عربي
Sunday 15th of December 2024
0
نفر 0

الحياء شعبة من شعب الايمان

الحياء والاستحياء بمعنى واحد, والحياء – كما في القاموس – الحشمة , يقال : حيي منه حياء , واستحيا منه , واستحى منه , واستحياه , وهو حيي – بوزن غني – اي ذو حياء , والحياء تغير وانكسار يعتري الانسان من خوف ما يعاب به ويذم , واشتقاقه من الحياة , ويقال : حيي الرجل – عل وزن نسي – وكأن صاحب الحياء قد صار منكسر القوة منغص الحياة لما يعتريه حينئذ من الانكسار والتغيير , كما يقال : هلك فلان حياء من كذا , ومات حياء وذاب حياء , ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء , وهكذا . ويقال : تحيي فلان من فلان انقبض وانزوى , لأن من شأن صاحب الحياء أن ينقبض .
وقد وردت في تعريف الحياء عبارات كثيرة , ولكنها متقاربة المعاني , فقيل : الحياء انقباض النفس عن القبيح وتركه لذلك . وقيل : الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح . وقيل : الحياء انفعال النفس وتألمها من النقص والقبيح بغريزة حب الكمال . وقيل : الحياء انكسار وتغير في النفس يلم بها إذا نسب اليها او عرض لها فعل تعتقد قبحه , فالرجل يستحي ان يفعل كذا , اي تنكسر نفسه فتنقبض عن فعله ويقال : استحيا من عمل كذا اي انفعلت نفسه وتألمت حين عرض عليه ان يفعله , فرآه شيئاً ونقصا.
وضد الحياء الوقاحة , وقد يقابل الحياء بالبذاء , ومن ذلك الحديث القائل : \" الحياء من الايمان , والايمان في الجنة , والبذاء من الجفاء , والجفاء في النار \".
والبذاء هو المفاحشة , ولذلك يقابل الحياء ايضاً بالفحش , كما في الحديث القائل : \" ما كان الفحش في شيء إلا شانه , وما كان الحياء إلا زانه \".وقالت السيدة عائشة :\" لو كان الحياء رجلا لكان رجلا صالحا , ولو كان الفحش رجلا لكان رجلا سوءاً \".
والحياء خلق من مكارم الأخلاق , يدل على طهارة النفس , وحياة الضمير , ويقظة الوازع الديني , ومراقبة الله عز وجل . وقد يختلط الحياء عند كثير من الناس بالجبن , مع ان هناك فرقا واسعاً بينهما , فالحياء تورع عن عمل او قوة لا يليق بالكريم , وأما الجبن فتقاعس عن واجب يلزم ان ينهض الانسان اليه ويقوم به, والحياء ليس ضعفاً او نقصاً , والمعيب في هذا المجال هو الاسراف في صفة الحياء حتى يضعف صاحبها عن الاقدام على الشيء الحسن النافع خوفاً من الذم .
والحياء خلق من أخلاق القرآن , فقد ذكر الله تبارك وتعالى مادة \" الحياء \" في ثلاثة مواطن , فقال في سورة البقرة :\" إن الله لايستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها \". وقال في سورة الاحزاب :\" يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا ان يؤذن لكم الى طعام غير ناظرين إناه , ولكن إذا دعيتم فادخلوا , فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث , ان ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم , والله لايستحي من الحق :. وقال في سورة القصص : فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن ابي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا \".
وقد تعرض المفسرون لمعنى الحياء او الاستحياء في هذه الآيات , فقالوا في معنى الآية الأولى :\" ان الله لا يستحي \": اي لايدع ولا يترك و لايمتنع , لأن الانسان اذا استحيا من شيء تركه وامتنع عنه , وقيل : إن المعنى هو ان الشيء الذي يستحي منه يكون قبيحا في نفسه , ويكون لفاعله عيب في فعله , فاخبر الله تعالى بأن ضرب الأمثال ليس بقبيح و لا بعيب حتى يستحس منه.
وقالوا في الآية الثانية : \" فجاءته إحداهما تمشي على استحياء \" إن المعنى هو انها جاءت نحوه وقد سترت وجهها بثوبها , أو بيدها , او جاءت ماشية على بعد مائلة عن الرجال , او جاءته وهي على إجلال له وإكبار .
وقالوا في الآية الثالثة :\" إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق \" ان هذه الآية قد نزلت في شأن قوم كانوا يتحينون وقت اطعام النبي ( ص ) , فيدخلون بيته , ويقعدون منتظرين إدراك الطعام , ثم يأخذ بعضهم يحدث بعضاً مطيلين الدار عليه وعلى اهله , ولصرفه عن شؤونه , وكان النبي يستحي من دعوتهم الى الخروج , ولكن الله تعالى لا يترك التنبيه على ذلك لأنه الحق .
ومن هذا الاستعراض السريع لآيات الحياء في القرآن الكريم نفهم ان الحياء جاء مرة منسوبا الى الله عز وجل , ومرة منسوبا الى رسول الله على كل احواله واموره , فإن استحضار ذلك في نفس المؤمن يجعلها متجملة بالحياء والحشمة , كقوله تعالى :\" إنه عليم بذات الصدور , ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير \".وقوله \" ألم يعلم بأن الله يرى \".وقوله :\" يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور \".وقوله :\" ان الله كان عليكم رقيبا \" وقوله :\" وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعلمون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً اذ تفيضون فيه , وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا اصغر من ذلك ولا اكبر إلا في كتاب مبين \". وقوله :\" ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم , ولا أدنى من ذلك ولا اكثر إلا هو معهم اينما كانوا , ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة , إن الله بكل شيء عليم \".
وخلق الحياء وثيق الصلة بيقظة الضمير , ويقظة الضمير وثيقة الصلة بحياة القلب وصفائه , ولذلك يرى ابن القيم أن الحياء من الحياة , وعلى حسب حياة القلب يكون فيه خلق الحياء , وان قلة الحياء من موت القلب والروح , فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم .
ولقد عُني رسول الله ( ص ) بخلق الحياء , وأكد التنويه به والرفع من مكانته , فجعل الحياء وثيق الارتباط بالايمان , فقال :\" الحياء شعبة من شعب الايمان \", وقال :\" أن الحياء والايمان في قرن , فإذا سلب احدهما تبعه الآخر \". ورأى النبي ( ص ) رجلاً يعاتب آخر بشأن الحياء فقال له :\" دعه فإن الحياء من الايمان \". وكأن الرسول ( ص ) قد جعل الحياء من الايمان لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي , فصار كالايمان الذي يحول بين الانسان وهذه المعاصي , ولعل هذا هو الذي جعل الرسول ( ص ) يقول :\" استحيوا من الله حق الحياء \"وحينما قال الصحابة :إنا نستحي من الله يا رسول الله والحمد لله أجابهم قائلا :\" ليس ذاك , ولكن الاستحياء من الله حق الحياء ان تحفظ الرأس وما وعى , والبطن وما حوى , وتذكر الموت والبلى , ومن اراد الآخرة ترك زينة الدنيا , وآثر الآخرة على الأولى \".
وإذا تحقق الحياء عند الانسان بالصورة التي رسمها هذا الحديث الشريف فإن الحياء يصد صاحبه عن كل قبيح , ويصله بكل جميل , وبهذا يتحقق قول الرسول:\" الحياء لايأتي إلا بخير \".وبهذا ايضا نفهم بوضوح : لماذا قال رسول الله ( ص ) :\" إن لكل دين خُلقا , وخُلق الاسلام الحياء \" . ولو تدبر العاقل امر الحياء لأدرك في يسر ان الحياء لو لم يكن خُلقا قرآنيا اسلاميا .يأمر به الله تبارك وتعالى ويدعو اليه رسوله ( ص ) , لكان امراً من أمور الفطرة الانسانية الصافية , وطبيعة من طبائع البشرية الطاهرة .
والحياء من ناحية متعلقة يكون على ثلاثة أوجه , حياء من الله , وحياء من الناس وحياء المرء من نفسه , ولابد من هذه الأوجه الثلاثة لكي يكمل الحياء , ويتحقق على وجهه التام , لأن من استحيا من الله تعالى ولم يستحي من الناس فقد استهان بالناس , ومن استحيا من الناس ولم يستحي من الله فقد استهان بالله جل جلاله , ومن استحيا من الناس ولم يستحي من نفسه , هانت عليه نفسه , ومن هانت عليه , لم يكن أهلاً لمكارم الأخلاق .
ومظاهر الحياء كثيرة , وأنواعه عديدة , فهناك الحياء من الذنب , وهو الشعور الذي يعتري نفس المذنب , فيخجل من ذنبه ويستحي , والحياء من التقصير , وهو أن يفعل الانسان خيراً , ولكنه يراه دون ما ينبغي فيستحي , وحياء الإكبار , وهو استحياء الصغير من الكبير الجليل , وحياء الاحتشام , وهو خجل الانسان من التبسط في الكلام مع من يهابه , وحياء الكرم , وهو استحياء الرجل الكريم إذا أعطى وأحس بان ما أعطاه دون ما ينبغي , وحياء المحبة , وهو استحياء المحب من محبوبه , على حد قول القائل :
أهابك إجلالا , ومابك قدرة علي , ولكن ملء عين حبيبها وهناك الحياء البليغ الرائع , وهو استحياء الانسان من نفسه , ومن اكتفائها بما تستطيع أن تبلغ أعلى منه , وهذا اشرف أنواع الحياء , لأن المرء إذا استحيا من نفسه فهو من غيره يكون أشد استحياء , وقد توسع ابن القيم في الحديث عن أنواع الحياء .
ومما جاء في السنة المطهرة قول رسول الله ( ص ) :\" إذا لم تستح فاصنع ماشئت \". ولذلك الحديث تفسيران : الأول منهما أن ذلك أمر تهديد ووعيد , أي إذا لم تستح من العيب , ولم تخش العار مما تفعله , فافعل كل ماتحدثك به نفسك من أهوائها وأغراضها , حسنا كان أم قبيحاً .ويكون التقدير : من لم يستح صنع ما شاء , وهذا توبيخ وتبكيت , وإن كان لفظه وظاهره الأمر , وفيه تنبيه على أن الذي يصد الانسان عن إتيان السيئات هو الحياء , فإذا تجرد عن الحياء صار كانه مامور بارتكاب كل ضلالة , واقتراف كل سيئة , وهذا التفسير المشهور الظاهر .
والتفسير الآخر للحديث هو أن ذلك أمر إباحة . إذا كنت في فعلك آمنا أن تستحي منه , لأنه لاعيب فيه ولا سوء , ولأنك تلتزم الصواب في فعلك , فاصنع ما شئت , فأنت آمن من العقاب والعتاب , ويكون التقدير : انظر الى الفعل الذي تريد أن تفعله فإن كان طيباً لا يستحي منه فلا عليك أن تفعله .
وبعض أهل السوء يتوقحون ويتبجحون فيقولون نحن لايهمنا الناس , ويرتكبون من الأخطاء ما يرتكبون دون أن يستحوا , وكانهم قد خلعوا برقع الحياء عن وجوههم , وقد يتعللون فيقولون إن الخجل من الناس لون من الرياء أو التصنع , وعلى هذا الأساس لا يقيمون للناس وزناً , فيأتون من السيئات ما يريدون بلا وازع ولا رادع , مع أن الرسول ( ص ) يقول :\" من لايستحي من الناس لا يستحي من الله تعالى \".
ولقد هدد الرسول الكريم كل من يتنكر لخلق الحياء فقال :\" من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له \".وقال :\" إن الله إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء , فإذا نزع منه الحياء لم تلفه إلا مقيتاً ممقتاً , فإذا لم تلفه إلا مقيتاً ممقتاً نزعت منه الامانة , فإذا نزعت منه الامانة لم تلفه إلا خائناً مخوناً نزعت منه الرحمة , فإذا نزعت منه الرحمة لم تلفه إلا رجيما ملعناً نزعت منه ربقة الاسلام \".والربقة في الأصل العروة , ويراد بها هنا أحكام الإسلام وأوامره .
وقد ورد وصف الله جل جلاله بالحياء , فجاء في السنة :\" إن الله تعالى حيي ستير , يجب الحياء والستر , فإذا اغتسل أحدكم فليستتر \". وجاء فيها :\" إن الله تعالى حيي وكريم , يستحي إذا رفع الرجل يديه أن يردهما صفراً \" أي خاليتين , وجاء فيها :\" إن الله تعالى يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه \". ولكن الحياء في حق الله تعالى لايجوز بالمعنى البشري ,وهو انقباض النفس , لأن ذلك تغير يلحق البدن , وذلك لا يعقل إلا في الجسم , وهذا مستحيل في حق الله تعالى , إذ هو منزه عن الانتصاف به , فإذا جاء وصف الله تعالى بالحياء يكون معناه ترك الفعل القبيح .ويقول ابن القيم :\" وأما حياء الرب تعالى من عبده فذلك نوع آخر , لاتدركه الأفهام , ولاتكيفه العقول , فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال \".
ولقد كان رسول الله ( ص ) مثلاً أعلى في الحياء , حتى قيل في وصفه إنه .كان أشد حياء من العذراء في خدرها , وذلك في غير حقوق الله وتبعات الدعوة ومواطن الحق .
وللصوفية مذهبهم في الحياء , فهم يرون – كما يذكر الإمام الهروي – أن الحياء من أول مدارج الخصوص , وهو على ثلاث درجات , فالدرجة الأولى هي الحياء الذي يتولد من علم البعد بأن الله ناظر اليه , فيدعوه ذلك الى الدأب في الطاعة والنفور من المعصية , والدرجة الثانية الحياء الذي يتولد في العبد عند شعور قلبه بأن الله تعالى معه , وأنه مع الله , وأن الله قريب منه بالإجابة والإثابة ,( والدرجة الثالثة هي الحياء الناشيء من انخلاع قلب العابد من التعلق بالكائنات , وعكوفه على رب البريات بحيث لا يرى المرء مع الله غيره , ولا يخطر بباله في تلك الحالة سواه .)
والصوفية في حديثهم عن الحياء يركزون جُل عنايتهم في الحياء من الله تبارك وتعالى , وها هو ذا الجنيد شيخهم يقول :\" الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير , فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء , وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح , ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق \". ويقول ذو النون :\" الحياء وجود الهيبة في القلب , مع وحشة ما سبق منك الى ربك \" ويقول السري : \" إن الحياء والأنس يطرقان القلب فإن وجدا فيه الزهد والورع أقاما فيه وإلا رحلا\"
ويرى الصوفية أن القلب إذا حرم الحياء أصبح لا خير فيه , ولذلك يقول أحدهم :\" أحيوا الحياء بمجالسة من يستحي منه , وعمارة القلب بالهيبة والحياء , فإذا ذهب من القلب لم يبق فيه خير \", ويجعل الفضيل قلة الحياء أحد خمسة أسباب للشقوة فيقول :\" خمس من علامات الشقوة : القسوة في القلب , وجمود العين , وقلة الحياء , والرغبة في الدنيا , وطول الأمل \".وهذا أحد الأئمة يقول :
هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق حياء العباد من المنعم ؟
بقيت بعد ذلك عبارة مثيرة يقول فيها يحيى بن معاذ :\" من استحيى من الله مطيعاً استحيى الله منه وهو مذنب \". ولنترك ابن قيم الجوزية يشرح هذه العبارة ويفسرها بقوله :\" من غلب عليه خلق الحياء من الله تعالى حتى في حال طاعته , فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستح خجل , فإنه إذا واقع ذنباً استحيى من الله عز وجل من نظره اليه في تلك الحالة لكرامته عليه, فيستحيي أن يرى من وليه ومن يكرم عليه ما يشينه عنده , وفي المشاهد شاهد بذلك , فإن الرجل إذا اطلع على أخص الناس به , وأحبهم اليه , وأقربهم اليه – من صاحب أو ولد أو من يحبه – وهو يخونه , فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع عليه حياء عجيب , حتى كأنه هو الجاني , وهذا غاية الكرم \".
نسأل الله جلت قدرنه أن يجملنا بخلق الحياء منه , إنه أكرم مسؤول وأفضل مأمول .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

القياس في المذاهب
أم البنين دوحة الايمان و الكرامات
ذكرى استشهاد السيدة أم البنين (عليها السلام)
زيارة أم البنين عليها السلام
آيات ومعجزات خاصة بالمهدي المنتظر
الحياء شعبة من شعب الايمان
السرّ الثاني معرفة الإمام (عليه السلام) جوهر ...
مکانة الرسول الأکرم عند الله
استشهاد النبي الرسول محمد(ص) اغتيالا بالسم
الإسلام والحياد

 
user comment