عربي
Monday 22nd of July 2024
0
نفر 0

الاجتهاد في التفسير

التفسير : مبالغة في الفسر بمعنى الكشف والابانة . قال تعالى ( ولا يأتونك بمثل الا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا )(1) ( أي تبيينا وتوضيحا . والفسر والسفر من أصل واحد في الاشتقاق الكبير ) (2) ( كلاهما بمعنى الابراز والاظهار ، قال الراغب الاصفهاني : هما متقاربا المعنى كتقارب لفظيهما ، لكن جعل الفسر لاظهار المعنى المعقول ، والسفر لابراز الاعيان للابصار . يقال : سفرت المرأة عن وجهها وأسفرت ، أي كشفت عن وجهها بمعنى رفع النقاب .

وأسفر الصبح اذا بدا وطلع الفجر . والفسر والتفسير مجردا ومزيدا فيه كلاهما بمعنى الكشف والابانة ، متعديان الى المفعول به ، غير ان في التفعيل مبالغة ليست في المجرد ، نظير الكشف والاكتشاف ، فهما متعديان الى المفعول به ، يقال : كشفه واكتشفه ،بمعنى واحد ، غير أن في الافتعال مبالغة وصرف جهد لم يكن في الثلاثي ، فمطلق الكشف عن الشي لا يقال له الاكتشاف الا اذا كانت في كشفه واظهاره مزيد عناية وبذل جهد كثير .. وهكذا الفرق بين الفسر ، والتفسير لا يكون تفسيرا اذا لم يكن هناك عناء وبذل جهد في رفع الابهام عن وجه الية ، والا فمجرد ترجمة الالفاظ أو تبديلها بنظائرها في افادة المعنى ، لا يكون تفسيرا . ومن ثم كان التفسير في المصطلح هو : بذل الجهد في رفع الابهام عن اللفظ المشكل ، فلابد هناك اشكال في اللفظ قد أوجب ابهاما في المعنى ، فيبذل المفسر عنايته برفع ذلك الابهام ودفع الاشكال ، حسبما أوتي من حول وقوة وما تهيأ له من أدوات التفسير وأسبابه .

والتفسير في ماهيته على نوعين : أثري ونظري . والاول يعني : التفسير بما ورد من آثار الاقدمين من أقوال وآراء حول تبيين اليات الكريمة ، في مثل أحاديث الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وأقوال صحابته المرضيين ، وآراء التابعين لهم باحسان ، مضافا اليها ما ورد من روايات أهل بيته الطاهرين ، وهذا ما يسمى بالتفسير بالمأثور أو التفسير النقلي . وهذا قد يكتفي بذكر الاثر مجردا عن أي نقد أو بيان ، كما داب عليه جلال الدين السيوطي في تفسيره الدر المنثور ، والسيد هاشم البحراني في البرهان ، والعروسي الحويزي في تفسيره نور الثقلين . والاخر ما يصحبه البيان والنقد احيانا ، كما نجده في تفسير جامع البيان للطبري وتفسير ابن كثير ، وتفسير الصافي للفيض الكاشاني ، وكنز الدقائق للمشهدي . والنوع الثاني من التفسير ، هو التفسير الاجتهادي ، المبتني على اعمال الرأي والنظر في فهم معاني القرآن الكريم .

وللاجتهاد في التفسير اسس ودعائم عليها ترسو قواعده ، وتبتني اصوله ..على ما شرحه الراغب في مقدمته في التفسير ، وسنشير اليها . والتفسير يرتفع في اصوله الى فترة حياة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، حيث كان الصحابة اذا أشكل عليهم فهم آية ، كانوا يراجعون النبي ويسألونه الايضاح والتبيين ، فيجيبهم عليه حسب وظيفته الرسالية في تبيين مفاهيم القرآن . قال تعالى : ( وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون (3) . فقد انزل القرآن على النبي ليبين للناس معانيه ، مما أشكل عليهم فهمه ، ليكون ذلك ذريعة الى مزاولة فهمهم وفكرتهم في استخراج معانيه والبسط فيها .

فمما سئل فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن المعنى المراد من الية ، ما جاء سؤالا عن ( السائحون ) في قوله تعالى : ( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون (4) حيث وقع هذا الوصف مدحا يزاوله المؤمنون . فقال ( صلى الله عليه وآله ): (هم الصائمون ) (5) .

قال الطبرسي : السائح من ساح في الارض ، يسيح سيحا اذا استمر في الذهاب ، ومنه السيح للماء الجاري ، قال : ومن ذلك يسمى الصائم سائحا ، لاستمراره على الطاعة في ترك المشتهى ... ، قال : وروي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : ( سياحة أمتي الصيام ) (6) . نعم انما كان الصيام سياحة للمؤمن ، لانه عبادة خالصة يقوم بها العبد ، طالبا وجه ربه ، بعيدا عن كل شائبة الرياء والضمائم التي قد تعتري سائر العبادات ، فالصائم خالص بوجهه للّه ، هائم في بيداء عبادة ربه الكريم ، لا تثنيه عن عزمه شوائب الاكدار ودنائس الاقذار . وسأل رجل من هذيل عن قوله تعالى : ( ومن كفر فان الله غني عن العالمين ) (7) ما هو المراد من الكفر هنا ، حيث كان ترك الحج وهو فريضة كسائر الفرائض آلا يوجب كفرا بالله تعالى ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : من تركه لا يخاف عقوبته ولا يرجو مثوبته ) (8) أي من ترك الحج ترك جحود ، ناشئا عن عدم الايمان بشريعة الله تعالى .

وهكذا في سائر الموارد ، حيثما وجد ابهام في وجه الية ، كانوا يراجعونه ( صلى الله عليه وآله ) ويسألونه الحل والايضاح ، وقد أوردنا غررا من ذلك في كتابنا : ( التفسير والمفسرون ) حقل التفسير المأثور عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وايضا كان ( صلى الله عليه وآله ) يتعرض للتفسير بنفسه عند ما يلقي على أصحابه شيئا من آيات الذكر الحكيم . كان ( صلى الله عليه وآله ) يتلو على أصحابه العشر من اليات ، لا يتجاوز هن حتى يعلمهم تفسيرها وتأويلها ، فقد أخرج ابن جرير باسناده عن ابن مسعود ، قال : كان الرجل منا اذا تعلم عشر آيات ، لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن ، وقال أبوعبد الرحمان السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا ، أنهم كانوا يستقرئون من النبي ( صلى الله عليه وآله ) فكانوا اذا تعلموا عشر آيات ، لم يخلفوها حتى يعلموا بما فيما من العمل ، قال : فتعلمنا القرآن والعمل جميعا ) (9) .

هكذا داب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على تعليم أصحابه الاجلاء معاني القرآن وتفسير ما ابهم منه ، الى جنب تعليم قراءته وتلاوته . غير ان المأثور من التفسير المرفوع الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) قليل جدا ، حسبما جمعه جلال الدين السيوطي فى آخر كتابه الاتقان ، فبلغ ما يقرب من مئتين وخمسين حديثا مرفوعا الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقال : الذي صح من ذلك قليل جدا ، بل اصل المرفوع منه فى غاية القلة . وأخيرا قام زميلنا الفاضل السيد محمد برهاني نجل العلامة المحدث البحراني صاحب تفسير البرهان ، بجمع ما أثر من تفاسير مرفوعة الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، مروية عن طرق أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فبلغ لحد الن حوالي أربعة آلاف حديث مرفوع الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في التفسير ، ولا يزال يزيد ما دام العمل مستمرا ، وفقه الله تعالى .

واما عهد الصحابة ، فلم يزل الامر على ذلك ، كانوا مراجع الامة في فهم ما أشكل من القرآن ، وكان من الصحابة أربعة اشتهروا بعلم التفسير ، وهم : علي بن أبي طالب وكان راسا وأعلم الاربعة وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن عباس ، كان أصغرهم سنا وأوسعهم باعا في نشر التفسير ، وذلك لتفرغه في ذلك ، دون من عداه .

قال الامام بدر الدين الزركشي : ... وصدر المفسرين من الصحابة هو علي بن ابي طالب ثم ابن عباس ، وهو تجرد لهذا الشأن ، والمحفوظ عنه أكثر من المحفوظ عن علي ، الا ان ابن عباس كان قد أخذ عن علي ( عليه السلام ) (10) ثم يجئ دور التابعين ، ليتوسعوا في التفسير ، توسعا مطردا مع الزمان ومتناسبا مع توسع بقاع الدولة الاسلامية . وقد درج التفسير مدارجه الى الكمال في هذا الدور ، فأخذ يتشكل بعد أن كان مبعثرا ، وينتظم بعد أن كان متقطعا منتثرا ، ويزداد حجما ويتوسع بعد ان كان محدودا مقتصرا ، وفوق ذلك أخذ الاجتهاد واعمال الرأي والنظر والبحث والنقد يتسرب في التفسير ، ويأخذ مأخذه في تبيين وتفهيم معاني القرآن الكريم .

وهذا حسبما ورد من الامر بالتدبر والتعمق في القرآن ، والبحث والنظر في فهم معانيه : ( كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الالباب ) (11) . ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (12) . وقد كان بعض السلف يتحرجون من القول في القرآن بغير أثر صحيح ، ويجتنبون النظر فيه ، خشية أن يكونوا قد أقحموا في القول في القرآن برأيهم ، وقد جاء النهي عن تفسيره بالرأي . ( من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ) (13) .

فعن عبيد الله بن عمر قال : لقد أدركت فقهاء المدينة ، وانهم ليعظمون القول في التفسير ، منهم : سالم بن عبد الله ، والقاسم بن محمد ، وسعيد بن المسيب ، ونافع . وعن يحيى بن سعيد قال : سمعت رجلا يسأل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن ، فقال : لا أقول في القرآن شيئا ، وكان لا يتكلم الا في المعلوم من القرآن . وعن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة السلماني عن آية ، قال : عليك بالسداد ، فقد ذهب الذين علموا فيم أنزل القرآن ) (14) .

لكن على الرغم من ذلك فقد تصدى علماء الصحابة ونبهاء التابعين للتفسير ، واجتهدوا فيه وأعملوا النظر والرأى فيه ، لكن على الطريقة المستقيمة ، التي كان يقبلها الشرع والعقل ، وهي الطريقة التي مشى عليها العقلاء في تفهمهم للكلام : اكان وحيا من السماء أم كان كلام انسان منثورا أو منظوما ؟ الامر الذي لا يعنيه حديث النهي عن التفسير بالرأي ، وانما يعني التفسير بالرأي الممنوع شرعا والممقوت عقلا الاستقلال والاستبداد بالرأي فيه .

قال الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( من استبد برأيه هلك ) . وهذا عام يشمل تفسير الكلام أيضا ، فان للتفسير اصولا ومباني يجب الجري عليها ، ومواكبة العقلاء في طريقة فهم الكلام ، فالحائد عن الطريق ضال لا محالة . ولابن النقيب محمد بن سليمان البلخي كلام في تفسير حديث النهي عن التفسير بالرأي ، قال : ان جملة ما تحصل في معنى الحديث خمسة أقوال :

أحدها : التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير.

ثانيها : تفسير المتشابه الذي لا يعلمه الا الله .

ثالثها : التفسير المقرر للمذهب الفاسد ، بان يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا ، فيرد اليه باي طريق أمكن ، وان كان ضعيفا .

رابعها : التفسير بان مراد الله كذا على القطع من غير دليل .

خامسها : التفسير بالاستحسان والهوى (15) .

ولكن هذه الوجوه الخمسة ترجع في النهاية الى وجهين أساسيين :

أولهما : الاستبداد بالتفسير ، من غير اعتماد على اصول التفسير ومنابعه الاصيلة ، أو عدم مراجعة مبانيه المعتمدة المتفق عليها .. ، ومنها الاثار الصحيحة الواردة عن النبي وصحابته العلماء وعترته الطاهرين .. ، وكذا من غير ملاحظة أسباب النزول والشواهد والدلائل المتوفرة ، المؤثرة في فهم معاني اليات وطريقة الاستنباط . وهذا هو الاستقلال بالرأي والاستبداد فيه .. ، وهو مرفوض في شريعة العقل الرشيد .

وثانيهما : التحميل على القرآن ، أن يحاول تحميل رأيه على القرآن ، حتى ولو كان ظاهر النص يأباه ، كأصحاب المذاهب الفاسدة الذين يحاولون تبرير عقائدهم المنحرفة ، بتطبيقها على ما أمكن من ظواهر النص المحتملة ، ومن ثم يتجهون نحو اليات التي هي متشابهة بظاهرها ، فيتبعونها ابتغاء تأويلها وتصريفها الى حيث مراميهم السيئة ، تمويها على العامة . ومن هنا نرى كثيرا من أصحاب القول بالجبر والقدر حاولوا التمسك بظواهر آيات معينة ، فحرفوها وتصرفوا في معانيها ، وهذا هو التحريف في المعنى والتفسير .

وان كثيرا من اليات التي تشبث بها هؤلاء ، لم تكن متشابهة من قبل ، وانما عرض عليها التشابه بصنيع أصحاب الجدل في الكلام ، ومحاولات بذلت فيما بعد بصدد تبديل مفاهيمها ، وتحريف معانيها . نعم ، قد لا يكون هناك غرض سوء ، لكن الغباوة الذاتية دعت بأناس حملوا القرآن على معان تتوافق مع أهدافهم عن حسن نية ، وهذا في أكثر الوعاظ والناسكين الذين حاولوا ذلك في سبيل الوعظ والارشاد بيات فسروها على غير وجهها ، أو وضعوا أحاديث مرفوعة الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بهتانا وزورا ، زاعمين أنهم قد كذبوا له ولم يكذبوا عليه فالصوفي يشير الى قلبه ، ويتلو قوله تعالى : ( اذهب الى فرعون انه طغى ) ، مؤولا الفرعون الطاغية بطغيان القلب وهوى النفس الغالب .

كل ذلك ممنوع ، لانه قول على الله بغير علم ، وافتراء عليه ، حتى ولو لم تكن النية سيئة ، لان الهدف لا يبرر الوسيلة في الاسلام ، فلا تجوز الكذبة حتى ولو كان الهدف رواج الاسلام ، حيث الاسلام في غنى عن الكذب والتزوير.

ــــــــــــ

1ـ 2ـ وهو الاشتراك في الحروف الاصل (س .ف .ر ).

3ـ النحل 44/.


4ـ التوبة /112.


5ـ المستدرك للحاكم 2 /335.


6ـ مجمع البيان 5 /74 76.


7ـ المائدة / 89.


8ـ الاتقان للسيوطي 4/218.


9ـ تفسير الطبري 1/27 28 و30.


10ـ البرهان للزركشي 2/175.


11ـ سورة ص /29.


12ـ محمد / 24.


13ـ حديث مستفيض ، راجع الامالي للصدوق المجلس الثاني ص 6 ( ط ، النجف ) ، والطبري 1/27.


14ـ تفسير الطبري 1/29 ، ومقدمة كتاب المباني في نظم المعاني / 183 آ184.


15ـ راجع : الاتقان للسيوطي 4/191.

 


source : الشیعه
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

خصائص الحسين عليه السلام في علي الأكبر
الحجّ في نصوص أهل البيت(عليهم السلام)
الوقف فی الثقافه العامه
أسباب النزول بين العموم والخصوص
مراحل حياة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام
أولاد السيدة زينب (ع)
اضاءات هادية من كلمات فاطمة الزهراء عليها ...
صبر يوسف (عليه السّلام)
النفخ في الصور
الأخلاق الجاذبة الفعّالة

 
user comment