تحدّث القرآن عن أول مرحلة من مراحل القيامة، وهي النفخ في الصور، هذه النفخة تصعق جميع المخلوقات، ومن ثمّ تأتي النفخة الثانية لتجعلهم يبعثون من جديد..
هو حدثٌ عظيمٌ، وأمرٌ جليل، كيف لا وهو مقدمةٌ وبدايةٌ ليوم القيامة، الذي يبثّ الرعب في سائر البشر، إذ يصف الله تعالى حالهم في القرآن الكريم:
(يوْم تروْنها تذْهل كلّ مرْضِعةٍ عمّا أرْضعتْ وتضع كلّ ذاتِ حمْلٍ حمْلها وترى النّاس سكارى وما هم بِسكارى ولكِنّ عذاب اللّهِ شدِيد)(1).
ولقد اهتمّ القرآن الكريم، والسنّة النبويّة، ببيان أمرِ النفخ في الصور، وما يتبع ذلك من أحداث.
قال سبحانه وتعالى: "ونفِخ فِي الصّورِ فإِذا هم مِّن الْأجْداثِ إِلى ربِّهِمْ ينسِلون * قالوا يا ويْلنا من بعثنا مِن مّرْقدِنا هذا ما وعد الرّحْمن وصدق الْمرْسلون *إِن كانتْ إِلّا صيْحة واحِدة فإِذا همْ جمِيعٌ لّديْنا محْضرون * فالْيوْم لا تظْلم نفْسٌ شيْئا ولا تجْزوْن إِلّا ما كنتمْ تعْملون"(2)، وقال تعالى: "فإِذا نقِر فِي النّاقورِ * فذلِك يوْمئِذٍ يوْمٌ عسِيرٌ * على الْكافِرِين غيْر يسِيرٍ"(3).
* النفختان
وينفخ في الصور نفختان: النفخة الأولى، وتسمى: نفخة الصعق - الموت - وهي المذكورة في قوله تعالى: "ونفِخ فِي الصّورِ فصعِق من فِي السّماواتِ ومن فِي الْأرْضِ إِلّا من شاء اللّه ثمّ نفِخ فِيهِ أخْرى فإِذا هم قِيامٌ ينظرون"(4)، وبسماع هذه النفخة يموت كلّ من في السموات والأرض إلاّ من شاء الله أن يبقيه.
وتأتي هذه الصيحة على حين غفلة من الناس وانشغال بالدنيا، كما قال تعالى: "ما ينظرون إِلّا صيْحة واحِدة تأْخذهمْ وهمْ يخِصِّمون * فلا يسْتطِيعون توْصِية ولا إِلى أهْلِهِمْ يرْجِعون"(5).
أمّا النفخة الثانية، فهي نفخة البعث،وهي المذكورة في قوله تعالى: "ثمّ نفِخ فِيهِ أخْرى فإِذا هم قِيامٌ ينظرون"(6)، وهي صيحةٌ توقظ الأموات ممّا هم فيه، ثم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر، وهذه النفخة هي المقصودة بقوله تعالى: "ونفِخ فِي الصّورِ فإِذا هم مِّن الْأجْداثِ إِلى ربِّهِمْ ينسِلون"(7).
* الفترة الزمنيّة بين النفختين
سئل الإمام السجّاد علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام عن النفختين في الصور كم بينهما؟ فقال عليه السلام: ما شاء الله. قال السائل: فأخبرني يا ابن رسول الله كيف ينفخ فيه؟ فقال: أمّا النفخة الأولى فإنّ الله عزّ وجلّ يأمر إسرافيل فيهبط إلى الدنيا ومعه الصّور وللصّور رأس واحد وطرفان، وبين رأس كلِّ طرف منهما إلى الآخر مثل ما بين السماء والأرض، فإِذا رأت الملائكة إسرافيل قد هبط إلى الدنيا ومعه الصور، قالوا: قد أذن الله في موت أهل الأرض، وفي موت أهل السماء، قال: فيهبط إسرافيل بحظيرة بيت المقدس، وهو مستقبل الكعبة، فإذا رآه أهل الأرض قالوا: قد أذن الله تعالى في موت أهل الأرض، فينفخ فيه نفخة فيخرج الصوت من الطّرف الذي يلي الأرض، فلا يبقى في الأرض ذو روح إلاّ صعق ومات، ويخرج الصوت من الطرف الذي يلي السماوات، فلا يبقى في السماوات ذو روح إلا صعق ومات إلا إسرافيل. قال: فيقول الله لإسرافيل: يا إسرافيل متْ، فيموت إسرافيل، فيمكثون في ذلك ما شاء الله، ثم يأمر السماوات فتمور، ويأمر الجبال فتسير، وهو قوله تعالى "يوْم تمور * السّمآء موْرا * وتسِير لْجِبال سيْرا"(8)
ويستفاد من آيات القرآن الكريم بشكل عام، أنّ هناك فاصلة زمنية بين نفختي الإماتة والإحياء، وأنّ تعبير (ثـمّ) الـذي ورد فـي قوله تعالى: "ونفِخ فِي الصّورِ فصعِق من فِي السّماواتِ ومن فِي الْأرْضِ إِلّا من شاء اللّه ثمّ نفِخ فِيهِ أخْرى فإِذا هم قِيامٌ ينظرون"(9)، يؤكد هذا المعنى. ولكن ورد في بعض الروايات أنّ أمد هذه الفاصلة ما بين النفختين أربعون سنة، ولا أحد يعلم هل أنّ هذه السنين من سنيِّ الدنيا أم من سنيِّ الآخرة التي يعادل كلّ يوم منها خمسين ألف سنة.
من المقصود من الآية الكريمة (إلا من شاء اللّه)؟
هناك كلام للمفسرين في هذا الصدد، قال بعضهم: إنّ هذه العبارة هي إشارة إلى جمع من ملائكة اللّه الصالحين وهم (جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل).
وقال بعض آخر: إنّهم الشهداء، ففي رواية أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم سأل جبرائيل عن هذه الآية من ذا الذي لمْ يشأ الله أن يصعقهم ؟ فأجاب: هم الشّهداء متقلّدون أسيافهم حول العرش "ثمّ نفِخ فِيهِ أخْرى" نفْخة أخرى "فإِذا همْ قِيامٌ ينْظرون" قائمون من قبورهم يقلّبون أبصارهم في الجواب".
وقيل: إنّ الآية تشمل أيضا أضافة إلى الـمـلائكـة الأربعة الذين سبق ذكرهم حملة العرش الإلهي، ومع ذلك فالنتيجة أنّ جميع هؤلاء يذوقون الموت بحكم قوله تعالى: "كلّ نفْسٍ ذآئِقة الْموْتِ وإِنّما توفّوْن أجوركمْ يوْم الْقِيامة"(10). ولم يبق إلا وجه اللّه الذي هو حي لا يموت "ويبْقى وجْه ربِّك ذو الْجلالِ والْإِكْرام" (11).
* كيف يحشر الناس عند النفخة الثانية؟
تشير الروايات إلى أنّ الناس ما بين النفختين في الصور يكونون على وصف أعمالهم من حيث النعيم أو الشقاء، ويبعثون مبيضّة وجوههم أو مسودّة، بحسب ما كانوا يفعلون في الدنيا، فبعد أن يموت الناس جميعا في النفخة الأولى، يقوم الناس على هذا الحالة عند النفخة الثانية. ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا، فاجتمعت الأوصال ونبتت اللّحوم، وقال: أتى جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ بيده وأخرجه إلى البقيع فانتهى به إلى قبر فصوّت بصاحبه فقال قم بإذن الله فخرج منه رجل أبيض الرّأس واللّحية يمسح التراب عن رأسه وهو يقول الحمد لله والله أكبر فقال جبرائيل عد بإذن الله تعالى، ثمّ انتهى به إلى قبر آخر فقال قم بإذن الله فخرج منه رجلٌ مسودّ الوجه وهو يقول يا حسرتاه يا ثبوراه ثمّ قال له جبرائيل: عد إلى ما كنت فيه بإذن الله عزّ وجلّ فقال: يا محمد هكذا يحشرون يوم القيامة فالمؤمنون يقولون هذا القول وهؤلاء يقولون ما ترى"(12).
* الملك المأمور بنفخة الصور
ورد فـي الأحاديث الشريفة أنّ هذا الملك هو إسرافيل، فعن الإمام السجّاد عليه السلام إنّ اللّه يأمر إسرافيل فيهبط إلى الدنيا ومعه صوْر، ومـا كـون نـفـخـة الموت والحياة بيده، إلاّ دليل على عظمة منزلة هذا الملك. ويستفاد من الرواية الواردة عن الإمام السجاد عليه السلام أنّ نفخة الموت تكون من قبل إسرافيل وبعدها يقول اللّه لإسرافيل: مت فيموت إسرافيل وتنفخ نفخة الحياة من قبل الخالق نفسه تبارك وتعالى.
* كيف يؤثر الصوت في الصعق؟
إنّ الله تعالى يأمر إسرافيل فينفخ في الصور نفخة قوية تكون سببا في هلاك جميع المخلوقات، بما فيها الكائنات التي تعيش على كواكب أخرى خارج الأرض، لأنّ الله تعالى يقول: "فصعِق منْ فِي السّماواتِ ومنْ فِي الْأرْضِ" أي أنّ هناك مخلوقات أخرى تنتشر في الفضاء الخارجي سوف تتأثر بهذا الصوت وتصعق.
وهناك علاقة بين الصوت والصعق، لأنّ الصوت المرتفع جدا يملك قوة تدميرية، ويمكن أن يحرق أكثر من النار نفسها!
قال تعالى: "وأمّا ثمود فهديْناهمْ فاسْتحبّوا الْعمى على الْهدى فأخذتْهمْ صاعِقة الْعذابِ الْهونِ بِما كانوا يكْسِبون"(13).
يؤكِّد الباحثون في هذا المجال أنّ التردّدات الصوتيّة عند قوّة معيّنة تكون مدمِّرة، وتفتِّت أيّ شيء تصادفه حتى الصخور!
ولذلك قال تعالى عن عذاب ثمود: "إِنّا أرْسلْنا عليْهِمْ صيْحة واحِدة فكانوا كهشِيمِ الْمحْتظِرِ"(14). وهشيم المحتظر هو المرعى اليابس والمحترق والشوك.
يقول الباحثون في هذا المجال: إنّ أفضل طريقة لتوليد أخطر أنواع الذبذبات الصوتية الفعالة والشديدة، هي أن نولِّد الصوت من خلال ما يشبه البوق، على شكل حلزون هوائي، وهو جهاز يشبه القرن، لأنّ هذه الطريقة ستولِّد الموجات الصوتية ذات الترددات تحت الصوتية infrasound، والتي تعتبر الأخطر على الإنسان والحيوان والجماد.
وهذا القرن الذي وجده العلماء أكثر كفاءة لإنتاج الأصوات القاتلة، هو ما حدثنا عنه الله تعالى بقوله: "ونفِخ فِي الصّورِ فصعِق منْ فِي السّماواتِ ومنْ فِي الْأرْضِ إِلّا منْ شاء اللّه ثمّ نفِخ فِيهِ أخْرى فإِذا همْ قِيامٌ ينْظرون"(15)، وأوضحته الرواية السالفة عن الإمام زين العابدين عليه السلام.
* أسماء أخرى للنفخ في الصور
ذكر القرآن الكريم ستة تعابير مختلفة تعبِّر عن هذه الواقعة وهي:
1- نفخة الصور
وهي ما تقدّم الحديث عنه وما ذكرته الآيات الكريمة والروايات الشريفة بشكل مفصّل.
2- الصيحة
والـصيحة في الأصل بمعنى رفع الصوت، وأصله تشقيق الصوت، من قولهم إنصاح الخشب أو الثوب إذا انشقّ فسمع منه صوت، وصيح الثوب كذلك، ومن ثمّ أطلقت هذه الكلمة على جميع الأصوات العالية.
3- النقر في الناقور
يقول أرباب اللغة: النقر في الأصل يعني طرق شيء. والـمـنـقار: هي وسيلة الطرق، ومن هنا يكون الطرق ملازما للصوت، وتأتي هذه الكلمة أحيانا بمعنى إيجاد الصوت أو سببه، وهو هنا النفخ في الصور.
4- الصاخّة
الصاخّة: مشتقة من مادة (صخ) هو الصوت الشديد الذي ينبعث من أصحاب النطق، يقول الله تعالى: "فإِذا جاءتِ الصّاخّة*يوْم يفِرّ الْمرْء مِنْ أخِيه*ِ وأمِّهِ وأبِيهِ * وصاحِبتِهِ وبنِيهِ"(16).
وقال صاحب مقاييس اللغة: هي الصيحة التي تصمّ الآذان.
5- الـقـارعـة
مـن مادة (قرع) على وزن (فرع) وفي الأصل بمعنى الطرق الشديد الذي ينبعث منه صوت عال ومنها (المقرعة). قال الله تعالى: "ولا يزال الّذِين كفرواْ تصِيبهم بِما صنعواْ قارِعةٌ"(17).
6- الزجرة
زجـرة فـي الأصل: الـصـيحة من قولك: زجر الراعي الإبل أو الغنم، إذا صاح عليها فريعت لصوته، يقول الله تعالى: " فإِنّما هِي زجْرةٌ واحِدةٌ فإِذا همْ ينظرون"(18)
وهذه التعابير كلّها استخدمها القرآن الكريم للحديث عن نفخة الإماتة والإحياء، وقد يراد في بعضها النفخة الأولى، أي نفخة الإماتة، وقد يراد النفخة الثانية أو نفخة الإحياء.
* النفخة مباغتة
قال تعالى: "ما ينظرون إِلّا صيْحة واحِدة تأْخذهمْ وهمْ يخِصِّمون * فلا يسْتطِيعون توْصِية ولا إِلى أهْلِهِمْ يرْجِعو"(19).
جاء في تفسير القمّي في قوله: "ويقولون متى هذا الْوعْد إِنْ كنتمْ صادِقِين * ما ينظرون إِلاّ صيْحة واحِدة تأْخذهمْ وهمْ يخِصِّمون"(20).
قال: ذلك في آخر الزمان يصاح فيهم صيحة وهم في أسواقهم يتخاصمون فيموتون كلّهم في مكانهم لا يرجع أحد منهم إلى منزله، ولا يوصى بوصيّة، وذلك قوله: "فلا يسْتطِيعون توْصِية ولا إِلى أهْلِهِمْ يرْجِعون".
* خلاصة
تحدّث القرآن عن أول مرحلة من مراحل القيامة، وهي النفخ في الصور، هذه النفخة تصعق جميع المخلوقات، ومن ثمّ تأتي النفخة الثانية لتجعلهم يبعثون من جديد..
وينفخ في الصور نفختان: النفخة الأولى، وتسمى: نفخة الصعق - الموت -
أمّا النفخة الثانية، فهي نفخة البعث، وهي صيحةٌ توقظ الأموات ممّا هم فيه، ثم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر.
يستفاد من آيات القرآن الكريم بشكل عام أنّ هناك فاصلة زمنية بين نفختي الإماتة والإحياء، وأنّ تعبير (ثم) الـذي ورد فـي قوله تعالى: "ونفِخ فِي الصّورِ فصعِق من فِي السّماواتِ ومن فِي الْأرْضِ إِلّا من شاء اللّه ثمّ نفِخ فِيهِ أخْرى فإِذا هم قِيامٌ ينظرون" دليل على ذلك.
إنّ الناس ما بين النفختين في الصوْر يكونون على وصف أعمالهم من حيث النعيم أو الشقاء، ويبعثون مبيضّة وجوههم أو مسودّة بحسب ما كانوا يفعلون في الدنيا، فبعد أن يموت الناس جميعا في النفخة الأولى، يقوم الناس على هذه الحالة عند النفخة الثانية.
ذكر القرآن الكريم ستة تعابير مختلفة تعبِّر عن هذه الواقعة وهي:
1- نفخة الصور
2- الصّيحة
3- النّقر في الناقور
4- الصاخّة
5- الـقـارعـة
6- الزجرة
* أشعار الحكمة
هِي الليالي فلا تغترّ بِالاِمل*** كم سيد تحت أطباقِ التراب بلي
يا طالِبا راحة من دهرِه عبثا*** قصِر فما الدهر اِلّا بِالهمومِ ملي
كم منظر رائِق أفنت جمالته***يد المنون وأعيته عن الحيلِ
وكم همام وكم قرم وكم ملك *** تحت التراب وكم شهم وكم بطلِ
وكم إمام اِليهِ تنتهي دولٌ *** قد صار بِالموتِ معزولا عن الدولِ
وكم عزيزٍ أذلّته المنون وما*** إن صدّها عنه مِن مالٍ ولا خولِ
يا عارِفا دهره يكفيك معرِفة*** وإن جهلت تصاريف الزمان سلِ
هل في زمانِك أو من قبله سمعت ***ذناك أنّ ابن أنثى غير منتقِلِ
وهل رأيت أناسا قد علوا وغلوا*** في الفضلِ زادوا بِما نالوا من الأجلِ
وهل رعى الموت ذا عزٍ لعزتهِ *** وهل خلا أحد دهرا بِلا خللِ
الموت بابٌ وكلّ الناس داخِله*** لكِنّ ذا الفضلِ محمولٌ على عجلِ
المصادر:
1- الحج:2
2- يس:51 - 54
3- المدثر:8 - 10
4- الزمر: 68
5- يس:49-50
6- الزمر: 68
7- يس:51
8- الطور: 9 – 10 / المجلسي- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة - ج 6 ص 324
9- الزمر: 68
10- آل عمران: 185
11- 12- الرحمن: 27
12- المجلسي- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة – ج7 ص39
13- فصلت: 17
14- القمر: 31
15- الزمر: 68
16- عبس: 33- 36
17- الرعد: 31
18- الصافات: 19
19- يس: 49 - 50
20- يس: 48 - 49
source : rasekhoon