يقسم المنهج تقسيماً أولياً إلى قسمين، هما:
أ ـ المنهج التلقائي:
ويراد به ما يزاوله عامة الناس في تفكيرهم وأعمالهم من دون أن يكون هناك التفات منهم إليه، أو خطة واضحة ثابتة في أذهانهم له، وإنما يأتيهم عفواً ووفق ما يمليه الظرف.
وقد أشار إلى هذا مناطقة بورت رويال بقولهم: "إن عقلاً سليماً يستطيع أن يصل إلى الحقيقة في نطاق البحث الذي يقوم به، بدون أن يعرف قواعد الإستدلال".
ب ـ المنهج التأملي:
وهو ما نسميه ونصطلح عليه بالمنهج وسمي بالتأملي لأنه جاء نتيجة التأمل الفكري الذي أدى إلى وضع قواعده وأصوله.
وهو ينقسم إلى قسمين رئيسين، هما.
أ ـ المناهج العامة:
وتعرف بالمناهج المنطقية أيضاً.
ب ـ المناهج الخاصة:
وتسمى المناهج الفنية أيضاً.
المناهج العامة: هي تلكم القواعد المنهجية العامة التي يرجع إليها عند البحث في أي حقل من حقول نوع عام من أنواع المعرفة.
تقسيمها:
تنقسم المناهج العامة إلى الأقسام التالية:
1_ المنهج النقلي.
2_ المنهج العقلي.
3_ المنهج التجريبي.
4_ المنهج الوجداني.
المنهج النقلي:
المنهج النقلي: هو طريقة دراسة النصوص المنقولة.
ويقوم على العناصر العامة التالية:
1_ توثيق إسناد النص إلى قائله:
بمعنى التأكيد من صحة صدور النص من قائله.
ويتأتى هذا بالرجوع إلى المنهج الخاص في المجال المعرفي الخاص به، كعلم الرجال في دراسة أسانيد أحاديث الأحكام الفقهية، وتاريخ الرواة العاربة والحاضرة في دراسة اللغة والأدب.
2_ التحقق من سلامة النص:
بمعنى التأكد من أن النص لم يدخله التحريف أو التصحيف أو الزيد أو النقص أو ما إلى هذه، أي أنه سليم من هذه وكما قاله قائله.
3_ فهم مدلول النص:
ويتأتى هذا بالرجوع إلى الوسائل والأدوات العلمية المقرر استخدامها لذلك، وتعرف في ضوء المنهج الخاص بحقله المعرفي كعلم أصول الفقه بالنسبة إلى معرفة مداليل النصوص الفقهية من آيات وروايات.
ومجال استخدام هذا المنهج: كل معرفة مصدرها النقل.
المنهج العقلي:
المنهج العقلي: هو طريقة دراسة الأفكار والمبادئ العقلية.
ويقوم على قواعد علم المنطق الأرسطي، فيلتزم الحدود والرسوم في التعريف، والقياس والإستقراء والتمثيل في الإستدلال.
وقد عدّل فيه المناطقة المسلمون، فالتزموا في التعريف ما سموه ب (شرح الاسم)، وابتعدوا عن وجوب الأخذ بالحد والرسم، وعللوا هذا بعدم وجود فصول لحقائق الأشياء يمكن الوصول إليها ومعرفتها، وعليه يكتفي ب (الخاصة) وهي تعني ما يطلق عليه في البحوث العلمية التجريبية ب (الظاهرة).
كما أضافوا إلى مادة الإستقراء في كثير من مؤلفات المنطق الحديثة الطرق الخمس التي وضعها (جون استيوارت مل)، والتي تسمى (طرق الإستقراء) و(قوانين الإستقراء)، وموضوعاتٍ أخرى رأوا من اللازم اضافتها.
أما خطوات البحث، والتي يسميها هذا المنطق ب (حركة العقل بين المعلوم والمجهول)، وقد يطلقون عليها اسم (النظر) واسم (الفكر)، فيلخصها الشيخ المظفر في كتابه (المنطق) بقوله: "أن النظر ـ أو الفكر ـ المقصود منه: إجراء عملية عقلية في المعلومات الحاضرة لأجل الوصول إلى المطلوب.
والمطلوب: هو العلم بالمجهول الغائب.
وبتعبير آخر أدق: إن الفكر هو: حركة العقل بين المعلوم والمجهول.
وتحليل ذلك: أن الإنسان إذا واجه بعقله المشكل (المجهول) وعرف أنه من أي أنواع المجهولات هو، فزع عقله إلى المعلومات الحاضرة عنده، المناسبة لنوع المشكل، وعندئذ يبحث فيها، ويتردد بينها، بتوجيه النظر إليها، ويسعى إلى تنظيمها في الذهن، حتى يؤلف المعلومات التي تصلح لحل المشكل، فإذا استطاع ذلك، ووجد ما يؤلفه لتحصيل غرضه، تحرك عقله حينئذٍ منها إلى المطلوب، أعني معرفة المجهول وحل المشكل.
فتمر على العقل ـ إذن ـ بهذا التحليل خمسة أدوار:
1_ مواجهة المشكل (المجهول).
2_ معرفة نوع المشكل، فقد يواجه المشكل ولا يعرف نوعه.
3_ حركة العقل من المشكل إلى المعلومات المخزونة عنده.
4_ حركة العقل ـ ثانياً ـ بين المعلومات للفحص فيها، وتأليف ما يناسب المشكل ويصلح لحله.
5_ حركة العقل ـ ثالثاً ـ من المعلوم الذي استطاع تأليفه مما عنده إلى المطلوب.
ومنذ أن ترجم هذا المنطق من اليونانية إلى العربية عن طريق السريانية والفارسية، كما ولا يزال هو المنهج المعتمد في الدراسات الإسلامية، وبخاصة الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام وأصول الفقه.
ومد رواقه أيضاً على الدراسات اللغوية العربية فاعتمد إلى حد بعيد في علم النحو وعلوم البلاغة.
المنهج التجريبي:
المنهج التجريبي: هو طريقة دراسة الظواهر العلمية في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
ويعتبر المنهج التجريبي المنهج العلمي الحديث، وأهمَّ ما تمخضت عنه النهضة العلمية الحديثة في أوروبا من معطيات فكرية.
وكانت نشأة هذا المنهج العلمية قد تمت في القرن السابع عشر على يد (فرانسيس بيكون).
وقد ركز وأكد بيكون على "ضرورة تخليص العلم من شوائبه الدينية (كذا)، وضرورة إخضاعه بكلياته وجزئياته للملاحظة العلمية.
وبمعنى آخر: يجب أن يقوم العلم على أساس وضعي بعيد كل البعد عن كل تأثير ديني أو ميتافيزيقي".
ثم رست قواعد هذا المنهج رسواً وثيقاً ومكيناً في القرن التاسع عشر عندما أصدر (جون استيوارت مل) كتابه (مذهب المنطق).
وتم ـ من بعدُ ـ بسببه فصل العلم عن الفلسفة والدين، وقصر اعتماده على المنهج التجريبي فقط.
ويقوم هذا المنهج على الإستقراء عن طريق الملاحظة والتجربة.
ومجاله: المعرفة التي مصدرها الحس.
أما خطواته فكالتالي:
1_ تحديد المشكلة موضوع البحث.
2_ صياغة الفرضية، وهي مقولة مؤقتة عن صلة بين حادثتين أو أكثر، أو متحولين أو أكثر.
3_ إجراء الملاحظة أو التجربة.
4_ النتيجة.
وقوانين الإستقراء التي وضعها جون استيوارت مل لضبط عمليات البحث التجريبي لتؤدي إلى نتائج سليمة ومعرفة علمية صحيحة، هي:
1_ منهج الإتفاق Method of agreement:
ومفاده: أن ننظر في مجموع الأحوال المولّدة لظاهرةٍ ما نريد دراسة أسبابها.
فإذا وجدنا أن هناك عاملاً واحداً يظل موجوداً باستمرار على الرغم من تغير بقية العناصر أو المقومات، فيجب أن نعد هذا الشيء الثابت الواحد هو علة حدوث هذه الظاهرة.
ويضرب لهذا مثالاً: (ظاهرة الندى)، فإن هذه الظاهرة تحدث أولاً حينما ينفخ الإنسان بفيه على جسم متبرد مثل لوح من الزجاج في يوم بارد.
ونجد هذه الظاهرة أيضاً على السطوح الخارجية لزجاجات تستخرج من بئر.
كما نجدها ثالثاً حين نأتي بإناء فيه ماء بارد ونضعه في مكان دافئ.
ففي كل هذه الأحوال نجد أنه على الرغم من اختلاف العناصر التي تتركب منها الظاهرة، من نفخ على جسم بارد، أو سطح قارورة بها ماء يستخرج من بئر، أو سطح زجاجة مملوءة ثلجاً أدخلت في مكان دافئ، فإن ثمت عاملاً واحداً موجوداً باستمرار هو اختلاف درجة الحرارة بين الجسم وبين الوسط الخارجي أو الشيء المماس.
فنستنتج من هذا أن السبب في حدوث ظاهرة الندى هو الإختلاف في درجة الحرارة بين الجسم والوسط المماس له.
2_ منهج الإفتراق Method of difference.
ولكي نتأكد من صحة الإستنتاج وفقاً للمنهج السابق ـ منهج الإتفاق ـ لابد أن نأتي بمنهج مضاد في الصورة، لكنه مؤيد في النتيجة، فنجري ما يسمى بالبرهان العكسي.
هذا المنهج يسمى منهج الإفتراق.
ويقول: إذا اتفقت مجموعتان من الأحداث من جميع الوجوه إلاّ وجهاً واحداً، فتغيّرت النتيجة من مجرد اختلال هذا الوجه الواحد، فإن ثمت صلة عليّة بين هذا الوجه وبين الظاهرة الناتجة.
ونسوق مثالاً لذلك تجربة أجراها (پاستير) لمعرفة سبب الإختمار، فقد أخذ پاستير قنينتين ووضعهما في برميل واحد في درجة حرارة واحدة، وكان في كلتا القنينتين نفس السائل، وأغلق فوهة إحداهما، بينما ترك فوهة الأخرى مفتوحة، فتبين له بعد مدة من الزمن أن السائل في القنينة المفتوحة تغيّر وحدث فيه اختمار، بينما نفس السائل في القنينة المغلقة الفوهة لم يتغيّر ولم يحدث فيه إختمار.
فاستنتج من هذا أن كون فوهة إحدى القنينتين قد تركت مفتوحة، بينما بقيت الأخرى محكمة الإغلاق هو السبب في حدوث الإختمار.
ومعنى هذا أن الهواء هو السبب في حدوث الإختمار، وذلك لأن يحتوي على جراثيم دخلت السائل فأحدثت هذا الإختمار.
3_ منهج التغيرات المساوقةMethod of concomitant variations:
ويمكن أن يسمى أيضاً باسم (منهج المتغيرات المتضايفة) أو(التغيرات المساوقة النسبية).
يقول هذا المنهج: إننا لو أتينا بسلسلتين من الظواهر فيها مقدمات ونتائج، وكان التغير في المقدمات في كلتا السلسلتين من الظواهر ينتج تغيراً في النتائج في كلتا السلسلتين كذلك، وبنسبة معينة، فلابد أن تكون ثمت صلة عليّة بين المقدمات وبين النتائج.
مثال ذلك: ما فعله پاستير أيضاً حين أتى بعشرين زجاجة مملوءة بسائل في درجة الغليان، فوجد في الريف أن ثماني زجاجات فقط هي التي تغيرت لما أن فتح أفواهها.
وفي المرتفعات الدنيا تبين له أن خمساً منها تغيرت بعد فتحها.
وفي أعلى قمة جبل لم يتغير منها غير زجاجة واحدة.
ولما أتى بالزجاجات العشرين إلى غرفة مقفلة أثير غبارها وفتح فوهاتها تغيرت الزجاجات العشرون كلها.
فاستنتج من هذا أن تغير الجو قد أحدث تغيراً في حدوث الإختمار إذ الجراثيم أكثر في غرفة أثير غبارها، وأقل من ذلك في الريف، وأقل من هذا في سفح جبل، وأقل جداً في قمة جبل عالٍ.
4_ المنهج المشترك (للإتفاق والإفتراق)The joint Method of agreement and difference:
ويصوغه (مل) هكذا: "إذا كان شاهدان أو أكثر من الشواهد التي تتجلى فيها الظاهرة تشترك في ظرف واحد، بينما شاهدان أو أكثر من الشواهد التي لا تتجلى فيها الظاهرة ليس فيها شيء مشترك غير الخلو من هذا الظرف، فإن هذا الظرف الذي فيه وحده تختلف مجموعتا الشواهد هو المعلول أو العلة أو جزء لا غنى عنه من الظاهرة".
5_ منهج البواقي Method of residues:
وهو منهج للتكهن بالعلة استنتاجاً من فحص موقف يحتوي على ظاهرة واحدة بقي علينا أن نفسرها.
وهذا المنهج يتضمن تطبيقاً لمبدأ الإفتراق ابتداء من المعلول لنكتشف العلة.
فمثلاً: إذا كان معلوماً أن المعلولA يفسره X، وأن X لها مفعول كامل في A، فإنه إذا حدثتA مصحوبة ب B فإنه ينتج عن مبدأ الإفتراق أن شيئاً آخر غير X هو علة B.
ومن الأمثلة المشهورة على هذا المنهج التجربة التي قام بها الفيزيائي الفرنسي الشهير (أراجوArago) حين جاء بإبرة ممغطسة وعلقها في خيط من الحرير، وحرّك الإبرة، فإنه وجد أنها تصل إلى حالة السكون على نحو أسرع لو وضعنا تحتها لوحة من النحاس، مما لو لم نضع مثل هذه اللوحة.
فتساءل: ربما كانت ظاهرة زيادة الإسراع إلى السكون راجعة إلى مقاومة الهواء، أو طبيعة مادة الخيط، لكن تأثير هذين العاملين: الهواء ونوع الخيط، كان معروفاً بالدقة مع عدم وجود لوحة النحاس، فالعنصر الباقي وهو لوحة النحاس هو ـ إذن ـ العلة في زيادة الإسراع إلى السكون".
ونستخلص من هذا:
1_ أن استيوارت مل اعتمد في وضع قوانينه الخمسة المذكورة على (مبدأ العليّة) و(مبدأ الإطراد في الحوادث).
2_ يريد بمنهج الإتفاق: التلازم في الوجود بين العلة والمعلول، بمعنى أنه إذا وجدت العلة وجد المعلول.
3_ يريد بمنهج الإفتراق: التلازم في العدم بين العلة والمعلول، بمعنى أنه إذا عُدمت عُدم المعلول.
وبتعبير آخر: إذا لم توجد العلة لم يوجد المعلول.
4_ يريد بالمنهج المشترك: أن العلة إذا وجدت وجد المعلول، وإذا عُدمت عدم المعلول.
5_ يريد بمنهج التغيرات المتساوقة: أن أي تغير يحدث في العلة لابد أن يحدث في المعلول.
6_ يريد بمنهج البواقي: أن علة الشيء لا تكون علة ـ في الوقت نفسه ـ علة لشيء آخر مختلف عنه.
المنهج الوجداني:
المنهج الوجداني: هو طريقة الوصول إلى معارف التصوف والأفكار العرفانية.
والوجدان ـ هنا ـ يوازي الحصول، ذلك أن الحصول على المعرفة يعني إعمال الفكر والروية، بينما الوجدان يعني وجود المعرفة من غير إعمالٍ لفكرٍ أو روية.
وهو نوع من الإلهام معتضداً بالنصوص المنقولة في إطار ما تؤّول به على اعتبار أن دلالتها من نوع الإشارة لا من نوع العبارة.
ويعتمد فيه على الرياضة الروحية بغية أن تسمو النفس فترتفع إلى مستوى الأهلية والإستعداد الكافي لأن تلهم ما تهدف إليه.
قال الغزالي: "والقلب مثل الحوض، والعلم مثل الماء، وتكون الحواس الخمس مثل الأنهار، وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والإعتبار والمشاهدات حتى يمتلئ علماً.
ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر، ويعمد إلى عمق القلب بتطهيره، ورفع طبقات الحجب عنه حتى تتفجر ينابيع العلم من داخله".
ويستخدم هذا المنهج في علم العرفان وعلم التصوف.
------------------------------------------
source : البلاغ