عربي
Sunday 29th of December 2024
0
نفر 0

مقاربة معرفية شمولية لملامسة إشكالية المرأة

لقد تحولت قضية المرأة إلى واجهة مجتمعية تختزل مجموع التصورات والمفاهيم والإيديولوجيات المتصارعة مجتمعياً وسياسياً وحضارياً، وتجاوزت الترف الفكري النخبوي لتلامس عمق الوعي الجماهيري، بل وأصبحت أداة فعالة في تأطير الوعي الجماهيري وتفعيله في اتجاه تكتلات ثقافية وسياسية ذات حركية سريعة ومكثفة. هذه التمظهرات الصراعية فرضت طبيعة المقاربات التي عولجت بها قضية المرأة، والتي بقيت أسيرة منطق دفاعي أو هجومي ساهم في تغييب الرؤية الشمولية. ويلاحظ من خلال مجموع التفاعلات التي تعكسها المنشورات وأعمدة الصحف، أن المناقشات الجارية أخذت شكل مشاكسات سياسية مشدودة بقوة نحو هذا الطرف أو ذاك، لكنها قلما استطاعت التفلّت من هذه الضغوط لتنظر إلى المسألة من حيث هي واقع مجتمعي قائم، هو محصلة سلسلة من التراكمات التاريخية الموروثة والإملاءات الغيرية المكتسبة أو المفروضة معاً. إن توجيه النقاش نحو هذه الوجهة يجعله أقدر على فهم واقع المرأة في المجتمع العربي والإسلامي، وتقويمه تقويماً موضوعياً قادراً على فرز التراكمات التاريخية السلبية التي هي جزء من المطالب التغييرية دون السقوط في منطق المحاكاة المدمر للذات، أو السقوط في الدفاع عن صيغ مجتمعية هجينة. ضمن هذه المقاربة المعرفية الشمولية تقترح هذه الورقة ملامسة إشكالية المرأة من زوايا متعددة، هذه أبرزها:

أولاً: إبراز قيمة الرؤية النقدية للواقع المجتمعي القائم بوصفه محصلة التقاليد والتجارب المكتسبة عبر التاريخ، والتي لا تكتسب أية سلطة أو قداسة دينية تبرر الدفاع عن بعض الممارسات التي يكرسها التعامل اليومي تجاه المرأة.

ثانياً: إبراز قيمة الرؤية التجديدية المنضبطة القادرة على مراجعة الواقع القائم على ضوء التحولات الاجتماعية والمتطلبات العصرية والمقاصد الشرعية، دون الوقوع في أسر الواقع أو التضخيم من سلطة المتغيرات بالشكل الذي يجعلها سلطة مرجعية نافية للثوابت الشرعية.

ثالثاً: إبراز قيمة المعالجة السوسيولوجية القادرة على كشف مجموع التحولات التي تعيشها المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية بالشكل الذي يجنبنا الرؤية الإسقاطية المؤدلجة، ويمكننا من ملاحظة سلسلة التجارب التغييرية الإيجابية، والمكتسبات المجتمعية التي حققتها المرأة المسلمة المثقفة والمندمجة في عمق المشروع التغييري، حتى يتم التعامل معها كقوة مجتمعية حاضرة بكثافة، بحيث لا يمكن إسقاطها أو تجاهلها في كل عملية تغييرية أو تنموية، سواء كانت نابعة من حاجة مجتمعية أم خاضعة لضغوط خارجية.

رابعاً: إبراز قيمة المقاربة الحضارية القادرة على إبراز الفروق الجوهرية التي تحكم مختلف الأنماط الثقافية بوصفها تمثل مجموع التصورات والمفاهيم التي تؤسس لنموذج مجتمعي ما، مما يجنبنا الوقوع في خطيئة (الاستنساخ) والتنميط من جهة، ويزودنا من جهة أخرى بالمفاهيم الضرورية لتطوير نموذج مجتمعي يستجيب لمنظومتنا الثقافية.

خامساً: إبراز قيمة المراجعة النقدية لمجموع المفاهيم والنواظم (الحداثية) التي تحكمت في صياغة نموذج (نسوي) معياري يعمل الغرب على تسويقه وتدويله بشكل مقنن وممنهج ووفق ديباجيات واهية خادعة ، وهذه المراجعة تتطلب الحفر في اتجاه كشف الخلفيات الفلسفية والتاريخية والمجتمعية التي أفرزت (النسوية) الغربية ورصد بعض مفاهيمها ومطالبها ومحطاتها، وهو مدخل ضروري لفهم التحركات العالمية الحالية المتمحورة حول المرأة وتداعياتها دولياً ووطنياً.

سادساً: الحفر في اتجاه كشف الخلفيات النفسية والاجتماعية والإيديولوجية التي كانت وراء بروز (النسوية) العربية، بوصفها امتداداً نسقياً للنسوية الغربية، ومن تم رصد بعض رموزها وتوجيهاتها ومحطاتها التاريخية. والبحث في هذا الاتجاه مدخل ضروري لفهم المطالب النسوية الحالية التي تجتاح العالم العربي والإسلامي بدعوى تغيير أوضاع المرأة، وتحقيق المساواة، والقضاء على أشكال التمييز بين الجنسين، إلى غير ذلك من الشعارات التحررية التي رفعتها بعض النخب النسائية العربية أو المتحدثين باسمها وطنياً ودولياً.

سابعاً: رصد المرتكزات الإيديولوجية التي تأسس عليها الخطاب النسوي العربي في سعيه نحو شرعنة مجموع المواقف والخيارات والنماذج الثقافية النمطية التي تبناها على حساب انتمائه الثقافي وارتباطه بالتاريخ والمجتمع والهوية. وهذا المدخل التفكيكي ضروري لفهم الآليات التي تم اعتمادها في تعامل هذا الخطاب مع الموروث الثقافي الذي يعمل دوماً على تفكيكه لتجاوزه أو تطويعه لتقبل الأشكال النمطية الجاهزة. هذه بعض المداخل التي أعتبرها ضرورية لمقاربة قضية المرأة من موقع لا يزعم لنفسه التفلت من إملاءات الظرفية الراهنة أو التعالي عليها، لكنه بالمقابل لم يَقبل البقاء حبيساً للجدال السياسي والتوظيف البرغماتي لموضوع يرى فيه مشروع مجتمع هو فوق مساومة كل الأطراف. إن موضوع المرأة يشكل في نظرنا أبرز تحد مجتمعي، وهذا التحدي لا يجدي أمامه أن نتعامل معه تعاملاً نفعياً حيث يتم توظيفه باستمرار لتزييف وعي المجتمع بحقيقة ذاته ومشاكله ومتطلباته المعاصرة والمستقبلية. إن واقعنا الراهن الموسوم بالتخلف والتبعية يقتضي العمل بجدية لتحرير وعي المجتمع من خطورة هذا الزيف من جهة، ومن جهة أخرى لرفع الوصاية على المرأة بإسم المساواة والتغيير وغير ذلك من الشعارات والديباجيات المنمقة التي يتم استهلاكها إعلامياً وسياسياً لإخفاء حجم الإخفاق الذي تعيشه السياسات التنموية القسرية. إن هذا التعامل النفعي التوظيفي مع موضوع المرأة لا يمكن أن يغير من واقعنا المجتمعي إلا في اتجاه وجهته السلبية التي تجعل منه رهينة مهدودة ومشلولة القدرات في يد القوى العالمية المتحكمة. ومن هنا تتحدد ضرورة التعامل مع موضوع المرأة بذهنية علمية تحاول فهم مشاكل المرأة الحالية ومطالبها التغييرية وفق خصوصيات المجتمع الذي تعيش فيه ومعاييره التي يعترف هو بشرعيتها. لكن هذا الفهم الموضوعي لا يمكن أن يتم فعلاً دون تحقق تراكم معرفي كفيل بإنضاج وعي متبصر بطبيعة العوائق التي تعوق مسيرة المرأة التنموية ، وهذا التراكم نراه شرطاً أولياً ليس لضمان سلامة المطالب التغييرية وشرعيتها فحسب، بل لتحديد أولوياتها ومجالات تحقيقها كافة . والحمد لله رب العالمين

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

السيد محمد سعيد الحبوبي قائد المعركة ضد المحتلين ...
المرأة والدنيا في نهج البلاغة (دراسة أدبية) – ...
المرجع الحكيم: زيارة العتبات المقدسة لها أثر طيب ...
الفعل الخلقي2
الحب الحقيقي، حقيقة علمية
مشكلة الأسرة المعاصرة
شر الناس
المسرح المدرسي
كم يحتاج الإنسان إلى الغذاء يوميا؟
هل يجب تزويد المراهقين بثقافة جنسية؟

 
user comment