوا خلفه، فقال: انصرفوا فإنّ خفق النعال خلف أعقاب الرجال مفسدة([10]).
عن الصادق× مثله. وترجّل دهاقين الأنبار له وأسندوا بين يديه، فقال×: ما هذا الذي صنعتموه؟ قالوا: خلق منّا نعظّم به أمراءنا، فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم وإنّكم لتشقّون به على أنفسكم، وتشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وما أربح الراحة معها الأمان من النار([11]).
أبو عبدالله× قال: افتخر رجلان عند أمير المؤمنين× فقال×: أتفتخران بأجساد بالية وأرواح في النار؟ إن يكن له عقل فإنّ لك خلفاً، وإن لم يكن له تقوى فإنّ لك كرماً، وإلا فالحمار خير منكما، ولست بخير من أحد([12]).
عن أبي محمد العسكريّ أنّه قال: أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدّهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأناً، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصدّيقين ومن شيعة عليّ بن أبي طالب× حقّاً([13]).
وشكاه أحدهم لدى الخليفة الثاني فلما أراد أن يقضي بينهما فكنى عمر بن الخطاب الإمام× وسمّى خصمه فتغير وجه الإمام× فتساءل الخليفة عن سرّ ذلك فقال الإمام لأنك لم تساو بيننا كنيتني ولم تكنّه فقبله الخليفة بين عينيه وقال له: >بأبي أنت أن الله هدانا بكم وأخرجنا من الظلمات إلى النور<([14]).
عن الإمام الصادق× قال: كان علي× لا يأكل مما هنا (العراق) حتى يؤتى به من ثم (الحجاز).
وعن الأصبغ بن نباتة قال علي× (يخاطب أهل العراق): >دخلت بلادكم بأشمالي هذه ورحلتي وراحلتي ها هي فإن أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فأنني من الخائنين<.
وفي رواية أخرى: >يا أهل البصرة (بعد حرب الجمل) ما تنقمون مني إن هذا لمن غزل أهلي؟ وأشار إلى قميصه([15]).
ذكر الشعبي قال: >دخلت الرحبة بالكوفة وأنا غلام في غلمان، فإذا أنا بعلي× قائماً على صرتين من ذهب وفضة بين الناس ولم يحمل إلى بيته قليلاً ولا كثيراً فرجعت إلى أبي فقلت: لقد رأيت اليوم خير الناس أو أحمق الناس، قال: من هو يا بني؟ قال: قلت: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين يصنع كذا فقصصت عليه فبكى وقال: يا بني بل رأيت خير الناس([16]).
وفي كتاب الغارات عن زاذان قال: انطلقنا مع قنبر إلى علي× فقال: قم يا أمير المؤمنين فقد خبأت لك خبيئة قال: فما هو؟ قال: قم معي، فقام فا
نطلق إلى بيته فإذا بأشنة (قربة) مملوءة جامات من ذهب وفضة فقال: يا أمير المؤمنين أنك لا تترك شيئاً إلا قسمته، فادخرت هذا لك، قال علي×: >لقد أحببت أن تدخل بيتي ناراً كثيرة؟ فسلّ سيفه فضربها فانتشرت من بين أناء مقطوع نصفه أو ثلثه، ثم قال:اقسموه بالحصص ففعلوا وجعل (علي)× يقول:
>هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه ثم قال: >يا بيضاء يا صفراء غرّي غيري!<([17]).
العدالة
عن فضيل بن الجعد قال: آكد الأسباب كان في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين أمر المال فإنه لم يكن يفضل شريفاً على مشروف ولا عربياً على عجميّ ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل كما يصنع الملوك ولا يستميل أحداً إلى نفسه، وكان معاوية بخلاف ذلك، فترك الناس علياً والتحقوا بمعاوية، فشكا علي إلى الأشتر تخاذل أصحابه (أصدقائه) وفرار بعضهم إلى معاوية، فقال الأشتر: >يا أمير المؤمنين أنّا قاتلنا أهل البصرة بأهل الكوفة وأهل الشام بأهل البصرة وأهل الكوفة ورأي الناس واحد وقد اختلفوا بعد وتعادوا وضعفت النيّة وقلّ العدد وأنت تأخذهم بالعدل وتعمل فيهم بالحق، وتنصف الوضيع من الشريف، فليس للشريف عندك فضل منزلة (على الوضيع) فضجّت طائفة ممن معك من الحق إذ عموا به واغتموا من العدل إذ صاروا فيه ورأوا صنائع معاوية عند أهل الغناء والشرف، فتاقت أنفس الناس إلى الدنيا وقلّ من ليس للدنيا بصاحب وأكثرهم يجتوي الحق (يكره الحق) ويشتري الباطل ويؤثر الدنيا، فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين تمل إليك أعناق الرجال وتصفو نصيحتهم ويستخلص ودّهم صنع الله لك يا أمير المؤمنين وكبت أعداءك وفضّ جمعهم وأوهن كيدهم وشتت أمورهم {إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}([18]).
فقال علي×: > أما ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل فإن الله عزّ وجلّ يقول: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}([19]) وأنا من أن أكون مقصراً فيما ذكرت أخوف، وأما ما ذكرت من أن الحق ثقيل عليهم ففارقونا بذلك، فقد علم الله أنهم لم يفارقونا من جور ولا لجئوا إذ فارقونا إلى عدل، ولم يلتمسوا إلا دنيا زائلة عنهم كان قد فارقوها، وليُسألنَّ يوم القيامة: للدنيا أرادوا أم لله عملوا؟، وأما ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال، فإنه لا يسعنا أن نوفي أحداً أكثر من حقه وقد قال الله سبحانه وتعالى الحق: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}([20]) وقد بعث الله محمداً وحده وكثره بعد القلّة وأعزّ فئته بعد الذلّة وإن يرد الله أن يولّينا هذا الأمر يذلّل لنا صعبه ويسهّل لنا حزنه وأنا قابل من رأيك ما كان لله عزّ وجل رضىً وأنت من آمن الناس عندي وأنصحهم لي وأوثقهم في نفسي إن شاء الله<([21]).
في بيت المال
ودخل عليه الزبير وطلحة ذات ليلة وهو يعمل في بيت المال فاطفأ السراج وأمر أن يأتوا له بسراج من داره فسألاه عن ذلك فقال: >إن هذا السراج من بيت المال<([22]).
في حلّة قديمة
وعن هارون بن عنترة قال: حدثني أبي قال: دخلت على علي بن أبي طالب× بالخورنق (في الحيرة قريباً من الكوفة)وهو يرعد تحت سمل (الثوب الخلق البالي) قطيفة، فقلت: يا أمير المؤمنين أنّ الله تعالى قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال ما يعمّ وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟ فقال×: >والله ما أرزأكم من أموالكم شيئاً وإن هذه لقطيفتي التي خرجت بها من منزلي من المدينة ما عندي غيرها<.
ورأى عقيل بن عبدالرحمن الخولاني علياً× جالساً على برذعة (كساء يلقى على ظهر الدابة) مبتلّة فقال لأهله في ذلك فقالت: لا تلومني فوالله ما يرى شيئاً ينكره إلا أخذه وطرحه في بيت المال<([23]).
وفي مسند أحمد قال له أحد الخوارج (الجعدي بن نعجة): اتق الله يا علي أنّك ميت قال×: >بل والله قتلاً ضربة على هذا (وأشار إلى رأسه، قضاءً مقضياً وعهداً معهوداً {وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى} وكان كمه لا يجاوز أصابعه ويقول: >ليس للمكين على البدين فضل ونظر إلى فقير انخرق كُمّ ثوبه فخرق كم قميصه وألقاء إليه<([24]).
ومرّ على قذر بمزبلة فقال: >هذا ما بخل به الباخلون<.
وكان عنده أربعة دراهم فقط فتصدق بأحدها ليلاً وبالآخر نهاراً وبالثالث سرّاً وبالرابع علانية فنزل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}([25]).
وعن أبي هريرة أنّه جاء رجل إلى رسول الله× فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله’ إلى أزواجه فقلن: ما عندنا إلاّ الماء، فقال’: >من لهذا الرجل الليلة؟ فقال أمير المؤمنين×: أنا يا رسول الله، فأتى فاطمة وسألها: ما عندك يا بنت رسول الله؟ فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية لكنّا نؤثر ضيفنا به، فقال عليٌّ×: يا بنت محمد’ نوّمي الصبية واطفئ المصباح، وجعلا يمضغان بألسنتهما، فلمّا فرغ من الأكل أتت فاطمة بسراج فوجد الجفنة مملوءة من فضل الله، فلمّا أصبح صلّى مع النبي’، فلمّا سلّم النبي’ من صلاته نظر إلى أمير المؤمنين× وبكى بكاء شديداً وقال: يا أمير المؤمنين لقد عجب الربّ من فعلكم البارحة، أقرأ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ}([26]) (أي مجاعة) {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} يعني علياًَ وفاطمة والحسن والحسين^ {فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
في كتاب أبي بكر الشيرازي بإسناده عن مقاتل، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: {رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ([27])(إلى قوله) بغير حساب} قال: هو والله أمير المؤمنين، ثمّ قال بعد كلام: وذلك أن النبي’ أعطى علياً يوماً ثلاثمائة دينار أهديت إليه، قال علي: فأخذتها وقلت: والله لأتصدقنَّ الليلة من هذه الدنانير صدقة يقبلها الله منّي، فلمّا صلّيت العشاء الآخرة مع رسول الله’ أخذت مائة دينار وخرجت من المسجد، فاستقبلتني امرأة فأعطيتها الدنانير، فأصبح الناس بالغد يقولون: تصدّق عليّ الليلة بمائة دينار على امرأة فاجرة، فاغتممت غماً شديداً فلمّا صلّيت الليلة القابلة صلاة العتمة أخذت مائة دينار وخرجت من المسجد وقلت: >والله لأتصدقنّ الليلة بصدقة يتقبلها ربي مني، فلقيت رجلاً فتصدقت عليه بالدنانير فأصبح أهل المدينة يقولون: تصدق علي البارحة بمائة دينار على رجل سارق، فأغتممت غماً شديداً وقلت: والله لأتصدقنّ الليلة صدقة يتقبلها الله مني، فصليت العشاء الآخرة مع رسول الله’ ثم خرجت من المسجد ومعي مائة دينار، فلقيت رجلاً فأعطيته إياها فلما أصبحت قال أهل المدينة: تصدّق علي بالبارحة بمائة دينار على رجل غني، فاغتممت غماً شديداً فأتيت رسول الله’ فخبرته فقال لي: >يا علي هذا جبرائيل يقول لك: إن الله عزّ وجل قد قبل صدقاتك وزكّى عملك، إن المائة دينار التي تصدقت بها أول ليلة وقعت في يدي امرأة فاسدة، فرجعت إلى منزلها وتابت إلى الله عزّ وجل من الفساد وجعلت تلك الدنانير رأس مالها وهي في طلب بعل تتزوج به، وإن الصدقة الثانية وقعت في يدي سارق فرجع إلى منزله وتاب إلى الله من سرقته وجعل الدنانير رأس ماله يتّجر بها وأن الصدقة الثالثة وقعت في يدي رجل غني لم يزك ماله منذ سنين فرجع إلى منزله ووبّخ نفسه وقال: شحّاً عليك يا نفس، هذا علي بن أبي طالب تصدّق علي بمائة دينار ولا مال له وأنا فقد أوجب الله على مالي الزكاة لأعوام كثيرة لم أزكّه، فحسب ماله وزكاه وأخرج زكاة ماله فانزل الله فيك: {رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ}([28]).
روت الخاصّة والعامة عن الخدري وأبي هريرة أن علياً أصبح ساغباً، فسأل فاطمة طعاماً، فقالت: ما كانت إلاّ ما أطعمتك منذ يومين، آثرت به على نفسي وعلى الحسن والحسين، فقال: ألاّ أعلمتني فأتيتكم بشيء؟ فقالت: يا أبا الحسن إنّي لأستحيي من إلهي أن أكلّفك ما لا تقدر عليه، فخرج واستقرض عن النبي’ ديناراً، فخرج يشتري به شيئاً، فاستقبله المقداد قائلاً ما شاء الله، فناوله علي× الدينار، ثمّ دخل المسجد فوضع رأسه فنام، فخرج النبي’ فإذا هو به، فحرّكه وقال: ما صنعت؟ فأخبره، فقام وصلّى معه، فلمّا قضى النبي’ صلاته قال: يا أبا الحسن هل عندك شيء نفطر عليه فنميل معك؟ فأطرق لا يحير جواباً([29]) حياءً منه، وكان الله أوحى إليه أن يتعشّى تلك الليلة عند عليّ، فانطلقا حتى دخلا على فاطمة وهي في مصلاّها وخلفها جفنة تفور دخاناً، فأخرجت فاطمة الجفنة فوضعتها بين أيديهما، فسأل عليّ: أنّى لك هذا؟ قالت: هو من فضل الله ورزقه {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}([30]) قال: فوضع النبي’ كفّه المبارك بين كتفي علي ثمّ قال: يا عليّ هذا بدل دينارك، ثمّ استعبر النبي’ باكياً وقال: >الحمد الذي لم يمتني حتّى رأيت في أبنتي ما رأى زكريّا لمريم<([31]).
ذرى الإنسانية
وهذه مشاهد من مواقفه النبيلة في ثلاثة حروب داخلية هي الجمل وصفين والنهروان.
معركة الجمل
حاول الإمام علي× أن يفعل المستحيل لتجنب الحرب، فالإمام يدرك أن الحرب الداخلية هي جرح ونزف للدم، جرح لا يعرف الاندمال، فعندما وصلته الأنباء عن جيش يغادر مكّة باتجاه البصرة جنوبي العراق حتى أسرع في مغادرة المدينة ليوقف تداعيات هذا التحرك الخطير فأرسل إلى البصرة رسالة يوضح فيها ملابسات ما حصل في المدينة ويعظ قادة التمرد وينصحهم باتخاذ مواقف عقلانية.
كما وأرسل ابن عباس إلى الزبير بن العوام ونصحه بالتحدث مع الزبير وتجنب طلحة لأن طلحة قد ركب رأسه ولعله كان يتطلع إلى تحقيق طموحات شخصية فهو يتطلع إلى الخلافة في زمن عثمان، أما الزبير فهناك أمل في إقناعه بعدم التمرد وأوصاه أن يذكره بما قد نسيه ويقول له: >عرفتني في الحجاز وأنكرتني في العراق فما عدا مما بدا< وقد ذهبت كلمته مثلاً.
كما وأرسل رسالة موجهة إلى الزبير وطلحة حملها حمران الخزاعي وقد أورد فيها حقائق كانا قد شهداها وفي طليعتها الظروف التي تمت فيها البيعة بعد الثورة على الخليفة الثالث لقد كانت بيعته شعبية وكانت للناس عيداً بهيجاً أن أحداً لا يستطيع أن ينكر ذلك.
وها هو الآن يتهم بقتل الخليفة وطالما دافع عنه حتى أنه خشي أن يكون آثماً.
أنهم يطلبون دماً هم سفكوه وثأراً من الذي دافع عنه، ولكنها الأطماع والاحقاد، ولقد قال علي× أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.
ومن أجل هذا فقد أطلق آهةً حرى وهو يرى بعض أصحاب النبي يشهرون السلاح بوجهه ويحاولون قتله للاستيلاء على الخلافة التي هي حقه الشرعي والقانوني منذ وفاة النبي’ يقول×:
>والله ما زلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيه’ حتى يوم الناس هذا<([32]).
وعندما تقابل الجيشان طلب الإمام من ابن عباس أن يتحدث إلى الزبير وعائشة وطلحة ويدعوهم إلى الحق.
ثم خرج عمار بن ياسر فوقف بين الصفين ثم خاطب زعماء التمرد قائلاً: >والله ما أنصفتم رسول الله، مشيراً أنهم تركوا زوجاتهم وراء الستائر وجاءوا بزوجة رسول الله’ بين السيوف والسهام ثم خاطب عائشة وسألها عن سبب حضورها فقالت: جئت أطلب بدم عثمان.
فقال عمار: >قتل الله الظالم وأهلك الطاغي في هذا اليوم ثم وجه خطابه إلى أهل البصرة ودعاهم إلى التفكير لمعرفة الذين اشتركوا حقيقة في قتله.
وفي هذه اللحظات انهالت مئات السهام عليه وعلى جيش الإمام وراحت السهام تتساقط على جيش علي وعلي ما زال على موقفه في عدم الرد فلعل هناك فرصة سلام وحلّ الأزمة بالطرق السلمية ونظر الإمام إلى جنوده وقال: من يأخذ هذا المصحف ويدعو هؤلاء إليه وهو مقتول وأنا ضامن له الجنة؟.
فنهض فتى اسمه مسلم وقال: أنا يا أمير المؤمنين، وأخذ الفتى المصحف وتقدم نحو معسكر التمرد ودعا الناس إلى القرآن وكان جواب الناكثين السهام والرماح فهوى الشاب على الأرض شهيداً.
فأمر الإمام جنوده الاستعداد وعدم البدء بالقتال وانطلق وابل السهام مرّة أخرى فجاء ابن بديل وقد رأى مقتل أخيه الشاب فقال للإمام: يا أمير المؤمنين إلى متى نصبر.
ثم جاءوا للإمام بشهيد آخر لكنه قال: اللهم اشهد وفي مثل هذه الظروف خرج الإمام إلى ما بين الصفين أعزل من السلاح ودعا الزبير فجاء الزبير وهو شاك في السلاح وعندما سمعت عائشة بذلك قالت يا ويل زوجة الزبير وهي أختها ترملت والله فقيل لها أن علياً خرج دون سلاح فهدأت.
وتساءل علي× وهو ينظر في عينيه عما دفعه لإعلان الحرب عليه فقال الزبير: طلباً بدم عثمان فشعر الإمام بالأسى لأن الزبير يعرف جيداً الذين قتلوا عثمان والذين شاركوا في الثورة عليه.
وذكره الإمام بحوادث مرّ عليها أكثر من ثلاثين سنة: كان الزبير حينها ينظر إلى الإمام بحب فقال له النبي: أتحبه قال الزبير: ولم لا أُحبه فقال النبي’: ستخرج عليه وأنت له ظالم.
وتذكر الزبير ما قد نسيه فقال: استغفر الله لقد نسيت ذلك ولو ذكرته ما خرجت عليك فقال الإمام فارجع إذن! قال الزبير: سيقولون أني جبنت وفي هذا العار.
فقال الإمام وهو يحاول تحطيم هذه الروح الجاهلية: أرجع يا زبير ولا تجمع العار والنار.
ويقرر الزبير العودة ولكن ابنه المشؤوم يحول دون ذلك ويتهم أباه بالجبن، فما كان من الزبير إلاّ أن يشن هجوماً على الجناح الأيمن لجيش الإمام فأوعز الإمام بعدم اعتراضه ثم شن هجوماً عن الجناح الأيسر فانشقت له الصفوف.
حينئذ عاد إلى أبنه ليقول له أن الجبناء لا يفعلون ذلك ثم غادر أرض المعركة.
لقد منحه الإمام فرصة ليدفع عنه وصمة الجبن والتخاذل ويسجل له موقفاً في التراجع عن قناعة بعدالة قضية الإمام×.
وأرسل الإمام وراء طلحة وخاطبه قائلاً: ألم تسمع رسول الله’ يقول: >اللهم أحب من أحب علياً وأبغض من أبغض علياً؟ ألم تكن أول من بايعني فلم نكثت؟ وقد قال الله عز وجل: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ}([33]).
ويشعر طلحة بالندم وقال: >استغفر الله وأراد الرجوع وحينئذ تدخل مروان وانتهز الفرصة ليسدد له سهماً قاتلاً فهوى صريعاً قبل أن يقوم بأية خطوة لإقناع أهل البصرة بعدم خوض الحرب.
ولمّا بدت المعركة وشيكة أصدر الإمام تعليماته الإنسانية بعدم قتل الجرحى والأسرى وألاّ يطاردوا الذين يفرون من أرض المعركة وألا يمثلوا بالقتلى.
وعندما بدأت الحرب سلم الإمام الراية إلى ولده محمد بن الحنفية وقال له: تزول الجبال ولا تزل عض على ناجذك (عض على أضراسك) أعر الله جمجمتك تد (ثبّت) في الأرض قدمك ارم ببصرك أقصى القوم وغض بصرك واعلم أن النصر من عند الله< ([34]).
وفي صفين
وفي صفين اقترح بعضهم على الإمام علي× أن يحتل مصادر المياه (الشريعة) على نهر الفرات فرفض ذلك لأن ذلك يعدّ نوعاً من إعلان الحرب بينما هناك فرصة لحل الصراع بالطرق السلمية.
لكن معاوية اعتبر ذلك فرصة، لكسب الحرب فحرك قواته واحتل الشريعة مهدداً جيش الإمام بالموت عطشاً أو الاستسلام وقد ذكَّر الإمام خصمه بخطورة ما يفعله فتمادى معاوية ومنح صوت العقل أذناً صماء.
حينئذ ألقى الإمام خطبة في إحدى الفرق العسكرية جاء فيها: >الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين< واكتسحت قوات الإمام الشريعة وحررتها من براثن المحتل فأراد جنود الإمام المرابطة في الشريعة ومنع الماء عن جيش الشام ولكن الإمام أعطى أوامره الحاسمة بالتزود من المياه ومغادرة الشريعة لتكون للجميع وكان الإمام ما انفك يؤجل العمليات العسكرية فلعل الأزمة تحل دون إراقة الدماء.
وفي النهروان
وقد نجم عن جرح صفين ظهور تيار الخوارج المعروف بعنفه وسطحية التفكير لدى أولئك الذين كانوا ذات يوم جزءً من جيش الإمام ولكن غباءهم الشديد وتفاهة تفكيرهم دفعهم إلى اتخاذ مواقف خاطئة وخطيرة كان في طليعتها إجبار الإمام بإيقاف العمليات العسكرية بينما جنود الإمام على بعد خطوات فقط من حسم المعركة لقد انخدعوا بألاعيب عمرو بن العاص في رفعه المصاحف على الرماح ولم يلتفتوا إلى نصائح الإمام× في ضرورة حسم الأمر وإلى الأبد.
ثم أجبروا الإمام على انتخاب شخص غبي لينوبه في المفاوضات فيما عرف بمهزلة التحكيم وبعد ظهور النتائج وانكشاف الخديعة عادوا ليجبروا الإمام مرّة أخرى على استئناف الحرب، بالرغم من ذلك الاتفاق على الهدنة لمدّة عام.
فنصحهم الإمام بالتريث والانتظار لحين انتهاء المدّة المحدّدة في اتفاق الهدنة. فلم يصغوا لصوت العقل والمنطق وتركهم الإمام فهم أحرار في عقيدتهم لكنهم بدأوا يشكلون خطراً على أمن المجتمع فأعلنوا تكفيرهم لكل من لا يؤمن بما يؤمنون بهم وأطلقوا صيحتهم (لا حكم إلا لله) وتمادوا في غطرستهم وأقدموا على ارتكاب جرائم يندى لها الجبين في طليعتها قتل الصحابي خباب بن الحارث وبقر زوجته الحامل، حينئذ لم يجد الإمام بداً من مواجهتهم فكانت معركة النهروان والتي لم يفلت منها سوى نفر يعدون بالأصابع وعندما قيل للإمام أنهم قد انتهوا من صفحة الوجود قال كلا والله أنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء.
وتحققت نبوءة الإمام فقد استمروا في التاريخ كما وتنبأ الإمام بمصيرهم حيث سيكون آخرهم لصوصاً وسلابين وأيد التاريخ نبوءة الإمام× أيضاً([35]).