المقدّمة:
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الاطهار وصحبه الابرار.
من الحقائق الثابتة في حركة الانسانية انّ الانسان يختلف مع أخيه الانسان، في كثير من القضايا، في الفكر وفي العاطفة وفي الممارسات العملية، وهذا الاختلاف ناجم عن الاختلاف في الطاقات والامكانات العقلية والنفسية والروحية، اضافة الى الاختلاف في التنشئة الاجتماعية والتربوية، واختلاف المحيط الاسري والاجتماعي الذي يحيط بالانسان.
والاختلاف أمر طبيعي يحكم به العقل والمنطق السليم والتجربة التاريخية لحركة الأمم والاديان وخصوصاً حركة الامة الاسلامية منذ الصدر الأول للاسلام الى يومنا هذا، والاختلاف القائم على أسس موضوعية لا محذور فيه ما دام واقعاً في طريق البحث عن الحقيقة عن الرأي الأسلم والموقف الاصوب، بل قد يكون عاملاً مساعداً للفعالية والنشاط والحركة الدؤوبة لتحقيق الاهداف الكبرى الآنية والمستقبلية، ويبقى الاختلاف ظاهرة صحيحة وسليمة اذا كان مؤدياً للتنافس المشروع، ويتحول الى داء خطير ان اصبحت المنافع الضيقة والمصالح الذاتية هي المحرك الاساسي له، ويصبح مرضاً قاتلاً ان تحكمت فيه الأهواء والأمزجة بعيداً عن المقاييس والمعايير الثابتة.
وفي هذا البحث نرى انّ الاختلاف بين أئمة أهل البيت وائمة المذاهب الاسلامية كان ظاهرة طبيعية لاختلافهم في المستويات العقلية، واختلافهم في النشئة الاجتماعية، واختلافهم في ظروف التلّقي والتعلّم، واختلافهم في تأثير العامل الوراثي على شخصياتهم، ومع هذا الاختلاف هنالك اختلاف في مستوياتهم العلمية من حيث درجة قربهم وبعدهم عن تشخيص الحكم الشرعي الذي هو واحد في مقام الثبوت، واختلافهم في الحكم على الاوضاع والمواقف والوجودات والكيانات القائمة.
وفي جميع ظروف وأجواء الاختلاف كانوا يلتقون معاً في العمل للاسلام والحرص على تقرير مفاهيمه في واقع الحياة لأنّهم جميعاً يجتمعون حول عقيدة واحدة ومصالح واحدة وأهداف واحدة ويواجهون تحديات واحدة من قبل الحكّام المعاصرين ومن قبل التيارات المنحرفة كالزنادقة والغلاة وعموم أعداء الاسلام، وكان الحب والاحترام المتبادل حاكماً على علاقاتهم العلمية والاجتماعية فلا تقاطع ولا تدابر، بل لا حساسية ولا خصومة، وكان أتباعهم تبعاً لهم في العلاقات الأخوية وكانت الزيارات قائمة بينهم جميعاً، بل انّهم تعرضوا لظروف عصيبة واحدة حيث طاردتهم السلطات القائمة وحاصرتهم بلا فرق بين إمام وآخر أو مذهب وآخر.
وقد تظافرت الجهود والطاقات من أجل إعلاء كلمة الله تعالى ونشر مفاهيم الاسلام وقيمه واتحدت الخطى في نطاق الافق الأرحب متعالين على الفواصل الجزئية وتعاملوا معها في حدودها الضيقة، وكذلك اتباعهم.
وهذه العلاقة ينبغي ان تكون محوراً لنا جميعاً في طريق التقريب والتوحيد، فما دام ائمتنا متوحدين في محاورهم المشتركة فلماذا لا نتحد نحن في مواقفنا العملية ضمن المشتركات الثابتة للوصول الى الاهداف الكبرى التي جاهد ائمة أهل البيت وائمة المذاهب من أجل تقريرها في الواقع.
العلاقات في مجالي العلم والفقه:
لم تكن العلاقات في مجالي العلم والفقه علاقات انزواء وانكماش وتقوقع، وانّما كانت علاقات تفتح انعدم فيها عنصر الأنا والعنصر الشخصي، ولا وجود للنظرة السلبية مع الآخرين، فالجميع انطلقوا ضمن الأهداف المشتركة وكانوا يأخذون العلم ويقتفونه من مناهله ومنابعه على اختلاف مناهجها ومتبنياتها، فلا يوجد انفصال في الحياة العلمية، حيث يروي بعضهم عن بعض ويتبنى بعضهم آراء بعض، وقد اتفق الجميع على مرجعية ائمة أهل البيت (عليهم السلام) العلمية لأنّهم اخذوا العلم عن آبائهم وبالتالي عن عليّ بن أبي طالب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد أخذوا العلم عن أهل البيت مباشرة أو بصورة غير مباشرة وعلى رأسهم الامامين «أبو حنيفة ومالك».
وكان اتباع أهل البيت (عليهم السلام) وأتباع أئمة المذاهب يطلبون العلم والفقه سويّة بلا انزواء ولا تقاطع، فيدرسون عند هذا أو ذاك بغض النظر عن مذهبه ومتبنياته الفقهية والاصولية، وكان يحدّث احدهم عن الآخر أو عن إمام مذهب آخر، فمثلاً كان سفيان الثوري يحدّث عن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) وعن الأعمش، وكان الاعمش يحدّث عنهما، وكان أبان بن تغلب يحدث عنهما أيضاً، وكان الامام ابو حنيفة يحدّث عن الامام الصادق (عليه السلام) وعن اتباعه، وهم بدورهم يحدّثون عن الامامين الصادق وأبي حنيفة.
فقد كانت العلاقات قائمة على قواعد الودّ والمحبّة والثقة المتبادلة، وكان أهل البيت يشجعون اتباعهم على تعميق مثل هذه العلاقات، وكانوا بأنفسهم يحضرون في مجالس من هم أقل منهم علماً وشأناً لكي يكونوا قدوة لاتباعهم في ازالة الحواجز والفواصل الجزئية، وعلى سبيل المثال كان الامام على بن الحسين (عليه السلام) يجالس قوما دوناً ويستمع الى حديثهم، حتى قيل له: انّك تجالس قوماً دوناً، فأجاب القائل ـ وهو نافع بن جبير ـ انّي اجالس من أنتفع بمجالسته في ديني(1).
وقال الزهري: حدثت عليّ بن الحسين بحديث فلمّا فرغت قال: أحسنت بارك الله فيك، هكذا سمعناه، فقلت: لا أراني حدثت حديثاً أنت أعلم به منّي، قال: لا تفعل ذلك، فليس من العلم ما لم يعرف انّما من العلم ما عرف(2).
وكان الفقهاء والعلماء يستمعون الى نصائح أهل البيت (عليهم السلام) ويلتزمون بتوجيهاتهم وارشاداتهم، اعترافاً منهم بمرجعيتهم العلمية، فمثلاً كان الحسن البصري يقص في الحج، فمرّ به الامام علي بن الحسين، فقال له: يا شيخ... ثم دار للعمل غير هذه الدار؟ قال: لا، قال: فعملك للحساب؟ قال: لا، قال: فلم تشغل الناس عن طواف البيت؟ فما قصّ الحسن بعدها(3).
وفي كتب الحديث نجده يروي أحاديث كثيرة يسندها الى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وكذلك نجد ذلك في أحاديث سفيان الثوري والاوزاعي وغيرهم.
وكان سفيان الثوري من تلامذة الامام جعفر الصادق (عليه السلام) ومن تلامذة زيد بن عليّ (عليه السلام).
واشتهر عنه انّه كان يقول للامام: لا أقوم حتى تحدثني، فقد حدثه مرّة بحديث النعمة والرزق والضيق، فقال سفيان: «ثلاث وأي ثلاث»(4).
ووردت له عبارات عديدة يكرر فيها القول: «حدثني جعفر بن محمد» و:«سمعت جعفراً يقول»(5).
وكان يسأله في كثير من مجالات العلم والمعرفة، وبالخصوص في الفقه والاحكام الشرعية وعن عللها(6).
ونتيجة للاختلاف في ادراك الحقائق والوقائع والأحداث، والاختلاف في المتبنيات الاجتهادية كان يعترض على بعض مواقف وممارسات الامام الصادق (عليه السلام) فكان الامام يجيبه عن اعتراضاته أو اشكالاته برحابة صدر(7).
ولتعميم الفائدة من نفس حديث الامام (عليه السلام) نذكر نصه حسب رواية سفيان الثوري حيث يقول: سمعت جعفراً يقول: «الوقوف عند كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وترك حديث لم نروه أفضل من روايتك حديثاً لم تحصه، إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالفه فدعوه»(8).
وكان الامام محمد الباقر (عليه السلام) يحاسب الامام أبا حنيفة على آرائه وخصوصاً في القياس، وكان يتقبل هذه المحاسبة وهذا الاعتراض، ويستسلم لتوجيهات وارشادات الامام الباقر، ويتعامل معه تعامل المرؤوس مع رئيسه(9).
وأخذ الامام أبو حنيفة العلم عن أربعة من أئمة وفقهاء أهل البيت (عليهم السلام)وهم: محمد الباقر وجعفر الصادق، وزيد بن علي وعبدالله بن الحسن بن الحسن(10).
وقد اعترف بفضل الامام الصادق (عليه السلام) عليه وعلى ايصاله الى هذه الدرجة والمنزلة العلمية والفقهية، فقال: «لولا السنتان لهلك النعمان»، ويرى الشيخ محمد ابو زهرة انّ هاتين السنتين كانتا عند ما خرج أبو حنيفة من العراق مهاجراً للمدينة، فانّه أقام ببلاد الحجاز، ولعله قد لازم الامام الصادق في هذه المدة(11).
وكان الامام الصادق يختبره في الكثير من المسائل من أجل زيادة العلم والمعرفة، فقد سأله عن محرم كسر رباعية ظبي، فقال: لا أعرف جوابها، فقال: أما تعلم انّ الظبي لا يكون له رباعية(12).
وكان يشجعه على التعليم والتدريس، وكان يحضر حلقة الدرس التي يعقدها، وهو لا يعلم به، وحينما يعلم بحضوره يقف احتراماً واجلالاً له(13).
وكان الامام ابو حنيفة يستمع الى إرشادات وتوجيهات الامام العلمية والفقهية والاصولية، ففي أحد المرات دخل القاضي عبدالله بن شبرمة والامام أبو حنيفة على الامام الصادق، فقال ابن شبرمة: هذا رجل من أهل العراق له فقه وعلم، فقال الامام: لعله الذي يقيس الدين برأيه... ثم قال له: اتق الله ولا تقس الدين برأيك.
اتق الله يا عبدالله ولا تقس; نقف نحن غداً وأنت ومن خالفنا بين يدي الله عز وجل، فنقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال الله عزّ وجلّ، وتقول أنت وأصحابك: سمعنا ورأينا، فيعمل بنا وبكم ما يشاء(14).
وأخذ الامام مالك بن أنس العلم عن جماعة ومنهم الامام جعفر الصادق، ولكنّه اخفى الحديث عنه في عهد الحكم الاموي لظروف الارهاب التي امتاز بها الحكم انذاك، ولموقفهم العدائي من أهل البيت (عليهم السلام)، وبدأ بالحديث عنه في عهد العباسيين قبل استلامهم للسلطة وفي بدايتها كما دلت على ذلك بعض الاخبار(15).
وكان الامام الصادق يشجع طلاب العلم للحضور في حلقة الامام مالك الدراسية، وأخذ العلم منه، لازالة الحواجز والفواصل بين المسلمين عموماً وطلاب العلم خصوصاً، وهذا التشجيع يساهم مساهمة فعالة في تعميق أواصر الإخاء والمودة، وفي تقريب وجهات النظر لاتخاذ المواقف الواحدة تجاه الاحداث والوقائع والوجودات.
ومن الامثلة على ذلك ان الامام قال لتلميذه عنوان البصري (ان يجلس الى مالك)(16).
والامام الشافعي وان لم يتتلمذ على يد الامام الصادق مباشرة الاّ انه أخذ العلم ممن اخذه من الصادق، فعن اسحاق بن ابراهيم قال: قلت للشافعي: ما حال جعفر بن محمد عندكم؟ فقال: ثقة، كتبنا عنه اربعمائة حديث(17).
ومن يتتبع مسند الامام أحمد بن حنبل يجده ينقل العديد من الروايات عن ائمة أهل البيت (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وكان أئمة المذاهب يتعاملون مع أئمة أهل البيت كمراجع لهم وللأمة الاسلامية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قول الامام الشافعي: أخذت احكام البغاة والخوارج من مقاتلة عليّ لأهل الجمل وصفين(18).
وفي اثبات خبر الواحد كان يقول: وجدت علي بن الحسين وهو أفقه أهل المدينة يعوّل على أخبار الآحاد(19).
وذكر له أحدهم مسألة فأجاب عليها، فقال له: خالفت علىّ بن أبي طالب، فقال: اثبت لي هذا عن عليّ بن أبي طالب حتي أضع خدي على التراب وأقول: قد اخطأت، وأرجع عن قولي الى قوله(20).
وكان الكثير من القضاة الذين يتبنون آراء بعض المذاهب يرجعون الى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لاخذ رأيهم في مختلف المسائل وعلى سبيل المثال كان القاضي ابن أبي ليلى لا يتنازل عن رأيه في القضاء لأحد الاّ للامام جعفر الصادق(21).
علاقات الاحترام والتكريم والولاء:
كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأئمة المذاهب الاسلامية ينطلقون في ظل الاهداف الكبرى للرسالة الاسلامية متعالين على الفواصل الجزئية الطبيعية، ولهذا كانت علاقاتهم قائمة على الاحترام والتكريم وعلى الولاء المتبادل، فالاخاء والتآزر والتعاون هو القاعدة الاساسية في العلاقات العامة والخاصة، وعلى الرغم من وجود قوى لا يروق لها صفو العلاقات فانّها لم تستطع تفريق الصفوف وتشتيت الاتحاد وخصوصاً بين الائمة والاتباع من قبل الطرفين، فلم تستطع مؤامرات الحكام وأساليبهم المتنوعة في تبعيد القلوب وفي تفريق الصفوف وبقي الاحترام والتكريم هو الحاكم على العلاقات مهما اختلف الجميع في متبنياتهم الفكرية والسياسية والعلمية.
قال رجل للحسن البصري: انهم يزعمون أنك تبغض علياً، فبكى حتى اخضلّت لحيته، ثم قال: كان علي بن أبي طالب سهماً صائباً من مرامي الله على عدوه، وربّاني هذه الامة وذا سابقتها وذا فضلها لم يكن النئومة عن أمر الله، ولا بالملومة في حق الله، ولا بالسروقة لمال الله، أعطى القرآن عزائمه، ففاز منه برياض مونقة وأعلام بيّنة(22).
وقال الحجاج للحسن، وعنده جماعة من التابعين، وذكر عليّ بن أبي طالب: ما تقول أنت يا حسن؟ فقال: ما أقول هو أوّل من صلّى الى القبلة، وأجاب دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنّ لعليّ منزلة من ربّه، وقرابة من رسوله، وقد سبقت له سوابق لا يستطيع ردّها أحد، فغضب الحجّاج غضباً شديداً وقام عن سريره، فدخل بعض البيوت وأمر الناس بالانصراف(23).
وكان يمتدح فاطمة الزهراء (عليها السلام) ويذكر فضلها حباً منه لأهل هذا البيت (عليهم السلام) وتعظيماً لأبنائها وأحفادها، وهو القائل: ما كان في هذه الامة أعبد من فاطمة كانت تقوم حتى تورمت قدماها(24).
وذكر هذه الفضائل وفي ظروف الارهاب الأموي يدل دلالة واضحة على عمق الاحترام والتكريم والولاء لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وفيما يلي نستعرض هذه العلاقات بشكل من الايجاز:
الامام جعفر الصادق وسفيان الثوري:
كان سفيان الثوري ملازماً للامام الصادق وله في قلبه حبّ وودّ، وكان يعترف بفضله وينشره وينشر فضائل أهل البيت، وقد نسب اليه انّه كان زيدياً، والحقيقة انّه وان «اشتهر عنه الزيدية، الاّ أنّ تزيده إنما كان عبارة عن موالاة أهل البيت، وإنكار ما كان بنو أمية عليه من الظلم، واجلال زيد بن عليّ وتعظيمه، وتصويبه في أحكامه وأحواله»(25).
وسفيان الثوري من دعاة الوحدة بين المسلمين وكانت له خطوات ميدانية في ذلك مع الاحتفاظ بحبه وولائه لأهل البيت، حتى قال عنه عمرو بن حسان: كان سفيان نعم المداوي; اذا دخل البصرة حدّت بفضائل عليّ، واذا دخل الكوفة حدث بفضائل عثمان(26).
وقيل عنه «فيه تشيّع يسير»(27).
الامام الصادق وابن أبي ليلى:
كان ابن أبي ليلى قاضياً في عهد الامام الصادق (عليه السلام) وكان يكن الود والحب لأهل البيت وعلى رأسهم الامام الصادق (عليه السلام)، ويراه أهلاً للتبجيل والاحترام، ويرى وجوب محبته وموالاته، وقد جسد هذه الرؤية في ممارسات عملية ميدانية، فكان يتنازل عن ارائه الاجتهادية اذا علم بمخالفتها لآراء الامام الصادق، وكان يلبي ما يريده منه، ولا يعصي له امراً أو يخالف له نصيحة، فحينما ردّ شهادة محمد بن مسلم الثقفي ارسَلَ اليه الامام رسالة جاء فيها: «ما حملك على أن رددت شهادة رجل أعرف منك باحكام الله)، ولم يجد بذلك بأساً وتقبل كلامه برحابة صدر وخلوص نيّة وأرسل الى محمد بن مسلم ليشهد عنده ويجيز شهادته(28).
الامام الصادق والامام أبو حنيفة:
كان الامام ابو حنيفة يرى وجوب حبّ وموالاة أهل البيت (عليهم السلام) وكان يشهد لهم بالفضل والأعلمية وبامامة المسلمين ايماناً منه بتجسيد هذا الحب في ممارسات ميدانية واقعية، فحينما أجبره أبو جعفر المنصور على مناظرة الصادق ناظره مكرهاً، وفي ذلك اعترف بفضله قائلاً: « ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد، لما اقدمه المنصور الحيرة، بعث الىّ فقال: يا أبا حنفية، انّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهي له من مسائلك الصعاب، فهيأت له أربعين مسألة، ثم اتيت أبا جعفر وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت بهما، دخلني لجعفر من الهيبة ما لا يدخلني لابي جعفر... فكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا.
اليس قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس»(29).
وهذا المدح والثناء والاعتراف بمرجعيته العلمية يعبّر عن الحب والولاء للامام ولأهل البيت عموماً.
وكان يعترف بانّ الامام الحقّ هو جعفر الصادق، ويوجه الانظار اليه ويدعو الى طاعته والارتباط به، كما دلت على ذلك بعض الاخبار والروايات المحايدة(30).
الامام الصادق والامام مالك بن أنس:
قال الامام مالك: «والله ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد زهداًوفضلاً وعبادة وورعاً، وكنت أقصده فيكر مني ويقبل عليّ»(31).
وقال: «كنت أدخل الى الصادق جعفر بن محمد فيقدّم لي مخدّة ويعرف لي قدراً، ويقول: يا مالك انّي احبّك، فكنت اسرُّ بذلك وأحمد الله عليه»(32).
وكان يمتدح الامام ويثني عليه ويذكر جملة من فضائله ومناقبه فيقول: « لقد كنت آتي جعفر بن محمد، وكان كثير التبسّم، فاذا ذكر عنده النبي (صلى الله عليه وآله) اخضر واصفرّ، ولقد اختلفت اليه زماناً فما كنت أراه الاّ على احدى ثلاث خصال: امّا مصلياً، واما صائماً، وإمّا يقرأ القرآن... وكان من العلماء العباد الزهاد الذين يخشون الله»(33).
وكان يحترم جميع من له صلة قربى بائمة أهل البيت، روي عن اسماعيل ابن موسى الفزاري قال: «رأيت يحيى بن عبدالله بن الحسن جاء الى مالك بن أنس بالمدينة، فقام له عن مجلسه واجلسه الى جنبه»(34).
الامام الشافعي وأهل البيت(عليهم السلام):
عرف الامام الشافعي بمحبته لأهل البيت (عليهم السلام) وكانت له علاقات حميمة معهم، ولكنّ هذه المحبة وهذه الموالاة لم تصل الى مرحلة العمل من أجل ايصالهم الى السلطة أو العمل على جعل الحكم في سلطانهم(35) وكان لا يتحدث في مجلس يحضره أحد العلويين، ويقول: « لا أتكلم في مجلِس يحضره أحدهم هم أحقّ بالكلام»(36).
وكان يصرّح بهذا الحبّ وهذا الولاء، ومن اشعاره ما روي عن الربيع بن سليمان قال: حججنا مع الشافعي فما ارتقى شرفاً ولا هبط وادياً الاّ وهو يبكي وينشد:
يا راكباً قف بالمحصّب من منى واهتف بقاعد خيفنا والنّاهض
سحراً اذا فاض الحجيج الى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حبّ آل محمد فليشهد الثقلان أنّي رافضي
وله اشعار اخرى في هذا المجال ومنها:
نصلي على المختار من آل هاشم ونؤذي بنيه انّ ذا لعجيب
لئن كان ذنبي حب آل محمد فذلك ذنب لست عنه أتوب
هم شفعائي يوم حشري وموقفي وبغضهم للشافعي ذنوب
وانشد ايضاً:
لو فتشوا قلبي لألفوا به سطرين قد خطا بلا كاتب
العدل والتوحيد في جانب وحبّ أهل البيت في جانب
وفي المقابل لم يحدثنا التاريخ انّ أهل البيت (عليهم السلام) قد ذكروه بسوء.
الامام أحمد بن حنبل وأهل البيت(عليهم السلام):
انّ ظروف الملاحقة والارهاب وأجواء المراقبة الشديدة لأئمة أهل البيت; حالت دون حدوث لقاء بينهم وبين الامام أحمد بن حنبل، فقد كان هو الآخر يعيش محنة حقيقية، ولكنّ عدم اللقاء وعدم الاجتماع لا يعني وجود تقاطع أو تدابر بل انّ الحب والتقدير والتكريم كان قائماً، وكان الامام أحمد كثير العلاقة مع عموم العلويين، حتى قيل للمتوكّل انّه يأوي العلويين ويدعو الى بيعتهم، وقد فتش منزله للتأكد من ذلك(39).
وكان يدافع عن عليّ بن أبي طالب في عهد المتوكل الذي عرف بمعاداته لأهل البيت، وقد قال في حقّه وحقّ أهل البيت:
«انّ الخلافة لم تزيّن علياً، بل عليّ زينها».
«علي بن أبي طالب من أهل بيت لا يقاسى بهم أحد»(40).
«ما جاء لأحد من الصحابة من الفضائل مثل ما لعليّ بن أبي طالب»(41).
والدفاع عن أهل البيت (عليهم السلام) ونشر فضائلهم في عهد المتوكل وغيره يدل دلالة واضحة على حبّه لهم وموالاتهم.