بسم الله الرحمن الرحيم
محدودية نطاق الرسالة والنبوة:
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾(الأحزاب/40)، إكمالاً للحديث السابق عن المبرر الأول من مبررات التجديد في النبوات نقول إنه قد يبعث الله النبي لمدينة محدودة ولمجتمع معين وحينئذ تكون نشاطاته ودعوته وإرشاداته منحصرة في تلك المدينة وفي ذلك المكان فلا تتسع دعوته الرسالية لأوسع من ذلك المكان المحدود..
ومن هنا تحتاج المدن الأخرى والمجتمعات الأخرى إلى نشاطات وحركات رسالة إلهية مماثلة أو مختلفة، بحسب ما تقتضيه طبيعة ذلك المجتمع وبحسب ما يحتاجه ذلك المجتمع، فيكون حينئذ منشأ ومبرر التجدد في النبوات هو محدودية نطاق الرسالة والنبوة، وهذا المبرر تجدونه واضحاً من خلال ما نقرأه في القرآن الكريم الذي أشار إلى وجود أنبياء قد بعثوا لمجتمعات معينة أو لمدن مخصوصة، مثلاً قوله:
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾(الأعراف/85)، هذه الآية المباركة تعبِّر عن أن شعيبًا إنَّما بُعث إلى مدينة مدين وحسب وحينئذ ما حال المدن الأخرى، هل تترك سدى؟ هل تهمل من قبل العناية الإلهية؟ بالطبع لا، وهذا ما يقتضي أن يُبعث أنبياء آخرون في المدن الأخرى والمجتمعات الآخرة وهكذا قوله تعالى:
﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾(هود/61)، وكذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾(الأعراف/65) فهذا المجتمع وهذه القبلية كان قد بُعث إليها دون غيرها نبي الله هود (ع)، وفي أية أخرى:
﴿ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾(الإسراء/60)، مبصرة يعني معجزة تجعل الإنسان يبصر الحقيقة، بواسطة ما يراه من إعجاز يتمثل في تلك الناقة التي خرجت دون أن يكون لها أم ولا أب وما هو عليه حال تلك الناقة من صفات متميزة تجعلها معجزة تورث البصيرة، وهي إنما تورث البصيرة لمن عاصر وشاهد وليس سوى قوم ثمود، إذن هذه النبوة خاصة لمجتمع من المجتمعات ولم تكن لعموم الناس.
نبوات تموت في مهدها:
على أنه قد تموت النبوة في مهدها وذلك لأن من بُعث لهم هذا النبي قد جنوا على أنفسهم فقتلوه قبل أن يستكمل دعوته أو يتمكن من بيان الهدى الذي بُعث من أجله، فكم قتل من الأنبياء وهم في بداية دعوتهم، بنو إسرائيل قتلوا من الأنبياء مئات حتى ورد أنهم قتلوا سبعين نبياً ثم جلسوا في أسواقهم يبيعون ويشترون، وأمم وقبائل ومجتمعات كثيرة قد أوقعوا بأنبيائهم أشد العذاب والتنكيل وقتلوهم شر قتلة، فمنهم من نُشر بالمناشير ومنهم من أُودعوا في الآبار وطمَّت عليهم تلك الآبار، ومنهم من أُحرقوا بالنار حتى الموت والدعوة بعدُ لم تُستكمل والأمة بعدُ لم تبلغ حدَّ الرشد الذي أراده الله من خلال بعثه تلك النبوات، حينئذ يكون من المعقول جداً أن تتجدد النبوات، وهكذا كانت تتجدد نبوة بعد نبوة نتيجة أن الأمة التي بُعث لها ذلك النبي لم تراعِ ذلك النبي فرجموه أو قتلوه أو أحرقوه أو نشروه بالمناشير، هذا مبرر لتجدد النبوات.
مجتمعات وأمم تفنى دون النبوات:
وقد يكون منشأ تجدد النبوة أن الأمة هي التي تفنى وليس النبي، تارة يكون النبي هو الذي يقتل وتارة يكون الأمر على عكس الأول، فالأمة هي التي تنتهي، يدعو عليها ذلك النبي فتُباد عن بكرة أبيها، ولا يبقى منها من أحد، كقوم لوط لم ينجُ منهم إلا أهله، وحتى امرأته لم تنجُ من الهلاك، حينئذ يكون من المعقول أن تبعث نبوة أخرى، في مجتمع آخر لأن الأمة التي يراد لها أن تحمل أهداف وأغراض ذلك النبي قد أُبيدت نتيجة طغيانها، فقوم هود لم يبقَ منهم من أحد وقوم صالح بعد أن عقروا الناقة: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾(الشمس/14) أَنْهَاهُم عن بكرة أبيهم، وهكذا قوم لوط قال تعالى عنهم: ﴿فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾(هود/82)، فلم يبقَ منهم من أحد وهكذا أقوام لأنبياء وأنبياء كثر، حينئذ يكون من المعقول جداً أن تتجدد النبوات.
وصورة أخرى من صور مبررات تجدد النبوة وهي أن يبقى النبي في قومه سنينًا طويلة إلا أنَّهم يظلُّون غير مستوعبين لأهداف رسالة ذلك النبي فلا يجد منهم سوى المكابرة والعناد حتَّى يموت بغُصَّتِهِ وبغيظِهِ أو يرحَلَ عن تلك الأمة، والأمة لازالت لم تقبل بتلك الرسالة، فنبيُّ الله شعيب يهددهُ قومُهُ فيقولون له: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾(الأعراف/88) فيُهاجر عنهم ويتركهم، فهؤلاء لا يبقون إلى الأبد دون نبي ولا تفوتهم العناية الإلهية ويحتاجون بعد زمن إلى نبوة أخرى تنبعث في أمتهم، لعلهم يثوبون إلى رشدهم.
كل ذلك يشكل مبرراً لتجدد النبوات:
فالأمة حينما لا تستوعب أهداف الرسالة أو لا يستكمل النبي معهم رسالته أو يكون النبي قد جاء لمجتمع مخصوص ومحدود وذلك ما يجعل نشاطاته وحركته الرساليَّة ومواعظه وتعاليمه وتشريعاته التي جاء بها من السماء مختصة بتلك الأمة وحينئذ تكون الأمم الأخرى والمجتمعات الأخرى محتاجة إلى نبي آخر ومرشد آخر، أما الإسلام فلم يكن كذلك، الإسلام لم يأتِ لمدينة مخصوصة ولم يأت بتعاليم محدودة بحدود تلك الأمة، جاء ليُخرج كل الناس من ظلمات الجهل جاء لينظَّم حياة كل الأمة جاء من أجل أن يسود كل الأمم وعلى امتداد تاريخ البشرية المستقبلي، فإذاً عالمية الرسالة الإسلامية تنفي هذا المبرر، إذا كان المبرر من تجدد النبوات هو محدودية نشاط الرسالة بمحدودة الزمن أو المكان أو محدودية المجتمع، فإنَّ رسالة الرسول الكريم (ص) لم تكن بهذه الكيفية بل كانت رسالة عالمية وهذا ما تؤكده الآيات المباركات، قال الله تعالى:
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء/107)، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾(الفرقان/1)، إذاً هذه الآيات تعبِّر عن أن رقعة وحدود الإسلام يستوعب كل الأرض، لا تحده حدود جغرافية، ويقول الله تعالى:
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾(سبأ/28) ثم إن هناك آية صريحة في أبدية هذه الرسالة، إذن فهي عالمية من حيث المكان وعالمية من حيث الزمن: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾(الأنعام/19) ومن يأتي بعدكم وتبلغه هذه الرسالة فإنه يكون مسئولاً عن امتثال تعاليم تلك الرسالة ثم يقول:
﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾(آل عمران/85) في حين أن ما كان عليه واقع النبوات سابقًا هو أنَّ لكل مجتمع نبيّ لا يلزمه إلا يتدين بما جاء به ذلك النبي، هذا تمام الكلام حول المبرر الأول من مبررات التجدد في النبوات ورأينا أن هذا المبرر لا ينطبق على رسالة الرسول الكريم (ص).
المبرر الثاني
تراث النبوة:
أما المبرر الثاني لتجدد النبوات فهو كما يقول الشهيد الصدر (قدس سره) انقطاع سراج النبوة، فعندما ينقطع سراج النبوة يكون من المعقول جداً أن يبعث الله نبياً أخر ليواصل الجهاد والحركة الرسالية الذي يراد لها أن تسير بالبشرية نحو الكمال.
ما معنى انقطاع تراث النبوة، المراد من هذا المبرر هو أنه قد تأتي نبوة وتمارس نشاطاتها وحركتها الرسالية، ويهتدي بها جمع كبير من الأمة وتبدأ الأمة تخط طريقها نحو الرشد ثم يرحل ذلك النبي إلى الله وحينئذ تعيش الأمة فراغاً ويبدأ المضلون بدس الضلالات في وسط الأمة -أمة ذلك النبي- وتنحرف الأمة عن خط نبيها ويبدأ تراث النبوة الفكري والروحي والسياسي يبدأ في الانحلال والاضمحلال، وتتلاشى وتنتهي من ذاكرة الأمة كثير من التعاليم التي جاء بها ذلك النبي أو يتم التغيير للكثير من تلك التعاليم وتندثر تعاليم أخرى وحينئذ تُصبح تلك النبوة مسألة تاريخية ذات مفهوم غائم باهت لا يُعرف عن تلك النبوة إلا مجموعة من الشعارات السطحية دون القدرة على الوقوف على محتواها وحدودها وتفاصيلها..
ليس ثمة من كتاب يكون مرجعًا لتلك الأمة ويحمل تعاليم تلك النبوة التي رحلت، وليس ثمة من قيِّم يملك المؤهلات التي تجعله قادراً على تحمُّل أعباء تلك الرسالة التي رحل النبي عنها حينئذ يكون من المعقول جداً أن تتجدد النبوة، لأن النبوة قد أصبحت مسألة تاريخية أصبحت في التراث أصبحت شعارًا ليس له مضامين واضحة، لذلك يكون من المعقول جداً أن تتجدد النبوات.
أنتم تلاحظون أن هذا المبرر نتج عنه تجدد النبوات كما تؤكد على ذلك الآيات المباركات التي وردت في القرآن الكريم.
عندنا 24 ألف نبي أي شيء نعرف عنهم، ما هي الأقوال التي تؤثر عنهم، أي شيء كان سلوكهم، أين كتبهم، أين إرشاداهم أين مواعظهم، أين مواقفهم ما هو تأريخهم، ما هي سيرتهم، كل ذلك نجهله عنهم، بل حتى أسمائهم لا نعرفها، ولولا أن القرآن ذكر مجموعة من أسماء بعض الأنبياء لكنا نجهلهم أيضاً، حينئذ لا يمكن أن يحتج الله عز وجل على عباده أنه بعث رسلاً لا تعرف الأمة التي تأتي في مستقبل الزمان لا تعرف عنهم حتى أبسط الأمور، من الطبيعي أن لا يكون ذلك صالحاً للاحتجاج على البشرية وهذا ما يبرر تجدد النبوات، حتى أنبياء أولي العزم والأنبياء الذين كثر ذكرهم في القرآن لا نعرف عنهم إلا النزر اليسير جداً بحيث لا يمكن أن يتشكل مما نعرفه عنهم دينٌ متكامل الأبعاد، تراث الأنبياء الروحي وتراثهم الفكري والعقائدي تعاليمهم نصائحهم إرشاداتهم كتبهم سيرهم الذاتية كلها مجهولة عندنا..
تلاحظون أن القرآن يتحدث عن شعيب فيذكر عنه بعض المواقف إلا أنه بعد أن دعا على قومه يقول القرآن: ﴿نَجَّيْنَاهُ﴾، من بعد النجاة شعيب بقى زمنًا طويلاً، ماذا كان يصنع ماذا كان يقول أي شيء كان يفعل أي دور كان يطلع به، لوط عليه السلام خرج من المدينة التي بعث فيها قبل أن يخسف الله بها، ثم لا ندري أين ذهب، حتى المدينة التي ذهب إليها لا نعرفها، فضلاً عن معرفة ماذا كان يقول وماذا كان يفعل وما هي الكتب التي كانت عنده، وهكذا نبي الله صالح عندما خرج وأصاب قومه الهلاك لا ندري ماذا فعل، إذن هؤلاء الأنبياء رغم أنَّه قد وردت أسماؤهم في القرآن الكريم إلا أننا لا نعرف عنهم ما يصلح لأن يمثِّل ديناً كاملاً قابلاً لأن تتَّبعه الأمم المتعاقبة.
أكثر الأديان حضورًا في زمننا الحاضر هو الدين المسيحي فهو يستوعب أكثر من في الكرة الأرضية بأكملها فأكبر مساحة جغرافية يستوعبها دين من الأديان الثلاثة هو الدين المسيحي، وكذلك من حيث المعتنقين فأكثر العالم البشري يعتنق الدين المسيحي، لنقف مع هذا الدين لنبحث عن تراثه، التراث العقائدي والتراث الفكري والتراث التشريعي أين هو هذا التراث الذي خلَّفه السيد المسيح (ع) هل نجد منه شيء، لم يبقَ من الديانة المسيحية شيء يمكن أن يعوَّل عليه أو أن يشكل منظومة معرفية متكاملة تصلح لأن تكون نظاماً لأمة، فالسيد المسيح خلَّف كتاباً سماوياً أسمه الانجيل..
أين هو هذا الانجيل لمجرد أن قتل المسيح أو رفع إلى السماء كما نحن نعتقد ذلك ضاع الانجيل، واختفى الانجيل باختفاء السيد المسيح (ع) هكذا هم يقولون، كتب الانجيل كنسخة كتبها بولس الأول بعد مائة عام من رحيل السيد المسيح (ع)، ثم كتبت أناجيل متعددة لا نعرف أيها الواقعي، انجيل لوقا أو متَّى أو انجيل يوحنا أو انجيل (برنابا)، كل انجيل يقول هو الذي جاء به السيد المسيح، وقد كتبت هذه الأناجيل بعد أكثر من مائة عام من رحيل السيد المسيح، وعلى أي شيء يحتوي هذا الانجيل، هل يشتمل على التشريعات والتعاليم والمعارف الإلهية التي جاء بها السيد المسيح اطَّلعوا بأنفسكم على هذه الأناجيل ستجدون أن 90% من مضامين ومحتويات الأناجيل الأربعة تتحدث عن السيرة الذاتية للسيد المسيح..
إذن أين التعاليم التي جاء بها السيد المسيح أين التشريعات أين المعارف أين العقائد، كل ذلك لم يكتب في الأناجيل الأربعة الموجودة والمكتوبة بأيدي تلامذة السيد المسيح أو من جاء بعدهم، على أن هذه السيرة لم تتصدَ لتحديد جميع أبعاد شخصية السيد المسيح، واضح من ملاحظة هذه الأناجيل أنها تركز على الجانب ألإعجازي في شخصية السيد المسيح، أن السيد المسيح مشى على الماء أن السيد المسيح فعل كذا بمعنى أنها مسائل إعجازية، في حين أننا نحتاج من سيرة السيد المسيح للتعرف على ماذا كان يقول وما هي التشريعات التي جاء بها وكيف كان يتعامل مع القضايا التي يصادفها كيف يعالجها كيف يربي تلامذته ما هي نصائحه وما هي إرشاداته كل ذلك أو أكثره مهمل في الأناجيل المذكورة،إذن فراغات كثيرة نشأت عن رحيل السيد المسيح، حيث لا يمكن إلا أن تُملَئ هذه الفراغات بأيدٍ بشريَّة إذا أريد للدين المسيحي أن يتكامل، فامتزج الدين المسيحي برؤى وأفكار بشرية بعد أن كان ديناً إلهياً.
ومن جهة أخرى، أن المسيحية بعد رحيل السيد المسيح بقيت ضامرة ضعفيه في الوسط اليهودي، لأن السيد المسيح إنما بعث في الوسط اليهودي، كما ذكرنا، بقيت المسيحية مخبوءة في ضمائر مجموعة من الناس ومجموعة من الحواريين وكانت في نفوسهم بمستوى باهت لعدم استيعابهم التام لما جاء به السيد المسيح، على أن خوفهم من الطغيان وتشتتهم واضطهادهم من قبل اليهود جعلهم يكتمون كثيراً مما كانوا يحملونه من تعاليم جاء بها السيد المسيح، فلم يكونوا بمستوى حمل عبئ الرسالة، التي جاء بها السيد المسيح كانوا يخافون من اليهود، اليهود قتلوا السيد المسيح كما يزعمون، اليهود اتهموا السيد المسيح في أمه، واتهموا زكريا وقتلوه، وقتلوا يحيى هم يقولون، كانوا يتتبعون الحواريين وتلامذة السيد المسيح يقتلونهم ويضطهدونهم، فتبعثرت تعاليم السيد المسيح أخفوا كتاب السيد المسيح، فالانجيل اختفى باختفاء السيد المسيح، كما يؤكد ذلك المسيحيون قبل اليهود، وبقوا ثلاثة قرون ليس لهم كيان وكانت المسيحية مجرد أفكار يحملها مجموعة من الناس إلى عام 305 للميلاد..
بعد ولادة السيد المسيح استطاع المسيحيون أن يلملموا شملهم ويقنعوا الإمبراطور قسطنطين بالتنصُّر وفعلاً دخل قسطنطين الملك في الديانة النصرانية ومنها بدأ للنصارى كيان ودخلت الإمبراطورية الرومانية في الدين النصراني فقويت شوكتهم، ولكن ورغم ذلك ورغم أن المسيحيين وبعد ثلاثة قرون من التبعثر السياسي والتبعثر العقائدي والتبعثر الروحي والفكري بعد ثلاثة قرون من هذا التبعثر أصبح لهم كيان وهو الإمبراطورية الرومانية بعد أن دخل الملك قسطنطين في الدين النصراني، لكن كان الرومان عهدها بالوثنية وثيق إذ كان أغلب المجتمع الروماني يعتنق الدين الوثني والذي آمن بالنصرانية هو قسطنطين ثم استطاع أن ينشر وبواسطة نفوذه الدين النصراني في الوسط الروماني..
ولكن مع ذلك بقيت شوكة الحزب الوثني قوية جداً وخشي كما يقول الكاتب الأمريكي (درابر) في كتاب الصراع بين الدين والعلم يقول: \"إن قسطنطين وبعد أن اعتنق الدين النصراني وجد إنه من الصعب التوفيق بين مسايسة الحزب النصراني والحزب الوثني ولم يمكن إلا أن يعتنق واحداً منهما ثم رأى أن اعتناق المذهب أو الدين النصراني سوف ينهي سلطانه وملكه وذلك بقوة الدين الوثني في المجتمع الروماني من هنا وللتحفظ على ملكه وسلطانه وإمبراطوريته رأي من المناسب أن يمازج في التشريع وفي النفوذ بين الحزب النصراني والوثني\"، لذلك يقول الكاتب الأمريكي: \"إن الدين المسيحي امتزج بالرؤى والأفكار والتشريعات الوثنية\"، وانعكاسات هذا الامتزاج بقيت إلى يومنا هذا فمن جهة أن الدين النصراني لم يكن قادراً على تغطية كل الفراغات التي كانت موجودة نتيجة التبعثر الذي أشار له هذا الكاتب، ومن جهة أخرى إصرارهم على أن يكون للدين النصراني كيان وليس من وسيلة إلا أن يمازجوا هذا الدين بتعاليم بشرية.
إذن نؤكد في نهاية هذه النقطة على أن تراث الدين المسيحي قد أندثر فلا كتاب يؤثر عن هذا الدين ولا سيرة وتأريخ وما نعرفه وما يعرفه العالم عن السيد المسيح قليل جداًُ وهذا ما يبرر تجدد النبوات ثم نعرج على الإسلام لنبحث هل الإسلام يعاني من هذه الإشكالية أو لا فنجد أن الإسلام لا يعاني من هذه الإشكالية فتراث الإسلام العقائدي والروحي والأخلاقي والسياسي محفوظ وبتمام تفاصيله ودقائقه لا يشذُّ منه شيء إلا ونحن نعرفه فكتاب هذا الدين لم تمسه الأيادي الأثيمة فلم يستطع من أحد تحريفه وبقي وبحفظ الله مطهراً عن كل تحريف: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(الحجر/9).