لقد مثل موضوع "المواطنة" جزءاً من مشكلة "الهوية" والمفاهيم المختلفة التي ارتبطت بها منذ بدء احتكاكنا الفكري والثقافي والسياسي والعسكري بالغرب في القرن الماضي. وإذا كانت المسألة قد حسمت على صعيد الواقع منذ أن تمزقت الدولة العثمانية وتحولت أشلاؤها العربية وغيرها إلى دول وحكومات قومية وإقليمية، فإن المسألة لم تنته على المستوى الفكري والثقافي، بل بقيت سؤالاً كبيراً يطرح بشكل تحد أحياناً وبشكل عذر أو ذريعة أحياناً، كما يطرح بشكل تساؤل أحياناً أخرى، وأيا كان الشكل الذي يطرح الموضوع به فقد بقي موضوعاً شديد الحساسية كبير الخطر، حتى إذا بدأت مظاهر الشيخوخة والكبر والفشل تبدو على قواعد الدولة القومية والدولة الإقليمية الوطنية في بلاد المسلمين بدأ البحث يشتد حول صيغ جديدة للهوية والانتماء.
وحين بدأ الاتجاه الإسلامي في الأمة يتحرك، وترشح بعض فصائله نفسها بديلاً سياسياً، وتؤكد أن "الإسلام هو الحل"، حول السؤال إلى مشكلة كبرى، تطرحها بوجه العاملين في الحقل الحركي والسياسي الإسلامي على اختلافهم، سائر الفصائل العلمانية والدنيوية الأخرى، وأصبحت هذه القضية أداة من أخطر أدوات الصراع السياسي في العالم الإسلامي الحديث، وكثير من الحكومات السائدة في بلاد المسلمين تحتج بوجود أقليات غير مسلمة لحرمان الأكثرية المسلمة، التي تبلغ 98% أو تزيد، من حقها في اختيار الشريعة التي تتحاكم إليها، وكثير منها تتهم الحركات الإسلامية بأن وجودها ـ وحده ـ فضلاً عن مبادئها ومطالبها وأهدافها يعتبر تهديداً "للوحدة الوطنية" يقتضى سن "قوانين طوارئ" وتعطيل القوانين المدنية.
لقد كانت "المواطنة" أساس الانتماء الذي أكد على "الوطنية" هوية للدولة الحديثة. و"المواطنة" انتماء إلى تراب تحده حدود جغرافية، فكل من ينتمون إلى ذلك التراب مواطنون يستحقون ما يترتب على هذه المواطنة من الحقوق والواجبات التي تنظم بينهم (بمقتضى هذه النسبة) لا بشئ آخر سائر العلاقات. ولابد من انصهار المواطنين ـ جميعاً ـ بكل أديانهم ومذاهبهم ومللهم ونحلهم وجذورهم العرقية في هذه الرابطة الترابية النفعية، وكذلك تنازلهم عن أية خصوصيات تتعارض مع هذا الإطار.
ولقد حاول كثير من قادة "المشروع السياسي الإسلامي" احتواء ذلك الضجيج، والتأكيد على أن المشروع الإسلامي كفيل بتحقيق "المجتمع المدني" المطلوب ـ في إطار إسلامي ـ وأنهم مستعدون لتأصيل كثير من دعائم المجتمع الغربي الذي يصر العلمانيون الدنيويون على أنه النموذج الأوحد "للمجتمع المدني"، لكن ذلك كله لم يقنع الفصائل العلمانية الدنيوية.
ولعل في الملاحظات القليلة التالية ما ينبه إلى بعض مخاطر استعارة المفاهيم الحضارية من الأنساق المغايرة بحيث يتنبه المستعيرون إلى وجوب وضع الضوابط المناسبة، والمعايير الضرورية لهذا النوع من الاستعارة، لئلا تنهدم السدود بين الثوابت والمتغيرات في إطار الحوارات السياسية.
أولاً: إن كلمة "مواطن" تعبير لم يظهر ولم يجر تداوله إلا بعد الثورة الفرنسية سنة 1789م، أما قبلها فالناس ملل وشعوب وقبائل لا يعتبر التراب ـ إلا تبعاً لشئ من ذلك ـ وسيلة من وسائل الارتباط.
ثانياً: إن العلمانية الدنيوية ـ بعد ظهورها وبروزها ـ كتيار فكري ومنهاج حياة يقابل الدينية بالتقاطع أحياناً. والتلاقي والتحجيم والتجاوز أحياناً أخرى، استهدفت فيما استهدفته إذابة الفوارق والخصوصيات بين الناس، لأن من شأن الخصوصيات والفوارق دينية كانت أو عنصرية أو إثنية أن تعوق مسيرتها، وأن تحد من فاعليتها في إذابة الفوارق وإقامة النظم الشاملة القائمة على المصلحة واللذة والمنفعة الدنيوية لا غير، لأنها كرست هذه الأمورة باعتبارها البديل عن القيم الدينية والخلقية.
ثالثاً: إن نصوص القرآن العظيم المتعلقة بهذا الموضوع، ما ورد تطبيقاً لها وتنزيلاً لأحكامها على الواقع، مثل "ميثاق المدينة" وما بنى عليه من تصرفات الخلفاء الراشدين وقيادات الصحابة والتابعين في الميادين المختلفة كانت تشير كلها ـ بوضوح شديد ـ إلى حرص الإسلام البالغ على مساعدة سائر أولئك الذين لم يقتنعوا بعد بالدخول في حظيرة الإسلام، على حماية خصوصياتهم الدينية والعرقية والمحافظة عليها فبالإسلام يستحق المسلم حماية ضرورياته الخمس وحاجاته وكمالياته، وبعقد الذمة يستحق غير المسلم ذلك كله، مع الاعتراف له بخصوصيته الملية والعرقية وحمايتها والدفاع عنها إلى حد القتال إذا هددت من مسلمين أو غيرهم.
رابعاً: لا مانع يمنع أهل الاجتهاد من علماء المسلمين من أن يجتهدوا في كل أمر من الأمور التي يجوز الاجتهاد فيها، ولابد من أن يبدع علماء الاجتماعيات المسلمون في سائر المجالات ليسهموا في بناء المشروع الحضاري الإسلامي. فالاجتهاد في الشرعيات والإبداع في الاجتماعيات هما طرفا الديناميكية في حركة الإسلام وعملية بناء مشروعه الحضاري.
خامساً: إن من أكثر الأحكام التي تعرضت لسوء الفهم ولسوء القراءة في عصرنا هذا، وفي الماضي، أحكام "أهل الذمة" والأحكام المتعلقة بتقسيم العالم في النظرة الإسلامية في إطار عالمية الإسلام الأولى: ففي الماضي أساء الكثيرون فهم تلك الأحكام وخرجوا من النصوص الواردة في هذا المجال بما لم يأذن به الله، خاصة ما يتعلق بفهم البعض لقوله تعالى: (.. وهم صاغرون)[سورة التوبة/ 49]، حيث أخرجها بعض الفقهاء المتأخرين من معناها البسيط الذي يشير إلى الالتزام بالنظام والخضوع لما تبنته الجماعة، إلى ربطها بنوع من الإذلال قد يكون هو الذي أوجد كثيراً من تلك الرواسب التي بعثت على كثير من التساؤلات المتعلقة بهذا النوع من التشريع في عصرنا هذا.
وفي الحاضر تعرضت هذه الأحكام لسخط العلمانية الدنيوية بكل فصائلها وتوجهاتها، فرمتها تلك الفصائل بكل ما لديها من تهم التمييز والتجني، ولو أن هذه الأحكام أعيدت قراءتها قراءة متأنية واستفيد في هذه القراءة بمعطيات العلوم الاجتماعية المعاصرة لربما وجد أنها يمكن أن تكون ضالة البشرية التي تنشدها، وأنها هي أو نحوها التي قد تحقق للبشرية اليوم الانسجام بين التوجهات نحو بناء الكتل والقوى الكبرى، والمحافظة على خصوصيات محترمة تتحول إلى مصدر قوة وتنوع في إطار المجموع، دون أي تهديد بانفجار كالذي تعرضت له الولايات المتحدة بين السود والبيض قبل مدة، ويمكن أن تتعرض له في أي وقت بين العروق والأديان والمذاهب الأخرى التي ألفت هذه الأمة الكبرى في ضوء أفكار فيها من الثغرات الشئ الكثير.
إن نظام أهل الذمة في الإسلام حينما يوضع في إطاره الصحيح ولا يساء استعماله، فإنه باعتباره فكرة، يمثل حلاً لكثير من الأزمات الكامنة في المجتمعات المعاصرة، وخاصة في مثل المجتمع الأميركي فهناك أزمات كامنة لن يستطيع النظام الغربي حلها بشكل سليم بدون تقنين التنوع بصيغة من الصيغ المناسبة، ووضعه في إطاره الإنساني الصحيح في وقت قريب. إن الأقليات في العالم الإسلامي استطاعت أن تبقى وتستعصي بكل ثقافاتها وخصائصها على الإذابة؛ لأن هذا النظام قنن لها هذه الخصوصيات وحفظها فاستطاعت أن تعيش كل هذه القرون، بل واستطاعت أن تؤدي أدواراً هامة في سائر البلاد التي عاشت فيها، ووصل أبناؤها في بعض الفترات إلى مراكز مرموقة جداً، وقل أن تجد مدينة إسلامية ليس فيها وجود متميز ملحوظ لأقليات دينية تتمثل في أحياء كاملة تحمل كل السمات الدينية والاجتماعية لتلك الأقليات مثل "حارات أو أحياء اليهود والنصارى وسواهم". أما الغرب فهناك هجرات كثيرة ومهاجرون كثيرون قد ذابت خصوصياتهم الدينية وغيرها في ظل العلمانية الدهرية التي خلعت القداسة عن كل شئ.
إن الهجمة الاستعمارية على العالم الإسلامي استطاعت أن تغزو أفكار الناس مسلمين وغيرهم، وأن تعطى قراءتها الخاصة لكثير من المفاهيم، وتلبس على الناس دينهم، فاعتبرت هذا التقنين الملي في داخل المجتمع قضية مهنية، وتفريقاً، بين المواطنين، واندفع بعض أبناء الأقليات في العمل على هدم هذا النظام؛ لأنهم تصوروا أن هدمه سوف يضر بالأكثرية وحدها. ولكن ها هو الضرر قد عم الأكثرية والأقليات في بلاد المسلمين، فأذيبت خصائص الجميع لصالح المشروع (العلماني الدنيوي) وما أفرزه من أطر عرقية وترابية، وتسلط الحاكمون واستبدوا بأمور الجميع، فتساوى الكل في البؤس والشقاء في هذه الوضعيات البشرية.
إننا لا نريد أن تضغط علينا متطلبات الحوار بين المتقابلين السياسين: الديني والقومي أو الإسلامي والوطني اللذان يريدان الاتفاق على حل وسط يأخذ الإسلامي فيه شيئاً من القومي أو الوطني فيه شيئاً آخر من الإسلامي. فنحن ندرك أن هذه المحاولات تجري في إطار سيادة ثقافية دنيوية غربية فرضت نفسها عالمياً بكل خلفياتها وظلالها وانعكاساتها، ومواقفها من الدين كلاً وتفاصيل.
ولو أن هذه الاجتهادات في "المواطنة" و"الديمقراطية" والقضايا الأخرى المماثلة جرت في إطار عالمية إسلامية أو مركزية حضارة إسلامية أو تكافؤ حضاري وثقافي على أقل تقدير لأمكن تجاوز كثير من الملاحظات أو لوجدنا على كثير منها جواباً ملائماً. أما الوضع بالشكل الذي نعرف فإن الحذر ضروري. حيث إن طوائف العلمانيين الدهريين الدنيويين الفكرية في العالم الإسلامي والعالم العربي بصفة خاصة هم مجرد مجموعة من المترجمين للنقد الغربي للفكر الديني اللاهوتي الكنسي في أوروبة، وهم يعيدون صياغة ذلك النقد بلغة عربية ويسقطونه على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والأحكام الفقهية، ولا إبداع لديهم في شئ مما يقولونه. فليس من المناسب أن تشغل القيادات الإسلامية الفكرية نفسها وثمين أوقاتها عن بناء منهجية القرآن العظيم المعرفية والمشروع الحضاري الإسلامي العالمي المتكامل المنبثق عنها والتقدم به إلى الدنيا كلها بمناقشة ترجمات إطروحات هؤلاء اللاهوتية.
سادساً: وملاحظة أخيرة أود ذكرها في هذا المدخل هي أن فكر المقاربات الذي عمل منذ بدأ احتكاكنا بالغرب حتى عقود قليلة على ردم الهوة بين فكر المسلمين ومعطيات الفكر والحضارة الغربيين قد أدى دوره وانتهت مرحلته وعبر عن عمق الصدمة الحضارية الأولى التي تعرضنا لها بدء احتكاكنا بالثقافة والحضارة والفكر الغربي. وقد غلب جانب السلب فيه على الإيجاب، وتجاوزت الأمة مرحلته بفضل الله. وثبت فشله.
وكل فكر لا يؤدي إلى تحقيق تقدم في إطار حالة "الاجتهاد والإبداع" لدى الأمة وإخراجها من حالة الجمود والجحود والتقليد فإنه فكر لا يضيف الكثير، إن لم يحكم عليه بالفشل، بقطع النظر عن أية إنجازات يمكن أن يحققها في أطر جزئية.
إن الالتزام ب "أسلمة المعرفة" وب "منهجية الوحي المعرفية"، سيقدم لنا الوسائل الضرورية لضبط مناهج التفكير، وتقنين الأفكار، وينقل معالجاتنا من الأطر الجزئية إلى الإطار الكلي، ومن ساحات الخصوصيات الضيقة إلى ميادين المأزق الحضاري العالمي. ويخرجنا من حالة الدفاع عن النفس أمام تحديات الحضارة المعاصرة العالمية بالتعامل مع الظواهر الجزئية المنعكسة عن الحضارة العالمية فيما يتعلق بالأشكال الدستورية لأنظمة الحكم أو المؤسسات الاقتصادية أو مظاهر السلوك الاجتماعي والأخلاقي.
كما أن ذلك سيمكننا من إنتاج الأفكار المنضبطة منهجياً، والمفاهيم والنظريات الإبداعية الاجتهادية، التي نواجه بها متطلبات شهودنا الحضاري، وعالميتنا المرتقبة.
source : البلاغ