العنوان الثاني
وليس المراد بيان صفات الإمامة فإنها مما لا تصل العقول إلى كنهها ، ولا يحيط ببيانها الأرقام ولا الأقلام ، ويلزم على كل مكلف معرفتها إجمالا للمعرفة بحق الأئمة (ع) ، ولا بيان محض صفاته الممتاز فيها أيضا
إنما المقصود بيان خصوصية في صفات خاصة
وعبادات خاصة وهي على قسمين :
الأول : صفات مطلقة ، وعبادات مطلقة له على مدة الحياة .
الثاني : خصوصية لتلك الصفات، وخصوصية للعبادة في يوم الطف فكل من هذين عنوان مستقل ، وهذا العنوان لبيان خصائصه الدائمة ، وخصوصيات له في صفات خاصة ثابتة له مدة عمره .
فنقول :
منها : إباء الضيم : فله نحو خاص به ، قال (ع) لما أرادوا منه النزول على حكم يزيد ، وابن زياد : " لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا اقر إقرار العبيد. " بل يقال : انه سن اباء الضيم وأن أباة الضيم يتأسون به .
ومنها : الشجاعة : ولها كيفية خاصة به ، ولذا قيل : الشجاعة الحسينية ، فقد ظهرت منه في يوم الطف في حالته ، شجاعة ما ظهرت من احد أبدا ، ولم يتفق مثلها حتى لوالده الكرار (ع) ولا لغيره من المعروفين بهذه الصفة .
ومنها : العبادة : فله منها خصوصية هي أنه اشتغل بها في بطن أمه ، فكانت تسمع منه الذكر والتسبيح إلى إن رُفع رأسه على الرمح ، وسُمع منه الذكر وقراءة القران ، وهذه الخصوصية زائدة على ما قاله السجاد (ع) حين قيل ما اقلّ ولد أبيك ؟ قال : العجب كيف وُلدت له ، كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة.
ومنها : مراعاة الحقوق : فقد علّم عبدالرحمن السلمي ولد الحسين عليه السلام سورة الحمد ، فلما قراءها على أبيه أعطاه ألف دينار وألف حلة وحشا فاه درا وقال : أين يقع هذا من حقه .
ومنها : العطاء للسائلين : فله (ع) خصوصية وهي الحياء عند العطاء ، فالناس تعرض لهم حالة رد السائل وهو (ع) له حالات عجيبة تعرض له عندما يريد أن يعطيه سؤله ، وتراه يرق على السائل بسبب الذل العارض له ، حين إعطائه له لا لفقره واحتياجه وصعوبة ذلك ، بل لأجل السائل وحيائه منه .
فمن ذلك قضية الأعرابي الذي سأله فدخل البيت وشد له أربعة آلاف درهم في ردائه فأخرجها له من شق الباب حياء من حين أراد إن يعطيه ثم انشد عليه السلام قائلا :
خذها فاني إليك معتذر*** واعلم باني عليك ذو شفقة
لو كان في سيرنا الغذاة عصا*** أمست سحابا عليك مندفقة
لكن ريب الزمان ذو غيّر*** والكف مني قليلة النفقة
ومن هذه الخصوصية : أنه أعطى لسائل أتى إليه ألفا فأخذها ينقدها فقال الخازن : بعتنا شيئا ؟ قال : ماء وجهي فقال الحسين عليه السلام صدق ، أعطه ألفا وألفا وألفا ، الأول لسؤالك ، والألف الثاني لماء وجهك ، والألف الثالث ، لأنك أتيتنا وأعطاه رجل رقعة فقال له : حاجتك مقضيه قبل قراءتها . فقيل له : هلا رأيت ما فيها ! قال عليه السلام : " يسألني الله تعالى عن وقوفه بين يدي حتى أقراها " وهذه الصفة الخاصة قد بلغت فيه بحيث انه يستحي من ذل الجاهل حين يريد أن يعلمه ، لا محض ذل السائل حين يريد أن يعطيه .
كما ورد في الرواية : انه رأى رجلا لا يحسن الوضوء ، فأراد أن يعلمه فاستحى من ذله حين يتعلم ، فقال لأخيه ، نحن نتوضأ قدامه ثم نسأله أي الوضوءين أحسن ؟ ففعلا ذلك ، فقال الإعرابي : كلاكما تحسنان الوضوء ، وأنا الجاهل الذي لا أعرف .
ومنها : رقة خاصة له على أهل الهموم والغموم : حتى انه دخل على أسامة بن زيد وهو محتضر ليعوده ، فتأوه أمامه ، فقال : واغماه ، فقال (ع) ما غمك يا أخي ؟ فقال : ديّن علي ستون ألفا ، فقال (ع) : علي قضاؤها ، قال : أحب أن لا أموت مديونا ، فأمر عليه السلام بإحضار المال ودفعه إلى غرمائه قبل خروج روحه .
ومنها : الصدقات : فقد تحققت منه خصوصية فيها ، ما سمعتها من غيره ، وذلك إنهم رأوا في ظهره يوم الطف ثفنات ، فسئل السجاد (ع) عنها ، فقال (ع) " إن ذلك مما كان ينقله في الليل على ظهره للأرامل والأيتام المساكين ، قال الراثي:
وان ظهرا غدا للبر ينقله
سرا إلى أهله ليلا لمكسور
ومنها : شدة عزم وحزم خاص في التخليص من عذاب الله : ولذا اختار اشد التكاليف ليفوز بدرجة خاصة تؤثر شفاعته في المستوجبين للعقاب ، وليس مقصودي بيان ذلك خاصة، إنما غرضي كيفية اهتمامه بذلك حتى في حفظ أعدائه عن ذلك بالسعي في رفع العذاب عنهم ، حتى أنه لما أتى إليه من أتى لقطع الرأس تبسم (ع) في وجهه ثم وعظه ، وإذا رأى أنه لا يفيد فيهم التخليص الكلي كان يسعى لهم في التخفيف ، كما في قضية هرثمة بن أبي مسلم لما لم تنجع فيه الموعظة ، قال : فامض حيث لا ترى لنا مقتلا ، ولا تسمع لنا صوتا ، وكذلك للجعفي ، كما سيجيء .
ومنها : شدة خوفه من ربه تبارك وتعالى : ولقد كان بحيث إذا توضأ ، تغير لونه وارتعدت مفاصله ، فقيل له في ذلك ، فقال (ع) : حق لمؤمن يقف بين يدي المالك القهار أن يصفر لونه وترتعد مفاصله ، وقد تعجب الناس الذين شاهدوا حالته من شدة خوفه حتى أنهم قالوا : ما أعظم خوفك من ربك ، فقال (ع) : " لا يأمن يوم القيامة إلا من خاف الله في الدنيا "
أقول : فانظر إلى سيد الشهداء يريد الوضوء لعبادة الله كيف ترتعد فرائصه ويصفر لونه ، ونحن نشتغل بالكبائر الموبقة ، ولا يحصل لنا اضطراب بوجه من الوجوه ، فكيف ندّعي إن لنا في الحسين (ع) أسوة ، وهو يرتعد عند أفضل العبادادت ، ونحن لا تأخذنا أدنى واهمة عند اشد المعاصي ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن صفاته الخاصة : مدحه بالنسبة إلى المادحين ، فنقول ، قد مدحه الله تعالى في كتابه العزيز بمدائح : منها - انه النفس المطمئنة ، فكما هو متعارف عند الروايات انها نزلت في امامنا الحسين عليه السلام وانه من أبرز مصاديقها كما انها سورة امامنا الحسين عليه السلام ( يا أيتها النفس المطمئنة ) .
ومنها : انه كفل من رحمته ( اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ) .
ومنها : انه من أعلى أفراد الوالد الذي قضى ربك بالإحسان إليه ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) ، فهل أحسنت إلى هذا الوالد يوما ؟ ..
ومنها : انه قتل مظلوما غريبا ) ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) .
ومنها : انه ذبح عظيم ) وفديناه بذبح عظيم ) ومنها : ( كهيعص ) .
وقد سماه بأسماء :
الأول : الفجر، ( والفجر)
الثاني : الزيتون ، (والتين والزيتون )
الثالث: المرجان ، ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان )
وقد كتُب مدحه عن يمين العرش : " إن الحسين مصباح الهدى وسفينــة النجــاة " .. وقد مدحه في الأحاديث القدسية بمدائح :
منها :
ما في حديث وضع اليدين قال تعالى : " بورك من مولود عليه صلواتي ورحمتي وبركاتي " وقد وصفه بأنه : " نور أوليائي وحجتي على خلقي والذخيرة للعصاة " .. كما سيجيء تفصيله في عنوان الألطاف الخاصة .
وقد مدحه رسول الله المصطفى (ص) بمدائح عجيبة:
منها :
انه صلوات الله تعالى عليه وآله قال له يوما : مرحبا بك يا زين السموات والأرض ، وقال أبي بن كعيب : وهل غيرك زين السموات والارض ؟
قال (ص) : يا اُبي والذي بعثني بالحق نبيا إن الحسين بن علي (ع) في السموات أعظم مما في الأرض ، وقد كتب الله في يمين العرش :" إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة " ثم اخذ بيده وقال : أيها الناس هذا الحسين بن علي فاعرفوه وفضّلوه كما فضّله الله تعالى " ،، إلى غير ذلك من الأحاديث والروايات الكثيرة المستفيضة .
وقد مدحه جميع الأنبياء والملائكة ، وعباد الله الصالحين ، لكن خصوصيته في الممدوحية انه ممدوح الأولياء ، والأعداء . فقد اختص بمدح أعدائه له ، فقد مدحه معاوية في وصيته ليزيد ، ومدحه بن سعد في بعض أبياته ، ومدحه قتلته حين وقفوا لمبارزته وأشهدهم ، ومدحه شمر قاتله حين قال له : كفء كريم ليس القتل بيده عارا ، ومدحه سنان حين اشتغل بقتله فقال:
أقتلك اليوم ونفسي تعلم علما يقينا ليس فيه مكتم
ولا مجال لا ولاتكتم إن أباك خير من تكلم
ومدحه رافع رأسه حين جاء به إلى ابن زياد
فقال :
املأ ركابي فضة أو ذهبا إني قتلت السيد المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا وخيرهم إذ ينسبون نسبا
وقد مدحه يزيد في مجلسه حين دخلت عليه هند زوجته في مجلس عام حاسرة ، فغطاها فقال لعنه الله تعالى : اذهبي وابكي واعولي على الحسين صريخة قريش ، فقد عجل عليه ابن زياد ، * المصدر : مقتل الخوارزمي 2:74
فإذا كان قول عدوه الفاسق الفاجر يزيد : اعولي عليه فما بالكم ساكتون عن البكاء ، أما تنادون بالعويل على سيد شباب الجنان!
خاتمة * هذه نبذة من أوصافه ومدائحه ، وقد حاولت أمرا صعبا وأنى لي بمعرفة من قال (ص) في حقه بعد جميع ما تبين :
" اعرفوه وفضلوه كما فضله الله تعالى "
فلنقتصر على ذكر صفة خاصة من خصائصه ، وهي من فروع جميع الأضداد في صفاته ، وتلك الصفة الخاصة انه (ع) : موجب للحزن والسرور ، وانه سبب الأسف وسبب الفرح ، بيان ذلك : انه حيث كان سبب الحزن لكل مؤمن بالله تعالى ، ومن أول خلقه إلى يوم البعث لأسباب كثيرة قد اشرنا إلى بعضها ، وسنذكرها بل وقد صار سببا للحزن لأهل تلك النشأة التي هي ليست بدار حزن ، فجعله الله تعالى سبب الفرح والسرور لكل مؤمن جبرا له وفطرة ، وذلك بأن الله تعالى خلق الجنة والحور من نوره حين الاشتقاق من الأنوار كما في رواية عن انس بن مالك عن النبي المصطفى (ص) قال : " إن الله تعالى خلقني وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق ادم حين لا سماء مبنية ولا ارض مدحية ولا ظلمة ولا نور ولا شمس ولا قمر ولا جنة ولا نار."
فقال العباس : كيف كان بدءُ خلقكم ؟ فقال (ص) : يا عم لما أراد الله تعالى أن يخلقنا تكلم بكلمة ، خلق منها نورا ، ثم تكلم بكلمة أخرى خلق منها روحا ، ثم مزج النور بالروح فخلقني ، وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين ، فكنا نسبحه حين لا تسبيح ونتقدسه حين لا تقديس " ، فلما أراد الله تعالى أن ينشيء خلقه فتق نوري فخلق من العرش ، فالعرش من نوري ، ونوري من الله ، ونوري أفضل من العرش ، ثم فتق نور أخي ، فخلق منه الملائكة فالملائكة من نور علي ، وعلي أفضل من الملائكة ، ثم فتق نور ابنتي الزهراء ، فخلق منه السموات والأرض ، فالسموات والأرض من نور ابنتي فاطمة ، ونور ابنتي فاطمة من نور الله تعالى ، وابنتي فاطمة أفضل من السموات والأرض ، ثم فتق نور ولدي الحسن ، فخلق الشمس والقمر من نور ولدي الحسن ، ونور الحسن من نور الله تعالى ، والحسن أفضل من الشمس والقمر ، ففتق نور ولدي الحسين ، فخلق منه الجنة والحور العين ، فالجنة والحور العين من نور ولدي الحسين ، ونور ولدي الحسين من نور الله تعالى ، وولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين . "
والحسين عبرة كل مؤمــــن ، وفرحة كل مؤمـــن ، ومن العجائب : في هذه الخصوصية انه سبب الفرح به وهو الجنة والحور العين - قد صار سببا لعروض الحزن لها - فهو سبب الحزن حين تسبب السرور ، فان الجنة قد بكت عليه لما وقع طريحا ، والحور العين قد لطمت عليه في اعلي عليين . وأعجب من ذلك : انه حيث صار سببا لحزن الجنة ، صار سببا لفرجها أيضا ، فإنها قد طلبت من ربها إن يزينها فزّين الله تعالى أركانها بالحسن والحسين عليهما السلام ، فماست كما تميس العروس فرحا ، والحمد لله رب العالمين
______________________________________
انتهى العنوان الثاني
source : اهل بیت