عربي
Friday 8th of November 2024
0
نفر 0

كيف تعامل أهل البيت (عليهم السلام) مع الناس

إن اقتحام العقول والنفوس بغية التأثير في الناس ، أصعب بكثير من اقتحام المواقع والثغور، وذلك لأن الناس يختلفون اختلافاً بيناً في طريقة التفكير، وفي مركب المزاج وفي مستوى الثقافة وفي القدرات الجسدية والطبيعة النفسية…الخ. ونتيجة لكل ذلك، تصبح عملية التعامل معهم والتأثير فيهم عملية صعبة وشاقة، وتحتاج إلى قدرات ومتطلبات من نمط خاص، لا تتوفر إلا عند الخواص من أهل الصبر والعلم بمواقع الأمر. وأهل البيت (عليهم السلام) في مقدمة هذا الطراز الرفيع من القادة، الذي تمكنوا من اجتذاب الناس وامتلكوا أزمة قلوبهم، ومفاتيح عقولهم.0

وفي هذا البحث سنورد أهم الخصال والخصائص التي يتحلى بها أهل البيت (عليهم السلام) والتي تمكنوا من خلالها كسب قلوب الناس، والولوج إلى نفوسهم مع اختلاف مشاربهم وتباين طباعهم ومستوياتهم.

 

القدوة الحسنة

الناس عادة لا تتأثر بلسان المقال، بقدر ما تتأثر بلسان الحال، فمن يدعو الناس إلى الجهاد وهو قابع في بيته، لن يتجاوبوا مع دعوته، والذي يحث الناس على البذل والتضحية والعطاء وهو شحيح لن يلقى آذاناً صاغية منهم ويكون موضعاً لتندرهم… وما إلى ذلك.

إن قائداً كهذا قد يتمكن من خداع الناس من حوله. من هنا ندرك أبعاد نصيحة الإمام عليّ (عليه السلام) لولاة الأمر عندما قال (عليه السلام): (من نصب نفسه للناس إماماً، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه..)(1).

وهناك شواهد كثيرة تشهد لأهل البيت بالسيرة الحسنة من كلم طيب وفعال حميدة وخصال فريدة…

جاء في كتاب الكافي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: (إن أمير المؤمنين صاحب رجلاً ذمياً… فقال له الذمي أين تريد يا عبد الله ؟ قال: أريد الكوفة فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له الذمي: ألست زعمت أنك تريد الكوفة؟ فقال له (عليه السلام) : بلى، فقال له الذمي فقد تركت الطريق فقال له: قد علمت. قال: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك. فقال له أمير المؤمنين: هذا من تمام حسن الصحبة، أن يشيع الرجل صاحبه هنيهة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبينا (صلى الله عليه وآله) فقال له الذمي هكذا…قال: نعم قال: إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، فأنا أشهدك إني على دينك. ورجع الذمي مع أمير المؤمنين (عليه السلام) فلما عرفه أسلم) (2).

وقد توحدت مواقف الأئمة في المضمون وإن اختلفت في الشكل، فقد كانوا قدوة حسنة تتأثر الناس بأفعالهم، ولم يك ذلك منهم تصنعاً وإنما طبعاً متأصلاً يطبع سلوكهم سواء في ظروف الرخاء واليسر أو في ظروف الشدة والعسر، من الإمام الأول إلى الإمام الحادي عشر إذا ما استثنينا زمان الغيبة… يدخل أحد القادة العباسيين على صالح بن وصيف عندما أمر بحبس الإمام العسكري (عليه السلام) فقال له: ضيق عليه ولا توسّع فقال له صالح: ما أصنع به؟ وقد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم(3). وبدورنا نتساءل: ما الذي جعل الذمي يترك دينه ويصبح مسلماً؟ وما الذي جعل السجان يتأثر بسجينه ويصبح عابداً؟

إنها القدوة الحسنة.. أليس كذلك؟

موقفان رائعان من جملة المواقف الخالدة، اتصلت حلقات الزمن ببعضها، وسوف تتناقلها الأجيال وتقتدي بها ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم.

 

الصبر، العلم، الرّفق

كسب الناس يحتاج إلى الصبر عليهم، والحلم والرفق بهم. والناس عموماً يمقتون من يتعامل معهم بالقسوة والغلظة، وصدق الله تعالى عندما قال لرسوله (صلى الله عليه وآله): (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)[آل عمران: الآية159].

وقد وعى أهل البيت (عليهم السلام) وهم تلاميذ القرآن تعاليمه بعمق وجسدوها قيماً عالية وسلوكاً سوياً في تعاملهم بصورة خاصة مع أعدائهم فضلاً عن أتباعهم والمحيطين بهم. وما أكثر ما تحمل أهل البيت (عليهم السلام) من خصومهم الذين صبوا عليهم جام غضبهم بمختلف الأشكال والصور من تهم رخيصة وأساليب تشنيع دنيئة إلى وسائل قتل شنيعة…وما إلى ذلك من ضروب الجور والظلم والتعسف، حتى إن أعدائهم قد انحدروا أحياناً في سلوكهم معهم إلى درجات الدهماء والغوغاء. ومع كل ذلك كان أهل البيت يشقون أمواج الفتن بسفن الصبر على ما يصيبهم، ويحلمون عن سفهاء قومهم وفوق ذلك يرفقون بهم ويحسنون إليهم ويغضون الطرف عن أخطائهم وسوف نستعرض شواهد عديدة إلى ما أشرنا إليه. ونبدأ من أبي الأئمة الإمام علي (عليه السلام) الذي كان أحلم الناس.. (وكفانا لإثبات بلوغه أعلى درجات الحلم عن أهل (الجمل) عموماً وعن مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير خصوصاً فقد ظفر بمروان يوم الجمل وكان أعدى الناس له فصفح عنه وكان عبد الله بن الزبير من أعدى الناس له وكان يشتمه على رؤوس الإشهاد فأخذه يوم الجمل أسيراً فصفح عنه وقال: اذهب فلا أرينك لم يزده على ذلك، وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة وكان له عدواً فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً ولم يعاقب أحداً من أهل الجمل وأهل البصرة، ونادى مناديه ألا يتبع موّلٍ ولا يجهز على جريح ولا يقتل مستأسر ومن ألقى سلاحه فهو آمن.. ولما ملك عليه أهل الشام الشريعة ومنعوه وأصحابه من الماء ثم ملكها عليهم قال له أصحابه أمنعهم كما منعونا فقال: لا والله لا أكافيهم بمثل فعلهم. وكان يوصي جيوشه أن لا يتبعوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح)(4).

وعن يزيد بن بلال قال: شهدت مع عليّ صفين فكان إذا أتي بالأسير قال: لن أقتلك صبراً، إني أخاف الله رب العالمين، وكان يأخذ سلاحه ويحلفه لا يقاتله ويعطيه أربعة دراهم(5). وقد سار أبناؤه الهداة المهديين على نهجه القويم، ينطلقون في تعاملهم مع الأعداء من موقع الحب لهم والرحمة بهم، وكانوا يستنقذونهم من السلوكيات السيئة ويقشعون من أذهانهم الأفكار العدائية المسبقة التي زرعتها أبواق الدعاية المأجورة لحكام الجور. ينقل حسن المصطفوي مؤلف كتاب الإمام المجتبى عن الكامل للمبردج1ص235: (أن رجلاً من أهل الشام قال: دخلت المدينة فرأيت رجلاً راكباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً ولا دابة منه، فمال قلبي إليه فسألت عنه فقيل لي: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فامتلاء قلبي له بغضاً وحسدت علياً أن يكون له أبن مثله، فصرت إليه فقلت له أنت أبن أبي طالب؟ فقال أنا أبنه.

فقلت فيك وبأبيك أسبهما! فلما انقضى كلامي، قال لي أحسبك غريبا!ً قلت أجل. قال: فمل بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك وإلى مال آسيناك أو إلى حاجة عاوناك! قال فانصرفت عنه، و والله ما على الأرض أحد أحب إلي منه).

من الشواهد أعلاه نخرج بانطباع مؤداه أن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا لا يكتفون بالصبر والحلم عمن يسيء إليهم بل يرتقون إلى قمة الإحسان إلى الآخرين، ولهذا فقد فتحت قلوب الناس نحوهم وأكسبتهم المدح والثناء الجميل وهو أمر صرح به أكثر من عدو لهم فعلى سبيل المثال: كان هشام بن إسماعيل أمير المدينة الأموي يؤذي الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) كثيراً فلما عزل من منصبه أمر الوليد أن يوقف أمام الناس للقصاص. فقال هشام ما أخاف إلا من علي بن الحسين.

فمر به الإمام السجاد (عليه السلام) وألقى عليه التحية والسلام وطلب من خاصته وأصحابه أن لا يتعرضوا له بسوء حتى ولو بكلمة جارحة… فلما انصرف الإمام ناداه هشام بقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).

نفس هذا الموقف المشرف وقفه الإمام الرضا (عليه السلام) الثامن من أئمة أهل البيت إذ بلغ القمة في الحلم عندما تشفع إلى المأمون في (الجلودي) وهو الذي ذهب إلى المدينة بأمر الرشيد ليسلب نساء آل أبي طالب ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً. وبقي يناصب أهل البيت العداء المقيت ولما تمت بيعة الرضا (عليه السلام) لولاية العهد، احتج عليها ونقم فحبسه المأمون، ثم دعا به من الحبس ليقتله، فقال الرضا (عليه السلام) للمأمون العباسي: (هبلي هذا الشيخ)…فظن الجلودي أن الإمام يعين عليه ويضمر له الشر، فاقسم على المأمون، أن لا يقبل قول الرضا فيه، فقال له المأمون: والله لا أقبل قوله فيك وأمر بضرب عنقه، ولولا سوء ظنه، لتمكن الإمام (عليه السلام) من إطلاق سراحه، والإبقاء على حياته.

وهناك شواهد كثيرة لتعاملهم مع الناس العاديين الذين لا يضمرون لهم العداء ولكن يسيئون التصرف معهم منها: أن الحسين (عليه السلام) قد جنى غلام له جناية توجب العقاب، فأمر بضربه فقال: يا مولاي الكاظمين الغيظ قال (عليه السلام) خلوا عنه، فقال يا مولاي والعافين عن الناس، قال (عليه السلام): قد عفوت عنك، قال يا مولاي والله يحب المحسنين، قال (عليه السلام) أنت حر لوجه الله ولك ضعف ما كنت أعطيك.

وهناك موقف لولده السجاد (عليه السلام) الذي يقول كما يروي الشيخ في الآمالي ما تجرعت جرعة أحب إلي من جرعة غيظ أعقبها صبراً، وما أحب أن لي بذلك حمر النعم.

ينتهي (عليه السلام) ذات يوم إلى قوم يغتابونه، فوقف عليهم فقال: إن كنتم صادقين فغفر الله لي، وإن كنتم كاذبين فغفر الله لكم. وذات الإساءة مع اختلاف التفاصيل، يتعرض لها ولده الباقر (عليه السلام) فعن المناقب لابن شهر آشوب قال له رجل من أهل الكتاب أنت بقر، قال (عليه السلام): لا..أنا باقر، قال الرجل: أنت ابن الطحانة. قال (عليه السلام) ذاك حرفتها. قال الرجل: أنت ابن السوداء الزنجية البذيئة. قال (عليه السلام): إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك.

بهذه الروحية العالية والأخلاق الرفيعة، يتعامل أهل البيت (عليهم السلام) مع أعدائهم ومن أساء التصرف معهم.. كانوا يتمسكون دائماً بثالوث: الصبر والحلم والرفق.

 

التواضع وخفض الجناح

وهما من أهم وأبرز الصفات التي تجعل القائد محبوباً في أوساط مجتمعه وقومه وتجعلانه يؤثر فيهم ويستهوي قلوبهم. فالكبر يشكل حجاباً حاجزاً بين القائد والناس الذين يقودهم، والقائد الذي يركبه الكبر يصبح معزولاً عن الجماهير وبعيداً عمن حوله.

كان التواضع وخفض الجناح طبعين ملازمين لائمة أهل البيت (عليهم السلام) فلم يدخل في قلوبهم مثقال ذرة من الكبر، وذلك يظهر لمن اطلع على سيرتهم ومن تابع سيرتهم سينكشف له هذا الأمر في عدة صور أبرزها: مخالطتهم للفقراء وللعوام، ولا نستشهد هنا بمواقف الإمام علي (عليه السلام) لأنه يعتبر في هذا الصدد المصداق الجلي، فقد كان(اشد الناس تواضعاً، لصغير وكبير، وألينهم عريكة، وأبعدهم عن كبر في زمان خلافته وقبلها لم تغير الآمرة وإلا أحالت خلقه الرياسة).

كما يقول المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين. وعليه فنكتفي بإيراد بعض الشواهد من حياة بقية أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حتى ابن شهر آشوب في المناقب: أن الحسن (عليه السلام) مر على فقراء وقد وضعوا كسيرات من الخبز على الأرض وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها فقالوا له: هلم يا ابن بنت رسول الله إلى الغداء. فنزل وقال: فإن الله لا يحب المتكبرين، وجعل يأكل معهم ثم دعاهم إلى ضيافته وأطعمهم وأكساهم . وفي موقف آخر مر علي بن الحسين (عليهما السلام) بمجذومين فسلم عليهم وهم يأكلون فمضى ثم قال: إن الله لا يحب المتكبرين، فرجع إليهم فقال: إني صائم وقال ائتوني بهم في المنزل، فأتوه بهم فأطعمهم ثم أعطاهم. وفي موقف ثالث: عن تحف العقول، روى أن الإمام الكاظم (عليه السلام) مر برجل من أهل السواد دميم المنظر، فسلم ونزل عنده، وحادثه طويلاً ثم عرض عليه نفسه في القيام بحاجته إن عرضت، فقيل له يا ابن رسول الله أتنزل إلى هذا ثم تسأله عن حوائجه، وهو إليك أحوج؟ فقال: عبد من عبيد الله، وأخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم وأفضل الأديان الإسلام.

من هذه الصور نستكشف يقيناً بأن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يعيشون مع كل الناس ويستقبلون ويجالسون كل الناس وخاصة الفقراء منهم وذوي النقائص والمعائب الخلقية بغية إشعارهم بقيمتهم، ورفع الحيف عنهم، ولم تحل مقاماتهم السامية الدينية والنسبية عن النزول إلى مستوى السّوقة وعامة الناس بغية هدايتهم وتحسيسهم بمكانتهم الاجتماعية.

خدمة الآخرين وقضاء حوائجهم

في مفهوم أهل البيت (عليهم السلام) (إن رأس الإيمان هو الإحسان إلى الناس).

وعندهم أن حق الناس مقدم على حق الله، يقول الإمام علي (عليه السلام): (جعل الله سبحانه حقوق عباده مقدمة على حقوقه، فمن قام بحقوق عباد الله، كان ذلك مؤدياً إلى القيام بحقوق الله)، فهم إذن يعطون الأولوية لقضاء حوائج الناس، لما في العمل الصالح من آثار اجتماعية كبيرة إضافة إلى ثماره الدينية الجزيلة، وعند صادق أهل البيت (عليهم السلام): (أن الماشي في حاجة أخيه… كالساعي بين الصفا والمروة)…

وقال في حديث آخر: (لأن أسعى مع أخي لي في حاجة حتى تقضى أحب إلي من أن أعتق ألف نسمة، وأحمل على ألف فارس في سبيل الله مسرجة ملجمة)… ويقول في حديث آخر عميق الدلالة ويفيض بالمعاني السامية: (إني لأسارع إلى حاجة عدوي خوفاً أن أرده فيستغني عني) ولم يكتف أهل البيت (عليهم السلام) بنشر المفاهيم وإطلاق الأقوال، بل قرنوها بالوقائع والأفعال فعلى سبيل الاستشهاد نجد أن أمير المؤمنين (عليه السلام): أعتق ألف مملوك من كد يده(6).

كل ذلك من أجل إنقاذ الناس من شراك الرّق وأغلال العبودية إلى فضاء الحرية. وبلغ من حبه لقضاء حوائج الناس أنه تصدق بخاتمه وهو في أثناء الصلاة! فنزل فيه قرأنا يتلى أناء الليل وأطراف النهار: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)… تثميناً لهذا الموقف النبيل الذي يهتف بضرورة قضاء حوائج الناس في كافة الحالات حتى في الصلاة. ويضرب ابنه الحسن (عليه السلام) المثل الأعلى في الكرم والسخاء حتى أنه قد خرج من ماله مرتين، وقاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات(7). وعنده إن المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأما من أعطيته بعد مسألة فإنما أعطيته بما بذل لك من وجهه.

أما الحسين بن علي (عليهما السلام)، فيسجل له التاريخ مواقف مشرقة في العطاء والكرم والسخاء. وكان يؤكد على ضرورة صون الوجه عن بذل المسألة، وعليه كان يطلب من ذوي الحاجات أن يكتبوا حاجاتهم في ورقة، حرصاً منه على قضائها لهم بأسلوب مهذب، يحفظ كرامتهم. أما ولده الإمام السجاد (عليه السلام) فقد واصل مسيرة العطاء وكان إذا أتاه السائل يقول: مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة!.

يروي الصدوق في الخصال أنه كان يخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب ، حتى يأتي باباً فيقرعه ثم يناول من يخرج إليه، وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه، فلما توفى فقدوا ذلك فعلموا أنه كان علي بن الحسين.

وقد سار بقية الأئمة (عليهم السلام) على هذا النهج ينقل مؤلف (عمدة الطالب) أن الإمام الكاظم (عليه السلام) كان عظيم الفضل، واسع العطاء، وكان يضرب المثل بصرار موسى!… حتى أن أهله يقولون: عجباً لمن جاءته صرة موسى فشكى القلة وكان يتفقد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم (الزبيل) فيه العين والورق والأدقة والتمور، فيوصل إليهم ولا يعلمون من أي جهة هو. وينقل المؤرخون وأصحاب المناقب عنه أتباعه لأسلوب عجيب في التعامل مع من يسيئون إليه، وكان إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرة دنانير!!. أما عطاء ولده الرضا (عليه السلام) فحدث ولا حرج، ويكفي أنه قد فرق بخراسان ماله كله في يوم عرفه، فقال له الفضل بن سهل: إن هذا لمغرم، فقال: بل هو مغنم، لا تعدن مغرماً ما ابتعت به أجراً وكرماً. وينقل أنه مر رجل بأبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال له أعطني على قدر مروءتك قال: لا يسعني ذلك، فقال الرجل: على قدر مروءتي قال: أما هذا فنعم. هكذا كان أهل البيت (عليهم السلام) قمم سامقة في العطاء وقضاء حوائج الناس، كانت أبوابهم مفتحة للسائلين، يتوافد على موائدهم المحرومين يغرف من بحر جودهم البائس والفقير. وهم مع ذلك لا يسألون الناس إلحافاً ولا تحل عليهم الصدقة، ولا يعتدون على حقوق الآخرين ولو بمقدار نملة يسلبونه جلب شعيرة كما يقول الإمام علي (عليه السلام): وكان من جراء ذلك أن التف حولهم أبناء الأمة، فغدت تدين لهم بالولاء والطاعة وتفديهم بالنفس وتضع بين أيديهم مقاليد الأمور.

 

سلاطين القلوب

إذا كان سلطان الحكام على الأبدان، فإن سلطان أهل البيت (عليهما السلام) ما زال ولم يزل على القلوب والنفوس، ولا عجب فإن من أحسن إلى الناس استدام منهم المحبة، وفي الإحسان تملك القلوب، ومن حلم ساد، وبالحلم تكثر الأنصار كما تقر بذلك الروايات والأخبار. فمن خلال خصالهم الجميلة الأنفة الذكر أصبح لأهل البيت (عليهم السلام) قوة جماهيرية كان أعداؤهم يحسبون لها ألف حساب ويحاولون بشتى السبل والحيل فك الارتباط الروحي بين الأئمة والأمة ولكنهم فشلوا وخابت ظنونهم، وعلى العكس من ذلك فقد ازداد التفاف الناس حولهم وزاد تعظيمهم لهم سواء في حياتهم أم بعد موتهم. وينقل لنا التاريخ عدة مواقف كانت بمثابة استفتاء شعبي على حقانية أهل البيت (عليهم السلام) وأحقيتهم بالأمر…(فهذا هشام يحج في خلافة أخيه عبد الملك وبيده القوة السلطان وحوله وجوه أهل الشام، فيروم استلام الحجر الأسود فلا يقدر ولا يعبأ الناس به، وبملكه وسلطانه. وعلي بن الحسين الذي ليس له سلطان غير سلطان الدين والتقوى والعلم وليس معه خدم ولا حشم، يتقدم إلى استلام الحجر، فينظر الناس إليه بعين الإجلال والإعظام وينحنون له عن الحجر حتى يستلمه)(8).

وهذا لشاهد آخر ينقله لنا صاحب المناقب ابن شهر آشوب عن أبي حمزة الثمالي (لما كانت السنة التي حج فيها أبو جعفر بن علي(عليهما السلام) ولقيه هشام بن عبد الملك أقبل الناس ينثالون عليه. فقال عكرمة من هذا؟ عليه سيماء زهرة العلم لأجربنه فلما مثل بين يديه ارتعدت فرائصه، واسقط ما في يده وقال: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره فما أدركني ما أدركني آنفاً. فقال له أبو جعفر (عليه السلام): ويلك يا عبيد أهل الشام إنك بين يدي بيوت أذن الله له أن ترفع، ويذكر فيها اسمه).

وينقل لنا التاريخ شاهد آخر عن الإمام الرضا (عليه السلام): أنه لما خرج للصلاة في مرو ورآه القواد والعسكر رموا بنفوسهم عن دوابهم، ونزعوا خفافهم وقطعوها بالسكاكين طلباً للسرعة!… لما رأوه (عليه السلام) راجلاً حافياً. وإنه لما هجم الجند على دار المأمون بسرخس بعد قتل الفضل بن سهل وجاءوا بنار ليحرقوا الباب، وطلب منهم المأمون أن يخرج إليهم، فلما خرج وأشار إليهم أن يتفرقوا تفرقوا مسرعين وهذه بعض الشواهد وغيرها في التاريخ كثير، تبين مدى تعلق أبناء الأمة بالأئمة (عليهم السلام) بصفتهم منارات هدى تحدد لهم معالم دينهم، وأقطاب رحى تحرك عجلة مجتمعهم نحو الخير والصلاح.

الهوامش

1 - بحار الأنوار ج2ص56 نهج.

2 - الكافي للكليني ج2ص670

3 - بحار الأنوار ج5ص308

4 - في رحاب أئمة أهل البيت السيد محسن الأمين ج1ص26.

5 - كنز العمال خ31703.

6 - التهذيب للشيخ الطوسي ج2ص 326.

7 - في رحاب أهل البيت ج3ص10

8 - المصدر السابق ج3ص206.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

فضائل الإمام الصادق ( عليه السلام )
الإمام الصادق (ع)
وصية السيدة خديجة بالزهراء{عليهاالسلام}
امامة الحسن العسکري عليه السلام
زينب (عليها السلام) شريكة آلام الحسين (عليه ...
هل هناك عهد بيننا وبين الحسين (عليه السّلام) عبر ...
ابوذر في جبل عامل
ابو ذر فـي الـرّبـذَة
الرسول يسب ويلعن في صحيح أهل السنة
ملامح عصر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)

 
user comment