إن استمرار اللسان المعرب لا يضمن بحال استمرار النزوع إلى الوحدة. تدل على ذلك تجارب مجتمعات غير عربية وأحداث السنوات الأخيرة في الوطن العربي نفسه. يجب في نظري قلب العلاقة بين اللسان والوعي الوحدوي. إن الاتجاه نحو الوحدة شرط التعريب في معناه الشامل، أي خلق لسان عربي حديث جماهيري وعلمي.
لا يشك أحد أن الرصيد اللغوي المشترك كان الباعث على بزوغ وانتشار فكرة الوحدة، بدليل الرقعة الجغرافية التي ازدهرت فيها. لكن هذه العلاقة عفوية تماماً، ليس فيها شيء ضروري. ألم نشاهد انبثاق حركة وحدوية ناجحة نسبياً في أفريقيا وأوروبا مع انعدام إرث لغوي مشترك؟ ألم نر إخفاق توحيد جنوب أميركا مع وجود لغة مشتركة حية ومتطورة؟ لا يكتب النجاح لأي حركة وحدوية، إذا لم تتحقق مصلحة اقتصادية وإرادة سياسية، إذا لم يرتبط في أذهان الجماهير نجاحها بتحسين أحوال المعيشة، وإذا لم يدرك الجميع أن كيانهم رهن بوحدتهم نظراً لميزان القوى العالمي. إذا تحققت المصلحة الاقتصادية والضرورة العسكرية والسياسية وجدت الدعوة إلى الوحدة آذاناً صاغية، أكانت هناك لغة مشتركة أو لم تكن. لا شك أن وجودها يساعد على نشر الدعوة، إذا كانت وسائل الإعلام قليلة ومتأخرة، لكن هذا كل ما في الأمر.
عندما نفصل بين مستقبل الوحدة واستمرار اللسان المعرب، ننفلت من سحر هذا الأخير، ولا نعود نفكر بالتعريب كفرض ذاك اللسان المعرب في صورته الحالية على جميع الفئات لاستئصال اللهجات واللغات الإصطلاحية واللسان الأجنبي، فنبدأ ننظر إلى التعريب كعمليتين متلازمتين: طرد اللسان الأجنبي من المجال القومي وإصلاح اللسان المعرب ليحل محله. وذلك بإعادة العلاقات العضوية بينه وبين اللهجات واللغات. إذا اقتنعنا بأن الوحدة متأصلة في شيء أكثر التصاقاً بالواقع المحلي والعالمي من الإرث اللغوي المشترك، أصبحنا قادرين على قبول أي تحول في اللسان يفرضه التطور دون إشفاق على مستقبل الوحدة.
لقد أثبتت تجربة الثلاثين سنة الماضية حقيقتين:
أولاً: إن المحافظة على اللسان المعرب كقاسم مشترك لا يساعد على تعميق الوعي الوحدوي.
ثانياً: إن اللسان المعرب، في صورته المكتوبة الحالية، لا يساعد على بلورة ونشر ثقافة جماهيرية عصرية. أمام هاتين الحقيقتين يتميز موقفان:
_ الموقف التقليدي الذي يرى أن اللسان المعرب هو آخر سلاح بيد الوحدويين، إذا سقط انهارت آمال الوحدة. لذا، يجب الدفاع عنه بكل وسيلة ومهما كان الثمن: يجب الحفاظ على الحروف والنحو والإعراب، يجب رفض آثار العامية والمصطلحات الأجنبية، يجب أن يغزو اللسان المعرب الشارع والمعهد والمصنع والمخبر، بعبارة أخرى، وباصطلاحنا الخاص، يجب أن تتغلب لغة النحاة على سائر اللغات الفئوية. هذا موقف رومانسي يصطدم يومياً بواقع المجتمع والتاريخ. يستحوذ على القلوب دون أن يقنع العقول.
_ أما الموقف الثاني فإنه ينطلق من بداهة الوحدة، المترتبة عن معطيات اقتصادية وسياسية وعسكرية، لا دخل للوضع الثقافي فيها. ومن ذلك المنطلق التاريخي _ الاجتماعي، ينظر إلى الموروث اللغوي، وبخاصة إلى اللسان المعرب، فيرى فيه جزءاً من هياكل التخلف والانهيار وكما نطالب بإصلاح وسائل الإنتاج وقانون الملكية والعائلة والتربية، نطالب في الوقت نفسه بإصلاح ذلك اللسان الموروث في حرفه وصرفه ونحوه. هناك أربعة قرارات: _التوحيد، النمو الاقتصادي، التنظيم الاجتماعي، الإصلاح اللغوي _ لا يمكن تقديم أو تأخير أحدها على الآخر. كلها تمثل وجهاً من وجوه الثورة القومية الشاملة، إذا سقط واحد منها سقط الكل. من الواضح أنه لا بد للعرب من أن يفكروا بكيفية حديثة _مع أنفسهم وبلسانهم لا مع غيرهم فقط وبلسان الغير _ لأنهم إذا لم يفكروا بكيفية حديثة كان نشاطهم غير اقتصادي، وإذا تأخروا اقتصادياً سقطوا فريسة للاستغلال وربما للاحتلال. إذاً السؤال الجدي المطروح هو: أي لسان يساعد على تحديث الفكر العربي: اللسان المعرب الموروث الجامد، أم لسان المستقبل الذي سيتطور بعد اتخاذ قرارات الإصلاح اللازمة؟ إني لا أدعو إلى اتخاذ لهجة عامية كلسان مقوعد وإنما أدعو إلى قبول فكرة الإصلاح، وما يترتب عنها من تطور حتمي في نطاق المنظومة اللغوية العربية. ولا أحد يمكن أن يتنبأ بنتيجة هذا التطور.
من هنا نرى استلزام القرار القومي وإصلاح اللسان، أو التعريب السياسي والتعريب اللغوي. لن يتم أي إصلاح في حالة غياب سلطة لها نفوذ على المجموعة القومية، أي في حالة لا يكون فيها القرار الوحدوي قد اتخذ ولم يبق في شأنه أي تردد. أما السلطات الخاضعة لمنطق الإقليمية، فإنها لن تجرؤ على تبني الإصلاح لأنها تعتمد الازدواجية سياسة. تحافظ على لسان محنط لتكسب قدراً من الشرعية، وتفتح المجال لنشر لسان أجنبي لتحقق قدراً من الشرعية، وتفتح المجال لنشر لسان أجنبي لتحقق قدراً من التحديث، وتترك الحرية للهجات لتضمن قدراً من الاستقرار الداخلي.
إن إصلاح اللسان، في كل مجتمع وفي كل زمان، أمر خطير. لا تقدم عليه إلاّ سلطة واثقة من شرعيتها، مطمئنة على مستقبلها. وحتى في ظل تلك السلطة يبقى في الأمر قدر كبير من المخاطرة يدعو إلى التفكير والرؤية قبل الشروع في التطبيق. لكن نفي المشكل، معارضة الإصلاح، ترك ما كان على ما كان.. هذه مواقف جربناها في الماضي، فلم ينتج عنها سوى مضاعفة المشاكل وخلق ظروف الاحتلال والاستغلال.
------------------------------
source : البلاغ