قصة يوسف قصة مشهورة، تناولتها كتب التاريخ وعلم الأعراق والعلوم الاجتماعية، وتناولتها قبل ذلك الكتب الدينية وكتب التفسير، وكثير من الكتاب بالشرح والنقد والتأويل.
تناولها مثلاً (مالك بن نبي في كتابه (الظاهرة القرآنية) تناولاً جديداً، ونعالجها نحن الآن معالجة مقارنة في ضوء كل من النصين القرآني، التوراتي، محاولين أن نحلل الدلالالت الكامنة وراء بنية كل نص ونحاول أيضاً أن نغوص وراء الدلالات الحقيقية دون أن نضفي على النصوص فكرة مسبقة في رأسنا فننزع منها ما تستحقه أو نضيف إليها ما لا تستحقه.
تقع قصة يوسف في القرآن الكريم في 11 آية في (سورة يوسف)، بينما يحكيها (العهد القديم) في حوالي 430 عدداً أو جملة، أي أن القصة في التوراة توازي حوالي أربعة أضعاف مثيلها في القرآن، وهي في الحقيقة أكثر من أربعة أضعاف بحساب عدد الكلمات، أي أن القرآن أجمل القصة في أقل من ربع حجمها في التوراة.
يبدأ النص القرآني بمقدمة تمهيدية (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ((3)) ) ثم يدخل مباشرة في الموضوع. بينما تبدأ قصة يوسف في التوراة، كامتداد لعائلة (يعقوب) أبيه وهو (ابن سبع عشرة سنة كان يرعى مع أخوته الغنم وهو غلام عند بني بلهة وبني زلفة امرأتي أبيه، وأتى يوسف بنميمتهم الرديئة إلى أبيهم).
ينتقل القرآن إلى حلم يوسف، فيقول يعقوب: (.. يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا .. ((5)) ) بينما تقول التوراة: (وحلم يوسف حلماً وأخبر إخوته فازدادوا أيضاً بغضاً له 37 / 5).
تتشابه القصتان في أحداثهما الرئيسة، من بغض إخوته له ثم إلقائه في البئر ثم بيعه في مصر، ثم مراودة زوج سيده له عن نفسه، إلى حبسه.. إلى آخر القصة واستقرار آل يعقوب بمصر. ثم تنتهي القصة في القرآن بدلالتها الاسلاميةمن الآية 101 حتى الآية 111، فالقصة القرآنية غايتها وعظية ودعائية، أما القصة التوراتية فغايتها تاريخية حيث تواصل قص تاريخ بني إسرائيل، وهذا ما جعل البعض يرى في القصص القرآني غايته فقط دون أحداثه، معتبراً أن تلك الأحداث ليست سوى رموز تشحذ الخيال وتشد النفوس من أجل عبرتها ودلالتها فقط (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ((102)) )، فتلك القصص ليست إلا من أنباء الغيب وليست من أخبار التاريخ (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.. ((109)) ) .. (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.. ((111)) ).
وهذا الاجتهاد لا شك معاكس لوجهة نظر الذين تعاملوا مع هذا القصص باعتباره تأريخاً للبشر منذ آدم وليس مجرد أساطير أو رموز تحكى للعبرة. هذا بينما يسأل البعض الثالث: ولم لا يكون القصص القرآني ـ عامة ـ قد نزل تأكيداً لتاريخ، وتدعيماً لقناعات واعتقادات شائعة في ذلك العصر، ولا يتعارض أبداً مع فهم الناس وتصوراتهم حينئذ؟
نعود لنكتشف عنصر التعميم دون التفصيل في النص القرآني، وبلغة مركزة وكلمات محدودة منغمة، مما يجعله مفتوحاً على أسئلة كثيرة إذا أخذ وحده دون النظر إلى النص التوراتي، حيث يبدو الأخير مجيباً على كل التفاصيل والتواريخ والمواقف ـ كعادة قصص التوراة ـ حيث لا ينسى العهد القديم مثلاً، زواج يوسف وإنجابه قبل أن تأتي سنة الجوع، ولا ينسى تصاعد نجمه ليتسلط على كل أرض مصر مع فرعون.
أجمل القرآن صعود نجم يوسف في ثلاث آيات قائلاً: (وقال الملك إئتوني به أستخلصه لنفسي، فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ((54)) ) ـ (قال إجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ((55)) وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ((65)) ).
وبينما يرى القرآن سبب صعود نجم يوسف باعتباره من المحسنين والمتقين (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون)، فيبدو في الصعود اليوسفي عنصره الديني الواضح، نجد التوراة تتعامل مع الأمر باعتباره كفاءة يوسف في تأويل الأحاديث والأحلام، ثم في كفاءته في إدارة الاقتصاد وقت المجاعة باعتباره (نموذجاً يهودياً) إن جاز التعبير.
نود أن نشير فقط إلى ذاتية التعامل في النص التوراتي، فعندما دخل اليهود مصر ووجدوا نمطاً مختلفاً عن الأنماط التي كانت سائدة لديهم، أرجعوه كله إلى اليهودي يوسف بشكل تبسيطي خرافي دون نظر في طبيعة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والتي تحتاج أحقاباً وفترات زمنية طويلة للتغيير والتبدل.
تعامل (يوسف) في القرآن مع أزمة محددة في ظل الجفاف والسنين العجاف، فقام بإدارة الدولة حيث يقول تعالى: (قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون ـ ثم يأتي بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون ـ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) ((47 ـ 49)). وتتلخص في عدة بنود: ـ تزرعون دأباً ـ تحصدون ثم تتركون حبه في سنبله تخزيناً ـ تأكلون قليلاً منه، ثم توزعونه على السنات العجاف إلا بذور الزرع. عندها ستنتهي المشكلة بعودة الأمطار والرخاء. إنه هنا ليس إلا توجيهاً (يوسفياً) حكيماً، لا تتضح فيه أي سمة من سمات (النموذج اليهودي)، ولا أي سمة في تضخيم دور يوسف في تحويل كل الأرض والناس ملكاً لفرعون. حقاً جاء اختيار يوسف في الكتابين مبنياً على قدرة (خارقة) في تأويل الأحلام وفي تحويل الرؤيا إلى حقيقة.
إن الكهنة الذين كتبوا العهد القديم، أصروا على وضعية الكهنة المميزة ـ ليس في أرضهم فقط ـ وإنما في كل أرض (إلا أن أرض الكهنة وحهم لم تصر لفرعون) وإذا رجعت إلى سفر طوبيا ـ 5، ستجده يبدأ بتأكيد الحرص على تنفيذ القرارات الواردة في كتاب موسى بشأن تسليم أبكار الحيوان وعشور الماشية والمحصول إلى الكهنة اللاويين في أورشليم، وتستطيع أن تراها حتى في الأناجيل في إشارات السيد المسيح لجشع كهنة اليهود، حيث يحذر يسوع من طمع الكهنة قائلاً: (إحذروا من الكتبة الذين يرغبون في المشي بالطيالسة ويحبون التحيات في الأسواق والمجالس الأولى في المجامع والمتكآت الأولى في الولائم، الذين يأكلون بيوت الأرمل، ولعلة يطيلون الصلوات، هؤلاء يأخذون دينونة أعظم).
فإن كان الكهنة جشعين، لم لا يصورون أنبياءهم وملوكهم على شاكلتهم؟!.. ففي كل قصص التوراة يقومون بتصوير معظم ملوكهم وأنبيائهم بصور ذلك (اليهودي النموذجي). فالكهنة مثلاً لم يروا في تصرفات يوسف أمراً شاذاً منافياً لروح العدل الانساني، فرغم أنه يكرم بني جلدته، يقسوا على المصريين من أجل سيده فرعون، لدرجة تجريدهم من أموالهم في البداية وعندما تفرغ جيوبهم، يأخذ مواشيهم ثم أرضهم ثم يأخذهم هم عبيداً لفرعون دون أن تهتز له شعرة، بل تعتبره التوراة نوعاً من الحكمة، وهي لا شك حكمة يهودية استمرت في التاريخ حتى الآن في علاقة اليهودي بغيره من الشعوب، حيث تنزرع في عمقها روح عنصرية لا تستشف فقط من تاريخهم الفعلي، بل ومن أساطيرهم أيضاً.
لم يتورط القرآن في تفاصيل النص التوراتي الذي جعل من يوسف (عنصرياً) حين يميز بنى أهله عن المصريين في الوقت نفسه الذي لا يمس فيه الكهنة في أعلى السلم الاجتماعي. الصورة كلها جعلت منه (وحشاً) قاسياً، وهو يحول الأحرار عبيداً للملك، فتلك الأموال التي اختزنها فرعون، وذلك الحب الذي زرعه الفلاحون، وتلك المواشي التي اغتصبها (اليهودي)، وذلك القمح ما هو إلا نتاج عمل الشعب المستعبد بواسطة (يوسف) من أجل سيده. تقول التوراة بأن يوسف حل مشكلة المجاعة عبر تحطيم إنسانية المصريين.
انتفت من النص القرآني صفات (النموذج اليهودي)، ذلك الممسك بمراكز التحكم، فيسخرها لنفسه عن طريق ولائه لسيده، فالأمر لا يعني القرآن العربي إلا في إطار معانيه العامة، وعبرته الدينية، فيبدو يوسف إنساناً مظلوماً من طرف إخوة أكلهم الحقد والحسد. ستتعاطف معه منذ لحظة إلقائه في البئر حتى لحظة صعوده من ذلك البئر إلى خدمة فرعون، ويبدو لقاؤه بأخيه بنيامين وبأبيه، وعفوه عن إخوته قبل ذلك اللقاء، وقبل هذا رفضه لخيانة سيده تعففاً، أموراً مثيرة للتعاطف والاحترام أيضاً. شخصية يوسف في النص القرآني نقية من تلوث شخصية التوراة، وهي متماسكة متسقة من أول آية حتى آخر آية، ونجحت فعلاً في إبراز غايتها المعنوية، بينما تدخل تلك الشخصية في النص التوراتي روح (اليهودي)، فيبدو مجرد أحد آباء بني إسرائيل ويبدو مشوهاً ظالماً ـ بمقاييس حكمنا الحالي طبعاً ـ لأن صعود يونس من البئر هنا هو صعود يهودي، ليضع النموذج لبني إسرائيل من بعده في التشبث والسباحة نحو مراكز التحكم والسيطرة على القرار، فينثر بذرة مقاومة لتخرج زروعاً جماعية تتأصل في بني إسرائيل.
من رموز الكلمات تتضح دلالة المقاومة المكية لمحمد (فسورة يوسف مكية) وتتضح هذه المقاومة من خلفت لك الجمل / وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ـ وما يؤمن أكثرهم ـ أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله ـ قل هذه سبيلي ـ أفلم يسيروا في الأرض ـ ما كان حديثاً يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه.
وبسبب هذه المقاومة استدعى النص القرآني كل أسلحته ليدافع عن الدعوة، فيصبح يوسف (مسلماً) ((توفني مسلماً)) مستخدماً آيات العقل في الدفاع عن الدعوة (كأي من آية في السماوات والأرض) مثبتاً للرسول بقول (يوسف): (أنت وليي في الدنيا والآخرة) لأن الله (ولي محمد أيضاً في الدنيا والآخرة)، وكذلك (وما أنا من المشركين) ـ (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا) ـ (حتى إذا استيأس الرسل.. جاءهم نصرنا)، قاصاً القصص للعبرة، بل ولوضعها في موازاة أو في بنية دعوته باعتبارها تتخطى أمر العبرة لأمر الدعوة، لأن العبرة تجوز مع المؤمنين،أما أمر الدعوة فهو أكثر شمولاً، فحين يقول القرآن: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم..) فهو يقول بأن الأنبياء لم يكونوا ملائكة أو جناً، وما هم إلا رجال مثل يوسف أو محمد يعيشون ويقاومون الظلم ويضعفون أحياناً لكنهم يثابرون على دعوتهم حتى ينتصروا، وما طلب الآيات أو المعجزات إلا جهل (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية) ((البقرة 118))، (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الأمر) ((البقرة 200)). وتتابع الآيات الجدل المحتدم بين محمد وأعدائه في كثير من السور القرآنية، حيث يتضح حجم المقاومة المكية في رفض الدعوة الاسلامية (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ـ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضى الأمر ثم لا ينظرون ـ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضى الأمر ثم لا ينظرون ـ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون) ((الأنعام 7 ـ 9)). وفي الحقيقة لم تكن مقاومة قريش لمحمد بسبب أن هذه مجرد أساطير للأولين، فمكة نفسها كانت تعيش بالأساطير، ولا يمكن تخيل أهلها الوثنيين أكثر عقلانية من الاسلام، فقد كانت لهم أساطيرهم واعتقاداتهم وكان لهم إيمان بالجن والملائكة والغيب أيضاً، ولكن في حدود الوثنية والوساطة أو الشرك بين آلهتهم والله الواحد، فإن كان الأمر كذلك، فلم كانت المقاومة المكية ناجحة إلى الحد الذي جعل محمداً يدعو في مكة أكثر من عشر سنوات أو ثلاث عشرة سنة ولم يتبعه أكثر من تسعين شخصاً؟ إن دعوة محمد في البداية كانت نقضاً أو نفياً لما نام عليه العرب آلاف السنين ولا تكفي دعوة ما ـ أياً كانت ـ أن تغير عقائد الناس هكذا ببساطة خصوصاً وأنها بدأت في مكة صرح الوثنية والمستفيد الأكبر من تجمع الآلهة حول الكعبة، وهنا لا يكون الاسلام مجرد دعوة في مواجهة دعوة فقط، وإنما يصبح هدماً لمصالح، وضرباً لفئات وطبقات متنوعة كانت ترتبط بالوثنية ارتباطاً مباشراً، بدءاً بالأرستقراطية المكية وانتهاءً بالتجار الصغار وأصحاب الحرف البسيطة الذين مارسوا مهنة أو أخرى على هامش الحياة التجارية المنتعشة في هذا المركز الوثني الكبير، ولقد كان القرآن واعياً بهذا الأمر عندما قال: (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً)، فإن كان الوضع هو ذاك بالنسبة لمكةفلا يمكن أن يؤمل من بقية العرب خارجها أفضل من أهلها. ولكن ما الذي غير الحسابات بعد الهجرة؟
نعود الآن ونضيف بأن عمومية النص القرآني ستجعله مفتوحاً بشكل دائم لكل أسئلة ما بين السطور وللخيال والاجتهاد. وعمومية الغرض أو الغاية من النص (الدعوة الإسلامية هنا) ستجعله حافزاً أيضاً للبحث عن تلك الغاية وراء المواقف والأحداث المتوالية أو حتى وراء تتابع الجمل وفك رموز الكلمات.
نخلص من تحليلنا للقصة، إلى أن لها جانبين ديني ودنيوي:
الجانب الديني: يوسف في القصة القرآني نبي يوحى إليه، ورحلته من الجب إلى السلطة هي صعود نبوة في كل خطوة من خطواتها، بدءاً بحلمه وإخباره إياه وظلم إخوته له، كان الطريق المقدر المؤدى به إلى خلاص بني إسرائيل، فرغم أنه يظلم إلا أنه يعفو، ورغم القسوة يرحم. قاده ظلم امرأة سيده إلى السجن ومن السجن إلى بيت الملك. كانت تحاول معه وكان يعف، وكان تبريئها ليوسف خلاصاً لها من خطيئتها (كذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وإن الله لا يهدي كيد الخائنين) ((52)). يوسف في القرآن لم يكن مخلصاً لبنى قومه فقط، بل كان خلاصاً للمصريين أيضاً، وهو في القرآن مسلم مرتبط بالله الواحد، وهو في القرآن غير مشرك، وهو إيحاء للمشركين بنبوة محمد أيضاً تضميناً وتصريحاً.
يوسف في القصة الكتابية هو أب من آباء بني إسرائيل أكثر منه نبي، ورغم وجود كل العناصر الدينية في الأسطورة اليهودية، إلا أنها مشبعة أكثر بروح كهنوتية، ملوثة بتصرفات غير (نبوية).
القصة في القرآن دعوة لمشركي مكة للإيمان بنبوة محمد عبر نبوة يوسف، بينما هي في التوراة مجرد تسجيل لتاريخ أحد آباء اليهود وأول حضور لهم في مصر من خلال يوسف. والقصة في القرآن مركزة كأنها تسجيل للحظة، بينما تبدو في التوراة نوعاً من التاريخ.
الجانب الدنيوي: هو في القرآن تأييد للحكمة النبوية عبر إيحاء الله له بالحلم، بينما هو في العهد القديم مجرد خادم لفرعون وكهنته، لا من أجل عيون لا تنسى القصة دفن يعقوب في موطنه الأصلي، فولاؤهم الرمزي ليس للوطن الجديد الذي احتضنهم وأشبعهم بعد جوع، وآواهم بعد تشرد، إنما ولاؤهم يظل قائماً ـ ومستمراً عبر الأيام ـ لأسطورة العودة المتكررة.
يوسف في القرآن عادل لا يظلم، لا يسرق الأموال ولا الزروع ولا الحصاد ولا البشر، وهو في التوراة ملوث بالنموذج اليهودي، وكأنه يرسم الطريق لكل الآتين بعده قائلاً: (اتبعوا هذا الطريق لتحافظوا على نوعكم بني إسرائيل رغم العواصف) وهي دلالة رمزية عن روح يهودية كانت قد سادت زمن ما يسمى (السبي البابلي) وانتقلت عبر العصور إلى عقول الكهنة قصصاً وأساطير، فإن كانوا هم كذلك، فلم لا يكون كل أنبيائهم وآبائهم السابقين لهم مثلهم؟!.
القصة القرآنية تقول (بعد أن وضع يوسف خطته لإنقاذ مصر من المجاعة كان عليه أن يخلص نفسه من التهمة الملصقة به زوراً، وبدلاً من قول يوسف (اسألوا امرأة العزيز) قال للرسول الذي جاءه في السجن: (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ذهولاً واشتهاءً له) وهي تعبير عن شهادة موثوق بها، لأن نساء عديدات سقطن في الشهوة وقطعن أيديهن تقطيعاً في عز النهار أمام بعضهن البعض، فما بال الأمر إن تعلق بامرأة واحدة اختلت به؟!.. إن الأمر ليس بيديه، إنما بيد الطرف الآخر حيث ترقد الخطيئة. إن دعوة امرأة العزيز لصديقاتها كانت إيحاء وتبريراً، كانت إيحاءً لهن بأنها لمت خطى حينما راودت يوسف عن نفسه، ولسان حالها يقول: (ها هو أمامكم. ماذا أراكن فاعلات؟!) لقد قطعن أيديهن. (إن الأمر فوق إرادتي). وهي بذلك تبرر خطيئتها أيضاً، تبررها أمامهن بالخطيئة الكامنة في أعماقهن باشتهاء يوسف، لأن تقطيع الأيدي ليس مجرد تقطيع، وإنما هو خطيئة كانت على وشك التفجر.. العيب إذن ليس في يوسف (قلن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء). والثمن الذي قبضه يوسف من تقريره الحكيم أو من رؤياه هو براءته وخروجه من السجن لإنقاذ كل المصريين، بينما في أعماق القصة التوراتية هو خروج من السجن لجعل المصريين عبيداً لفرعون ولتوطيد بني جلدته على حساب الشعب المصري.
فرغم أن القرآن الكريم يعتبر وثيقة مهمة جداً في كشف أبعاد الحياة الجاهلية، إلا أنه لا يعتبر مجرد وثيقة تاريخية تسجيلية، وإنما هو كتاب إرشادي عام قد أشار لبعض مظاهر الحياة الجاهلية ولم يؤرخ لها تفصيلياً أو يعرضها من جميع جوانبها، وأحياناً، بل كثيراً ما تكون الإشارات غير مباشرة تستنتج فقط من ثنايا النصوص أو ترد في معرض شرح الآيات.
أمر آخر هو أن أغلب الروايات التي وصلت حول هذا الأمر كانت تؤكد وجود اليهودية والنصرانية كدعوتي توحيد، والحنفاء والصابئة كصبغة رافضة للوثنية وذلك لمدة طويلة بين العرب في شبه الجزيرة العربية، بل إن القرآن نفسه قد ذكر ذلك كثيراً وفي آيات متنوعة. كذلك لا يمكن تخيل أن العرب، وخصوصاً أهل مكة الذين جابوا البلاد القريبة والبعيدة من أجل التجارة لم يقابلوا رهباناً وأديرة وكنائس ومعابد وديانات متنوعة، بل قد ذكر في كثير من الروايات أن صور العذراء والمسيح كانت تجاور التماثيل والأصنام وصور الملائكة.
فإن لم تكن هناك وثيقة تاريخية باقية من العصر الجاهلي، وذلك باعتبار أنه لم يكن عصر كتابة بالنسبة لهمن فليس معنى ذلك نفي مسألة التفاعل بين الديانات المختلفة الموجودة قبل الاسلام، فتأخذ الوثنية بعضاً من ملامحها وتأخذ هي من الوثنية ملامح أخرى، وإلا معنى ذلك أنا سننساق في اتجاه ضد طبيعة الأشياء.
ثم إن القرآن الكريم نفسه لم ينف هذا الأمر، ليس بحكم نصوصه فقط، بل وأيضاً بحكم المعارك والجدل الدائر بين الاسلام في لحظة صعوده وبين اليهود والنصرانيين المتواجدين بقوة في ساحة الصراع.
الدلالات النفسية:
لا نريد أن نبحث في هذه القصة عن وجه تاريخي، لأن لعملية التأريخ شروطاً ومناهج تختلف كلياً عن شروط القصص الديني، ولكن ما أكثر أن تجد من دلالات نفسية داخل هذه القصة المشهورة، ولا نريد أن نتحدث عن الدلالات النفسية الذاتية لأبطالها، بقدر ما نتحدث عن دلالات كلية في العلاقات الرمزية القائمة بين أشخاصها.
وما نفعله هنا، قام به (فرويد) منذ ما يقارب القرن من الزمن، وهو يضع يديه على السيكولوجية الجماعية للشعوب سواء في تناوله للقصص التوراتي أو في تحليله النفسي لتطور الشعوب، وفي ربطه بين الأنثروبولوجيا وعلم النفس التحليلي لقصة موسى، الذي يعتبره مصرياً وليس إسرائيلياً، أو في عمله في الخط نفسه على الشعوب البدائية في كتابه الشهير (الطوطم والتابو).
أما قصة يوسف فتتعلق بالدين اليهودي، أي في مرحلة أكثر تقدماً من مراحل الاعتقاد البشري.
ومع هذا فقد تبقى جذور عقائد قديمة ي الديانات الجديدة، وقد تتشوه المعاني وتنحرف الدلالات لتأخذ أشكالاً مغايرة. ففي قصة يوسف صراع بين أبناء كثيرين مع أب مهددة حظوتهم لديه، في انتقالها لأخ صغير من امرأة أخرى، كان أثيراً إلى قلب يعقوب، وبدلاً من أن يقتلوا الأب، حاولوا قتل الأخ أو ظنوا أنهم قتلوه، وإن كان النص القرآني أو التوراتي قد تضمن كرهاً كامناً خفياً غير ظاهر (.. يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً..). إنه ظن بالكيد مؤكد ومؤسس على خبرة سابقة، اتضح عندما (حلم يوسف حلماً وأخبر إخوته.. فازدادوا أيضاً بغضاً له..) فإن بحثنا عن حالة نفور بين أب كقائد عشيرة وبين أبناء، سندجد محاولة موجهة للأخ بدلاً من الأب، وفي هذا الاتجاه تبدل أو إبدال موح قد يطرح تساؤلاً: هل هناك دليل على أن قتل الأخ قد يعني في معناه البعيد قتل الأب؟ إن إبدال حالة الكره إلى صبي صغير، يتعلق بالأب، ذلك الذي أعطى عواطفه للأخ ومنع عواطفه عن الكبار، وبدلاً من أن يقتلوا الأب المالك لهذه العواطف، أزاحوا الأخ المستوحذ عليها، أي قتلوه فرضياً، قتلوا الأب متجسداً في يوسف. إن إحياء القصة ليوسف ـ إخراجه من البئر ـ بعد موته الرمزي، هو حالة تكفيرية، بعودة الحياة للأب الذي مات كمداً على حبيبه، بل عودة بصره بعد شمه لثوب يوسف وقوله بأن في الثوب رياح يوسف وعودته للإبصار تعني عودته للدنيا، بعد أن حرمه الأبناء من حبيبه، وقد كانوا قد عاقبوه في صغيره الذي أكله الذئب. ذروة التكفير تبدو في إعلاء يوسف لمرتبة توازي مرتبة الأب الأصل مرتبة النبوة، بل ويصبح أباً فعلياً لبني إسرائيل في مصر.
يعلو يوسف، ويعلو بنو يعقوب من بعده، والعلو انتقال لمنزلة النبوة، أي المنزلة الوسيطة بين الله وبين البشر فبعد أن كان الآباء أو الأجداد يعبدون قديماً، فإنهم نزلوا مرتبة في ظهور الأديان وأخذوا موقعاً وسطاً بين الأبناء والآلهة، ويتحول يوسف إلى رمز لإعلاء كل يهودي، رمزاً لكل أبناء يعقوب، رمزأً وأباً. فهو بإمكاناته الوسطية بين الشعب وبين الآلهة، حل أيضاً محل الأب، الذي يبدو في القصة مجرد أب، وفي القصة القرآنية نبي.
وترمز القصة بوضوح أيضاً إلى وساطة يوسف بين الفرعون (الإله) وبين الشعب، فبدونه (لا يرفع إنسان يده ولا رجله في كل أرض مصر). ولم ينس (الإله المصري) أن يقول ليوسف (أنا فرعون).
هنا تتغير القصة وتبقى جذور متشابهة وإحلالات قد ترتبط بتقدم البشرية من الطوطمية للأسطورية للدين. وبالتالي تنحرف البقايا القديمة.
ولا تعود كما كانت هي هي، لتأخذ مواقع مغايرة، لكنها تؤدي دلالات قديمة في عمق الدلالات الجديدة التي أرادتها الحالة المختلفة.
السؤال الآن: أليست تحليلات فرويد حول القصص البدائي مجرد فرضيات لا أكثر؟!. ونجيب: بلى. الأمر افتراضي، ولكنه انبنى على آثار الشعوب البدائية والتي ما زال بعضها قائماً.
source : البلاغ