* حياته
لازم ابن عباس، ومنذ نعومة اظفاره، النبي عليه الصلاة والسلام، لقرابته منه، ولأن خالته "ميمونة" كانت من أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وتوفي رسول الله (ص) وله من العمر ثلاث عشرة سنة، وقيل خمس عشرة، فلازم كبار الصحابة، وأخذ عنهم ما فاته من حديث رسول الله (ص).
ولاّه الامام علي (ع) البصرة بعد حرب الجمل، واستمر والياً عليها الى أن قتل علي (ع) في سنة أربعين.
وولي البصرة أيضاً من قبل الامام الحسن (ع) وبقي عليها الى أن صالح الحسن معاوية على شروط لم يفِ بها الأخير ويُقال: أنه شهد الصلح أيضاً.
كف بصره في آخر عمره، فسكن الطائف، وتوفي بها سنة ثمان وستين.
*تواضعه
كان لابن عباس من العلم بأمور الدين والدنيا، ومن المكانة في بني هاشم خاصة، وفي قريش عامة، وفي نفوس المسلمين جميعاً ما كان خليقاً ان يضعه في مصاف العظماء. وفي الوقت الذي كان فيه شديداً على المنحرفين، إذ لم يكن يخشى في الله لومة لائم.. نراه يتواضع _بالقدر نفسه_ أمام عباد الله الصالحين.
فهذا ابن عباس _وهو حبر الأمة وبحرها_ لم يكن يتوانى عن أن يمسك بركاب الحسنين عليهما السلام إذا ركبا. ولم يقتصر الأمر على تبجيله لسيدي شباب أهل الجنة وحسب، وانما تعداه الى غيرهما.
يقول الشعبي: ركب زيد بن ثابت، فأخذ عبد الله بن عباس بركابه، فقال له لاتفعل يابن عم رسول الله (ص). قال: هكذا اُمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقال له زيد: أرني يدك، فأخرج اليه يده، فأخذها وقبّلها، وقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.
* ثقافته
تضافرت عدّة عوامل _منها الموضوعية ومنها الذاتية_ على تكوينه الثقافي. حتى نستطيع القول أن ابن عباس كان مثقف عصره بلا منازع!.
وقد شهد بهذه الحقيقة معاصروه ومريدوه، إذ قال فيه ابن مسعود، رضي الله عنه: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. وقال فيه عطاء: ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس، أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع.
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبه: كان ابن عباس قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه وفقه ما احتيج اليه من رأيه، وحلم ونسب، وتأويل، وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله (ص) منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا اثقب رأياً فيما احتيج اليه منه، ولقد كان يجالس يوماً ولا يذكر فيه إلاّ الفقه، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيّام العرب، ولا رأيت عالماً قط جلس اليه إلاّ خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلاّ وجد عنده علماً.
وقيل لطاووس: لزمت هذا الغلام _يعني ابن عباس_ وتركت الأكابر من أصحاب رسول الله (ص)؟ قال: إني رأيت سبعين رجلا من اصحاب رسول الله(ص) اذا تدارءوا في امر صاروا الى قول ابن عباس.
وروى الأعمش عن أبي وائل قال: واستخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم فقرأ في خطبته سورة البقرة وفي رواية سورة النور ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا.
ومن هنا كان ابن عباس يلقب بالحبر والبحر لكثرة علمه، وكان على درجة عظيمة من الاجتهاد والمعرفة بمعاني كتاب الله، ولذا انتهت اليه الرياسة في الفتوى والتفسير وقد أحرز ابن عباس منزلته بين كبار الصحابة على صغر سنه بعلمه وفهمه تحقيقاً لدعوة رسول الله (ص) ففي الصحيح عنه أنّ النبي (ص) ضمّه اليه وقال: (اللهم علّمه الكتاب والحكمة)... وفي رواية اخرى قال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل).
وغني عن القول التأكيد على ان هناك اجماعاً حول منزلة ابن عباس. وقد قال فيه ابن مسعود (رض): (نِعم ترجمان القرآن ابن عباس)، وكان عمر إذا أعضلت عليه قضية دعا ابن عباس وقال له: أنت لها ولامثالها، ثم يأخذ بقوله ولا يدعو لذلك أحداً سواه. وكان آية في الحفظ أنشده ابن أبي ربيعة قصيدته التي مطلعها:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر...
فحفظها في مرّة واحدة، وهي ثمانون بيتاً، وكان إذا سمع النوادب سدّ اُذنيه بأصابعه مخافة أن يحفظ أقوالهن.
* شهرته العلمية
ظل ابن عباس دوماً موضع الاعتبار والتقدير من صحابة الرسول (ص) ومن معاصريه، وممّن لحقه بعد، فما أكثر ما يدور اسمه في كتب التفسير على اختلاف مناهجها ومنازعها السياسية والمذهبية وعلى الرغم من أن الفتنة قد ذرّت قرنها بين بعض الصحابة، في بعض المنعطفات السياسية الحادّة، غير أن سمعة ابن عباس ظلت بمنأى عن ذلك، كما وأن الصحابة اتفقوا على تعظيمه في العلم عموماً، وفي التفسير خصوصاً، وسمّوه البحر والحبر، وشاع ذلك فيهم من غير نكير، وظهرت اجابة الدعوة النبوية فيه.
وقد شهد بحقه جيل من الصحابة والتابعين. فقد أخرج البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود، قال: (نِعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس). وأخرج أبو نعيم عن مجاهد، قال: كان ابن عباس يُسمّى البحر لكثرة علمه. وأخرج عن ابن الحنفية، قال كان ابن عباس حبر هذه الأمة. وأخرج عن الحسن، قال: إن ابن عباس كان من القرآن بمنزل، كان عمر يقول: (ذاكم فتى الكهول، إن له لساناً سئولاً، وقلباً عقولا).
* النبوغ المبكر
لقد قيل الكثير حول نبوغ ابن عباس، ومن وقت مبكر، من حياته. وقد أجمل أحد الباحثين أسباب هذا النبوغ فيما يلي:
أولاً: دعاء النبي (ص) له بقوله: اللهم علّمه الكتاب والحكمة، وفي رواية أخرى: (اللهم فقهه في الدين وعلّمه التأويل) والذي يرجع الى كتب التفسير بالمأثور يرى أثر هذه الدعوة النبوية يتجلى واضحاً فيما صحّ عن ابن عباس (رض).
ثانياً: نشأته في بيت النبوة، وملازمته لرسول الله (ص) من عهد التمييز، فكان يسمع منها الشيء الكثير، ويشهد كثيراً من الحوادث والظروف التي نزلت فيها بعض آيات القرآن.
ثالثاً: ملازمته لاكابر الصحابة بعد وفاة النبي (ص) يأخذ عنهم ويروي لهم، ويعرف منهم مواطن نزول القرآن، وتواريخ التشريع وأسباب النزول، وبهذا استعاض عما فاته من العلم برحيل رسول الله (ص) وتحدث بهذا ابن عباس عن نفسه فقال (وجدت عامة حديث رسول الله (ص) عند الأنصار، فان كنت لآتي الرجل فأجده نائماً، لو شئت أن يوقظ لي لاوقظ، فأجلس على بابه تسفي على وجهي الريح حتى يستيقظ متى ما استيقظ، وأسأله عما أريد، ثم انصرف.
رابعاً: حفظه اللغة العربية، ومعرفته لغريبها، وأدبها، وخصائصها وأساليبها، وكثيراً ما كان يستشهد للمعنى الذي يفهمه من لفظ القرآن بالبيت والأكثر من الشعر العربي.
خامساً: جرأته وشجاعته في بيان ما يعتقد أنه الحق، دون أن يأبه لملامة لائم ونقد ناقد، ما دام يثق بأن الحق في جانبه، وكثيراً ما انتقد عليه ابن عمر جرأته في تفسير القرآن، ولكن لم ترق اليه همةٌ نقده، بل مالبث أن رجع الى قوله، واعترف بمبلغ علمه، فقد روى أن رجلاً أتى ابن عمر يسأله عن معنى قوله تعالى (أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما) فقال اذهب الى ابن عباس ثم تعال اخبرني، فذهب فسأله فقال: كانت السموات رتقاً لاتمطر، وكانت الأرض رتقاً لاتنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات، فرجع الرجل الى ابن عمر فأخبره فقال: قد كنت اقول: ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن. فالآن قد علمت أنه أوتي علماً.
هذه هي أهم الأسباب التي ترجع اليها شهرة ابن عباس في التفسير، يضاف الى ذلك كونه من أهل بيت النبوّة، منبع الهداية، ومصدر النور، وما وهبه الله من قريحة وقادّة، وعقل راجح، ورأي صائب، وايمان راسخ، ودين متين.
* مدرسة ابن عباس في التفسير
من هنا تأتي صعوبة دراسة ملامح شخصية ابن عباس العلمية المتعددة الجوانب، وإن كانت هذه الجوانب منصهرة ومتداخلة بعضها في بعض في شخصيته التي يُطلق عليها بحق (حبر الأمة). إن ابن عباس امة في رجل. فهو إضافة الى كونه أحد شخصيات أهل البيت (ع) والمتمسكين بخطهم حتى الرمق الأخير، كان مفسراً فذاً تشرئب له العناق، ثم إنه عالم لغوي وأديب كبير، وعالم بالقراءات واختلافاتها، كما أنه فقيه ضليع، وسياسي شهد واحدة من أخطر مراحل الفتنة الكبرى، ناهيك عن أنه مصلح كبير نشد احقاق الحق ووقف بوجه تيار الباطل، ودفع ضريبة موقفه هذا..
ورغم تعدد ثقافته الموسوعية فان شخصيته كمفسر هي التي طغت على بقية الجوانب، والتي نستطيع القول أنه أفلح _وبشكل يدعو للأعجاب_ في توظيفها لخدمة مشروعه التفسيري الرائد. لهذا يستحق أن يُعد بحق الأب الأول لتفسير القرآن وكان ابن عباس شيخ المفسرين بمكة، وصاحب مدرسة التفسير بها. وتأسيساً على ما تقدم فان مدرسة التفسير بمكة قامت على عبد الله بن عباس (رض) فكان يجلس لأصحابه من التابعين، يفسر لهم كتاب الله تعالى، ويوضح لهم ما أشكل من معانيه، وكان تلاميذه يعون عنه ما يقول، ويروون لمن بعدهم ما سمعوه عنه.
وقد اشتهر من تلاميذ ابن عباس بمكة، سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة وطاووس بن كيسان اليماني، وعطاء بن أبي رباح.
وهؤلاء كلهم كانوا من الموالي، وهم يختلفون في الرواية عن ابي عباس قلّة وكثرة، كما اختلف العلماء في مقدار الثقة بهم والركون اليهم.
وقد تتلمذ على ابن عباس رجال كثيرون استهواهم الاشتغال بهذا العمل العظيم، تفسير الكتاب الكريم، ولكن نبغ من هؤلاء التلاميذ وبرز على من سواهم هؤلاء الذين تقدم ذكرهم.
* منهجه التفسيري:
تختلف مناهج التفسير باختلاف ما يستعين به المفسر من مصادر التفسير وقد حدّد ابن عباس معالم منهجه التفسيري بقوله: (التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لايُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لايعلمه إلاّ الله تعالى).
وبخصوص علم التفسير يقول أهل العلم بالقرآن الكريم: إنه _أي التفسير_ يسير عسير، وعسره ظاهر من وجوه. أظهرها: أن موضوع التفسير هو القرآن الكريم، وهو كلام متكلم لم يصل الناس الى مراده بالسماع منه. ولا إمكان للوصول اليه، بخلاف الأمثال والأشعار، فان الانسان يتمكن من معرفة مراد صاحب المثل أو الشعر، بأن يسمع منه، أو يسمع ممن سمع منه، أمّا القرآن الكريم فتفسيره على وجه الصحة لايعلم إلاّ بأن يُسمع من الرسول عليه الصلاة والسلام.. أو ممن سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...
* معالم المنهج
في ضوء ما تقدم، بالامكان تحديد معالم منهج ابن عباس في التفسير، ومن أبرز هذه المعالم:
1_ تفسير القرآن بالقرآن:
لم يغفل ابن عباس النظر الى القرآن الكريم نفسه، في توضيح كثير من الآيات التي خفي المراد منها في موضع، ثم وردت بشيء من التوضيح في موضع آخر. شأنه في ذلك شأن سائر الصحابة الذين اهتدوا بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتزموا المنهج الذي سار عليه، ولفت أنظارهم نحوه.
فمن هذا القبيل ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى: (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) (غافر/11).. قال كنتم تراباً قبل أن يخلقكم فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم، فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون الى القبور. فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أُخرى: فهذه ميتتان وحياتان، فهو كقوله (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) (البقرة/ 28)
2ـ اهتمامه بأسباب النزول:
اهتم ابن عباس كثيراً بأسباب النزول، واعتمد عليها في توضيح كثير من الآيات التي يتوقف الفهم الصحيح لها على معرفة أسباب نزولها وهكذا نجد ابن عباس يسأل ويستقصي عن سبب النزول، أو فيمن نزلت الآي.. ولقد بلغ في ذلك الغاية حتى لنجد اسمه يدور كثيراً في أقدم مرجع بين أيدينا عن سبب النزول وهو سبرة ابن اسحق.. فمثلاً يقول: نزلت في النضر بن الحارث ثماني آيات من القرآن.. أو يسوق مناسبات نزول آي من سورة الكهف.. ونراه حين يعرض للآي يفسّرها يضيء المعنى ويوضحه ببيان سبب النزول.
وهناك أمثلة كثيرة من تفسير ابن عباس يظهر فيها جلياً مدى أهمية الاعتماد على سبب النزول في فهم الآيات القرآنية.
روي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: من يشهد على ماتقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول. فقال عمر: يا قدامة إني جالدك. قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني. قال عمر: ولم؟ قال: لأن الله يقول: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا) (المائدة/ 73).. فانا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بدراً وأحداً والخندق والمشاهد.
فقال عمر: ألا تروون عليه قوله؟
فقال ابن عباس: إن هذه الآيات أُنزلن عذراً للماضين، وحجة على الباقين لأن الله يقول: (يأ أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والازلام رجس من عمل الشيطان) (المائدة/ 90).. قال عمر: صدقت.
فالملاحظ هنا أن سبب الالتباس في الاستشهاد بالآية، على ما ذكر، هو عمد الوقوف على سبب النزول وأن ابن عباس كان معتمداً في الكشف عن الوجه الصحيح الذي ينبغي أن تُفهم عليه الآية على سبب النزول.
فقد رُوي عن البراء بن عازب أنه قال: مات من أصحاب النبي (ص) وهم يشربون الخمر فلما حرمت قال أُناس: كيف لأصحابنا ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الآية (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا).
ويتصل بمعرفة سبب النزول علم الناسخ والمنسوخ، وذلك أن أكثر المنسوخ يتقدّم على الناس نزولاً.. وقد استعان ابن عباس بهذه الأداة حين يفسّر.
3_ التوظيف اللغوي والأدبي:
اعتمد ابن عباس على اللغة في تفسير القرآن الكريم، لتفهّم معانيه والكشف عن أسراره، لأن اللغة هي الأساس في معرفة دلالات الألفاظ القرآنية والوقوف على سر إعجاز التركيب القرآني. وقد اشتهر ابن عباس باستعانته بشعر العرب وكلامهم في تفسير غريب القرآن وايراده على سبيل الاستشهاد به على المعنى الذي يبينه، وقد ساعده على ذلك معرفته الواسعة بلغة العرب وقوة ذاكرته التي استطاع بها أن يحفظ كثيراً من الشعر العربي. فقد روي عنه أنه قال: ما سمعت شيئاً قط إلاّ رويته، وإني لأسمع صوت النائحة فاشد أذني كراهة أن احفظ ما تقول.
وقد بيّن لنا ابن عباس (رض) مبلغ الحاجة الى هذه الناحية في التفسير، وحض عليها من أراد أن يتعرف غريب القرآن، فقد روى ابو بكر الانباري عنه أنه قال: (الشعر ديوان العرب، فاذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا الى ديوانها فالتمسنا ذلك منه.
وروى ابن الانباري عنه أيضاً أنه قال: (إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فان الشعر ديوان العرب). ولعل أوسع ما رُوي عن ابن عباس في هذا الباب مسائل ابن الأزرق، وقد ذكر السيوطي في الاتقان بسنده مبدأ الحوار الذي كان بين نافع بن الأزرق وابن عباس، وسرد مسائل ابن الأزرق وأجوبة ابن عباس عنها، فقال: (بينا عبد الله ابن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا الى هذا الذي يجزىء على تفسير القرآن بما لاعلم له به. فقاما اليه فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا، وتأتينا بمصادقه من كلام العرب، فان الله تعالى إنما انزل القرآن بلسان عربي مبين فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما، فقال نافع أخبرني عن قول الله تعالى (عن اليمين وعن الشمال عزين) (المعارج/ 37)، قال: العزون: حلق الرفاق، قال: هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:
فجاءوا يهرعون اليه حتى يكونوا حول منبره عزينا
قال: أخبرني عن قوله (وابتغوا اليه الوسيلة) (المائدة/ 35)، قال: الوسيلة: الحاجة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت عنترة وهو يقول:
إن الرجال لهم اليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
4ـ التفسير في دائرة المأثور المروي:
اعتمد ابن عباس في تفسيره على المروي عن النبي (ص) وأهل بيته وأصحابه، ثم عندما لايسعفه المروي نجده يعتمد على أدواته الثقافية التي تعينه على استجلاء الغامض وتوضيح المشكل.
وبالرغم من أن ابن عباس كان يمتلك _وبجدارة_ أدوات الفهم والاستنباط التي يستعين بها على فهم كثير من الآيات الكريمة، وقدرته على كشف غوامضها وأسرارها وهو فارس القرآن كما وصفه الرسول (ص) بقول: لكل شيء فارس وفارس القرآن عبد الله بن عباس. _إلاّ أنه كان يخشى الرأي. وكان يردد (رض): إنما هو كتاب الله وسنة رسوله (ص) فمن قال بعد ذلك شيئاً برأيه فما أدري.. أفي حسناته يجده أم في سيئاته؟
ولهذا فان تفسيره لآي الصفات أو الآيات التي ظاهرها التجسيم نجده تفسيراً صافياً حلواً يجري مع الفطرة اللغوية. يقول ابن عباس في تفسيره للآية: (الله يستهزىء بهم) يسخر بهم للنقمة منهم، ويفسر الآية (والله غني حليم) الغني الذي كمل في غناه، والحليم الذي كمل في حلمه. وكان ابن عباس يتوقف في بعض الآي فلا يقول فيها شيئاً عندما لايجد في بيانها مستنداً من كتاب الله أو سنة رسول الله (ص) ولم يتعرض لها الصحابة ولا يغني فيها مجرد الرأي.
قال أبو عبيد حدثنا اسماعيل بن ابراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال: سأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره الف سنة وقوله (يوم كان مقداره خمسين الف سنة) فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه الله أعلم بهما.
5_ الرجوع الى أهل الكتاب:
كان ابن عباس كغيره من الصحابة الذين اشتهروا بالتفسير، يرجعون في فهم معاني القرآن الى ما سمعوه من رسول الله (ص). والى ما يفتح الله به عليهم من طريق النظر والاجتهاد، مع الاستعانة في ذلك بمعرفة أسباب النزول والظروف والملابسات التي نزل فيها القرآن. وكان رضي الله عنه يرجع الى أهل الكتاب ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والانجيل في كثير من المواضع التي أُجملت في القرآن وفصلت في التوراة والانجيل، ولكن كما قلنا فيما سبق أن الرجوع الى أهل الكتاب كان في دائرة محدودة ضيقة، تتفق مع القرآن وتشهد له، أما ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن، ولايتفق مع الشريعة الاسلامية، فكان ابن عباس لايقبله ولا يأخذه.
بيد أن هذه الدائرة المحدودة الضيقة _والطبيعية أيضاً في مقياس أهل العلم_ حاول البعض أن يضعها خارج نطاقها الصحيح توظيفاً لها في خدمة أغراض معروفة، تتنافى وأبسط متطلبات المنهج العلمي.
فهذا المستشرق جلولدزيهر يحاول جاهداً إقناع الآخرين بأن اللون اليهودي قد صبغ مدارس التفسير القديمة، وبالاخص مدرسة ابن عباس، بسبب اتصالهم بمن دخل في الإسلام من أهل الكتاب، إذ يقول: وكثيراً ما ذكر أنه كان يرجع (كتابةً) في تفسير معاني الالفاظ الى مَن يُدعى أبا الجلد.. وكثيراً ما نجد بين مصادر العلم المفضلة لدى ابن عباس اليهوديين اللذين اعتنقا الاسلام: كعب الأحبار، وعبد الله بن سلام. ثم يقول: ومن الحق أن اعتناقهم للاسلام قد سما بهم على فطنة الكذب، ورفعهم الى مرتبة مصادر العلم التي لاتثير ارتياباً، ولم يعدُ (اونولوث) شاكلة الصواب إذ يتحدث عن مدرسة ابن عباس ذات المسحة اليهودية.
ولئن كانت غايات (جولدزيهر) البعيدة معروفة في سياق حركتي الاستشراق والتبشير.. فان مالانفهمه هو انخراط بعض المسلمين في هذا المنحى المشبوه اللهم إلاّ أن نقول: انها التبعية في المنهج..
وعلى سبيل المثال لا الحصر.. فان كلاً من أحمد أمين وأحمد خليل قد تابعا جولدزيهر في رأيه دون أن يكلفا فنسيهما بمناقشته أو حتى التشكيك باتهامه، فيما حشد الأول كتبه باتهام طائفة كبيرة من المسلمين!!
ولسنا هنا بصدد الرد على تخرصات جولدزيهر ومعابره الفكرية من أمثال الكاتبين أحمد أمين وأحمد خليل.. وقد انبرى العلماء الى تفنيد هذه الآراء المتهافتة.
بل إن ابن عباس نفسه، قد كفانا مؤونة الد، إذ كان يؤيد على خطورة الرجوع الى أهل الكتاب بقوله: (كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على نبيّه (ص) بين أظهركم أحدث الكتب بربه غضاً لم يشب.. ألم يخبركم الله في كتابه أنهم قد غيروا كتاب الله وبدلوه وكتبوا الكتاب بأيديهم فقالوا هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً. ألا ينهاكم العلم الذي جاءكم عن مسألتهم: والله ما رأينا رجلاً منهم قط يسألكم عمّا أنزل الله اليكم.
ولكن، أليس من حقنا أن نتساءل: كيف نوفق _إذن_ بين رجوع ابن عباس الى أهل الكتاب وبين دعوته الى عدم الرجوع اليهم؟.
الواقع أنه لاخلاف بين ما يقول ابن عباس وما فعل.. ذلك انه كان حين يرجع الى أهل الكتاب مستفسراً فانما يرجع رجوع العالم الذي يعير سمعه لما يُقال ثم يعمل فكره وعقله فيما سمع، ثم ينخله مبعداً عنه الزيف، وقد وضع أساس منهج الاختيار العلمي بقوله: العلم أكثر من أن يُحاط به فخذوا منه أحسنه.
بل إن موقف ابن عباس من الكتابيين يصوره معتزاً بدينه كريماً على نفسه وثقافته، فيروى أن رجلاً أتى ابن عباس يبلغه زعم كعب الاحبار أنه يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في النار.. فغضب ابن عباس وقال: كذب كعب الاحبار. قالها ثلاثاً، بل هذه يهودية يريد ادخالها في الاسلام.. وقد اعتذر له كعب بعد وتعلل.
ومن هذا الوادي _أيضاً_ ما روى من أنه ذُكر الظلم في مجلس ابن عباس فقال كعب: إني لا أجد في كتاب الله المنزل أن الظلم يخرِّب الديار. فقال ابن عباس: أنا وجدته في القرآن. قال الله عزوجل (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا).
source : مجلة رسالة القرآن