السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نتقدم بالإجلال والإكبار لنقف بين يدي سيدنا ومولانا ولي العصر وصاحب الزمان، لنقدّم له أحلى التهاني والتبريكات بمناسبة إطلالته المباركة وميلاده الميمون، كما ونبارك لجميع أبناء هذه الطائفة، وفي مقدمتهم المراجع العظام والعلماء الكبار سيّما القائد آية الله الخامنئي حفظه الله.
إخوتي الكرام إنّ السماء شاءت أن تجعل من هذا الميلاد المبارك ميلاداً لكل ما هو خير لهذه الإنسانية، حتى أنّ الزواج الذي أنتج هذا المولود هو زواج رتّبته السماء، وأشرفت على تدبيره، فالسيدة نرجس والدة الإمام الحجة صلوات الله وسلامه عليه ما كانت من بنات الأمّة الإسلامية، بل كانت شابّة مسيحيّة، وهي نرجس ابنة يشوعا قيصر الروم.
لماذا شاءت السماء أن يتم الزواج بين أبي محمد العسكري سلام الله عليه وبين ابنة الملك هذه؟ هل أنّ بنات الأمّة الإسلاميّة قليلات لماذا؟ إنّها إرادة السماء.
كلكم أو جلّكم سمع بقصة زواج بنت قيصر الروم، كانت بنتاً صالحة مسيحيّة تمت خطبتها وتمّ نقلها إلى أهل البيت من بيت أبيها إلى بيت النبوة بواسطة الرؤيا، حيث رأت السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها قامت بالترتيبات اللاّزمة، كل شيء تم بواسطة عالم المنام..
أعطيت الخطّة والإرشادات كيف تنتقل إلى أهل البيت عليهم السلام، فقيل لها: سوف تقع حرب بين الروم والمسلمين. أمّا بالنسبة لك فالبسي ملابس الجواري وانخرطي مع الخدم وجيش الروم وسوف تقعين أسيرة وتعرضين في السوق للبيع فلا تقبلي بأن يشتريك أحد، ارفضي كل من يأتي لشرائك، إلاّ إذا جاء رجل يحمل كتاباً من أبي محمد العسكري سلام الله عليه، فهو الخاطب لك.
وتمّت الخطبة والتزمت تلك البنت بتلك الإرشادات حتى وصلت إلى بيت مولانا الإمام الحسن العسكري (ع) ليتم ذلك الزواج الذي نتج عنه أعظم مولود في سنة 255هـ إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة.
ففي مثل هذه الليلة من سنة 255هـ وقبل بزوغ الفجر بزغ البدر الثاني عشر في سماء الإمامة وتلطفت السماء على أهل الأرض بأعظم هدية، وأزين هدية، الهدايا تقدّم على طبق من ذهب إذا كانت غالية لكن هدية السماء هذه قدّمت على كفين طاهرتين هما أفخر وأغلى من الذهب إنهما كفّا الإمام الحسن العسكري (ع) هذا الإمام _ أيها الاخوة _ اكتنفت إمامته الغموض، وأثيرت حوله الشكوك لماذا؟ لأنّ البشرية قاصرة عن هضم كثير من إطروحات السماء. عقول الناس لا تهضم كثيراً مما تطرحه السماء. أكثر الأمور التي يؤمن بها الشيعة لم يفهمها حتى الكثير من الشيعة أنفسهم.
الإمام الحجّة صلوات الله عليه ولد بالخفاء، إمامته بالخفاء. وأثيرت حوله وحول آبائه كثرة من الشكوك والشبهات والتساؤلات.
فالإمام الصادق (ع) عندما حضرته الوفاة أوصى إلى خمسة، أحدهم الإمام موسى الكاظم للتعتيم والتغطية عليه، لظروف قاسية مرت به.(1)
وكذلك جدّ الإمام الحجّة، وهو الإمام الهادي جرت عليه قصّة، لا أدري مضحكة أم مبكية. مات الإمام الجواد سلام الله عليه وعمر الإمام الهادي لم يبلغ سبع سنوات. فعندما بقي الإمام بهذه السن قام المتوكّل العبّاسي بجلب أستاذ ومعلّم لتأديب وتعليم علي الهادي. هذه المصيبة هو إمام الأمّة قاطبة إمام البشر ويأتون له بمعلّم، هذه إحدى مصائب أهل البيت. فحجزه في القصر وقال: أريد معلّماً يبغض أهل البيت ناصبي حتى يغيّر هذا الصبي فلا يكون على خط آبائه، فوقع الاختيار على رجل عالم بالأدب والعلم يقال له الجنيدي أو الجُنيد. جيء به لتأديب علي الهادي. يقول هذا: عندما قمت بتدريس هذا الصبي إذا قدّمت له حرفاً يشرح لي عن هذا الحرف علوماً لا أعلمها، وراح يقدّم لي علوماً لم أسمع بها، والناس يظنون إنّي أعلّمه، ولكن في الحقيقة إنّي أتعلّم منه، وأصبحت أنا تلميذاً عند هذا الصبي، وإنّي لأعجب منه فهو صبي من أين يأتي بهذا العلم؟(2) صحيح ربّما يكون طفلاً نابغة بالاستثناء، لكن عنده هذا العمق العلمي بحيث يحدثني بعلوم الأولين والآخرين. إن هذا مما لا يهضمه العقل. فخرج وهو متعجّب!!
فالإمام الحجة سلام الله عليه ليس هو الوحيد الذي أثيرت حوله الشبهات. فهناك شبهات حول مسألة طول العمر، وأريد أن اختصر لك قضية طول العمر بأدلة علمية وبقضايا عقلية ودينيّة.
أما من حيث القضايا العلميّة فقد ثبت علميّاً أنّ في جسم الإنسان خلايا وهذه إذا حظيت بتغذية صحيحة وظروف ملائمة، وابتعاد عن العطب والتمزيق، تعيش إلى سنين طوال. وحتى الحيوان كذلك وليس فقط الإنسان. واكتشف مؤخراً في القطب الشمالي أسماك منجمدة عمرها ستة آلاف سنة، عندما أخرجت من الثلوج، وأرسلت بالماء فإذا بها حيّة تتحرّك.
وهذا يدعمه قول الباري جلّ وعلا (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(3) يعني هذا الحوت عنده قابليّة أن يحيى إلى يوم القيامة بإذن الله تبارك وتعالى.
قام دكتور _ كارل _ وهو جراح أمريكي بأخذ عيّنات من جسم الإنسان؛ من الجلد، ومن الكبد، ومن القلب، قطع من اللّحم وزرعها زرعاً علمياً وأخذ يغذّيها وإذا بقطعة اللحم التي تتغذى خلال ساعة تعيش إلى أكثر من ثمان سنوات. إذاً قابلية في جسم الإنسان للعيش والديمومة. طبعاً كثيرة هي الأدلّة العلمية لكن نأخذ من كل جانب عيّنة.
القانون الإلهي الذي بحكم الطبيعة يحكم على الإنسان، لا يحكم على الله، بل الله يحكم عليه. مثلاً: عندما يسقط الإنسان من الأعلى إلى الأرض فقانون الجاذبية يقتضي تهشّم العظام والموت. لماذا؟ لأن هذا قانون. وليس لي الخيار أمامه. قانون النار تحرق. أنا لا أتمكن أن أغير هذا القانون، أن أحوّلها من نار إلى ماء. وهكذا قانون الماء مثلاً أنه مادّة سائلة، لا أستطيع أن أجعله يقف كالعمود أو كالحجر، دائماً يأخذ هذا الشكل.
لكن هذه القوانين بالنسبة إليّ لا أتمكن أن أغيّرها، أمّا بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى فالأمر مختلف تماماً، وهو خالق هذه الأمور كلها. وهو قادر أن يجعل من النار برداً وسلاماً (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)(4) تحولّت من محرقة إلى باردة، كيف؟ الحاكم على القانون هو الذي تصرّف.
الماء لا يقف كالجبل كالحائط، لكنه وقف عندما انشق لموسى (ع) (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(5) الحاكم على القانون هو سبحانه والذي عطّل هذا القانون هو أيضاً.
فإذاً طول العمر ليس قضية مستعصية، خصوصاً وأنّ القرآن يشهد، والتأريخ يشهد بأن هناك من عمّروا طويلاً مثل نوح (ع)، فالقرآن يسجّل رقماً لحياته وهو 950 سنة يقال أنّ هذه فترة النبوّة أما عمره فيبلغ ألفين أو ثلاثة آلاف سنة، آدم (ع) عمّر 930 سنة، شيث (ع) عمّر 912 سنة، وهكذا.
وبعضهم معمّر من قبل آدم إلى يوم القيامة وهو إبليس لعنه الله. إبليس قبل آدم مخلوق ولا زال حياً ويشهد بذلك القرآن.
الخضر (ع).. عيسى (ع).. إدريس (ع)، وهكذا عندنا قائمة من المعمّرين الأحياء. فلماذا الاستنكار والاستكثار على الإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه؟ الذي يغيّر القانون في الماء وفي النار وفي الأحياء، يغيّر هذا القانون، ويجعل هذا الإمام حياً. لماذا هذا التعجب والاستثارة؟
أيّها الإخوة تعالوا لنفهم ما هي قضية الإمام الحجّة؟ من هو إمامنا في هذا الزمان؟ هل نعرف عنه شيئاً؟ لماذا غاب؟ وما هي أسباب الغيبة؟ وما معنى الانتظار؟
هذه المصطلحات والمفاهيم دائماً نسمعها ونتداولها ولكن البعض لم يفهم ما معنى الانتظار وما معنى الغيبة.
الغيبة:
متعارف فيما بيننا حينما نقول: إن فلاناً غائب، يعني غير موجود في هذا المكان. لكن هذا المعنى لا ينطبق على الإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه، لماذا؟ لأن غيبة الإمام لا تعني عدم الوجود في هذا المكان لكونه في مكان آخر، بل لها معنى آخر وهو التخفّي.
فهو موجود، نراه وقد نسلّم عليه، وقد يجيبنا على سؤال، وقد يدلّنا على طريق. يمارس دوره كإمام لكننا لا نعرفه بالذات.
هذا هو معنى الغيبة. التنكّر والتخفي لا الغياب فربّما كان جالساً في مجلسنا هذا، في مجالس أخرى، سيّما وأن العالم الشيعي الإسلامي يحتفل هذه الليلة بميلاده الميمون المبارك، فهو حاضر حتماً لكن لا نعرفه. وهذا معنى الغيبة، غائب لا يعني أنّه غير موجود إطلاقاً، إذن أين موجود هو؟ لا ندري إنّه متخفّي.
سبب الغيبة:
متى يظهر الإمام...هذه النقطة مهمّة _ توجّه إليّ قليلاً _ إذا عرفنا أسباب غيبة الإمام، عرفنا متى يظهر الإمام.
الآن لا يستطيع أحد أن يعرف متى يظهر الإمام، لكن بطريقة واحدة نعرف متى يظهر، أتدري متى يظهر؟ تعال لنعرف أسباب الغيبة لماذا غاب الإمام؟ المفروض أن يكون الإمام حاضراً بين ظهرانينا، يخطّط يوجّه يدرس يدير البلدان. لماذا لم يحضر؟ لماذا لم يظهر؟
الجواب واضح: أنّ الإمام سلام الله عليه بما أنّه خاتم الأوصياء فإذا قُتل خلت الأرض من حجّة. وإذا خلت من حجّة ساخت بأهلها. فالنبي صلى الله عليه وآله قال: (أهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض)(6) الإمام سلام الله عليه أراد شيئين، وهما سبب الغيبة.
الشيء الأوّل: أن يبقى إماماً وحجة لله على الخلق.
والشيء الثاني: أن يبقى بعيداً عن متناول الظلمة والطواغيت، لأنّه لو كان ظاهراً كآبائه كان مصيره مصير آبائه سلام الله عليهم. سجن أو تشريد أو تعذيب. وبعد ذلك يعيش أياماً ثم يقتل. والنتيجة هي خلوّ الأرض من حجّة. وهذا خلاف القانون الإلهي.
فالإمام (ع) جمع بغيبته بين ممارسة دور الإمامة، وبين السلامة من أذى الطواغيت.
فإذاً سبب الغيبة هو عدم وجود قاعدة تحتضن الإمام، تنصر الإمام، فمتى ما توفّرت هذه القاعدة وجاءت الإرادة الإلهيّة، يظهر الإمام. وهذا يعني: أننا وصلنا إلى معنى الانتظار.
معنى الانتظار: تهيئة القاعدة وتحضيرها. كل واحد يبدأ بنفسه. أنا وأنت وذاك. ابدأ بنفسك للتهيئة لخروج الإمام سلام الله عليه.
من هنا نفهم أن المهدي (ع) مولود وموجود غائب، وهو بحاجة إلى تمهيد لظهوره، ولا شك في وجوده عند كل عاقل.
ثم أنّ النبي صلى الله عليه وآله أثبت بحديثه الشريف أنّ الإمام موجود بالرغم من المنكرين والملتفين على فكرة الإمام سلام الله عليه، حيث قال: (لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)(7) يعني أهل البيت والقرآن لا يحصل بينهما أي افتراق إلى يوم القيامة.
فلو كان الإمام الحجّة ليس موجوداً كما يدّعي البعض لحصل الافتراق بين أهل البيت وبين القرآن. وهذا يعني نقضاً لكلام النبي صلى الله عليه وآله. ولا ينقض كلام رسول الله صلى الله عليه وآله.
فإذن الإمام موجود حتماً.
ثم إنّ النبي صلى الله عليه وآله قال: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(8) الميتة الجاهلية يعني ليس له إمام، أي ليس على الإسلام فهو جاهلي فيصير إلى النار. فإذا كان الإمام ليس موجوداً منذ الحسن العسكري سلام الله عليه وإلى يومك هذا. فما ذنب الأجيال تموت على غير هدىً وتذهب إلى النار؟ التقصير والذنب على عاتق من يقع؟ تقصير النبي؟ أبداً ليس تقصير النبي صلى الله عليه وآله. التقصير والعيب بالذين نصبوا العداء لأهل البيت.
حتى اخواننا أبناء السنة أكثرهم يجمعون ويتّفقون معنا على وجود الإمام صلوات الله وسلامه عليه. وأنه ولد، والبعض منهم يقول: يوجد لكنه لم يولد الآن، وهذه نظريّة خاطئة، لأنه إذا لم يولد لحدّ الآن فمعنى ذلك أن الأجيال كلّها ماتت بغير إمام.
أحد الباحثين وصل إلى نتيجة وهي: أنّ الإمام موجود من ستين مصدراً من أبناء السنّة. إضافة إلى المصادر الشيعية.
وللعلم فإنّ هناك من شهد بوجود الإمام من غير المسلمين، وهو المتنبئ الفرنسي (نوسترا داموس) قبل 500 سنة تقريباً، إذ ظهر في فرنسا وكان عنده أدوات خاصة يعرف من خلالها أحداث المستقبل. طبعاً تنبأ بأمور كثيرة وتغيرات حدثت في أوربا كلها تحققت، مثل: ظهور نابليون وأمثاله. هذا المتنبئ قال: سوف يخرج _ وكانما حدّد بسنة الألفين أو ما يقاربها _ يخرج رجل من ولد إسماعيل يعني الإمام سلام الله عليه، حتى أنّ الولايات المتحدّة الأمريكيّة على ضوء هذه النبوءة، صنعت فلماً لخروج الإمام المهدي سلام الله عليه. وكيف أنه يحتل العالم، وكيف ينشر الرسالة، وهذا الفلم يعرض في التلفزيونات والسينمات لمدّة ثلاثة شهور.
كل من له عقل يفكّر ويقف أمام الحقيقة بدون حواجز سيصل إلى أن الإمام الحجّة صلوات الله عليه موجود، وسيملؤها قسطاً وعدلاً، وهذه الكلمة (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً)(9) تعبير عن أكبر حركة إصلاحيّة تحدث على هذا الكوكب في طور البشريّة، عملية تصحيح عامّة لسلوك البشريّة. فالإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه هو المصحّح والمصلح الأكبر، الذي يدعمه العلم والعقل والفطرة والمنطق والدين.
وقد يطول بنا المقام لو سردت لكم الأدلّة من آيات وأحاديث وقصص على وجود الإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه.
وأختم حديثي بقصة: (أبي الأديان). أبو الأديان أحد أصحاب الإمام الحسن العسكري سلام الله عليه.
هذا الرجل أرسله الإمام بمهمّة من سامراء إلى منطقة أخرى، فقال له الإمام: إنّ سفرتك هذه تستغرق خمسة عشر يوماً. وإذا رجعت إلى سامراء ستسمع الواعية، يعني: تسمع بكاء وجلبة وضجيجاً، فقال له: ماذا يا مولاي؟ قال: تجدني ميّتاً وجسمي مسجّى على الأرض، قال: مَن مِن بعدك؟ قال لمن يصلّي عليّ... هذا أوّلاً، ولمن يجيب على الأسئلة ولمن يخبر ما في الهميان، ثلاث علامات إذا تيسّرت عند هذا الشخص كبيراً كان أو صغيراً لم يحدّد له. فهو الإمام من بعدي.
ذهب أبو الأديان ورجع وإذا بسامراء خرجت عن بكرة أبيها، فتقدّم جعفر _ الذي كان يلقّب بالكذاب وأصبح توّاباً حسب ما ينقل _ فأراد أن يصلّي على الإمام، وهو أخو الإمام العسكري سلام الله عليه، يقول أبو الأديان: كنت أنظر وإذا بصبي خماسي، ابن خمس سنوات جذب جعفراً من ثيابه، وقال: تنحّ يا عم فإني أولى بالصلاة على أبي، أنا ولي الأمر، فصلّى عليه، يقول أبو الأديان: قلت في نفسي: هذه الأولى، ثم جاء أناس فأجابهم على الأسئلة ثم أخبرهم بما في الهميان وكان عندهم حقوق شرعية بعملات مختلفة، عند ذاك عرف أبو الأديان أن الإمام من بعد العسكري (ع) هو ولده الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف.(10)
قد يقال: كيف يستلم الإمامة وأنتم أيها الشيعة تعتقدون أن الإمامة رئاسة العالم، الإمام وكيل النبي والنبي مبعوث للجميع، فإذن الإمام رئيس الكرة الأرضية، كيف يكون ابن خمس سنوات رئيس الكرة الأرضية؟ أما تخجلون أما تفكرون؟ أين العقول؟ أين المنطق؟
يقال: أيها العاقل أما سمعت القرآن الكريم يقول (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)(11) كم عمره؟ كان عمره يوماً أو أقل، عيسى سلام الله عليه قدّم نفسه نبيّاً لبني إسرائيل.
فإذا كانت النبوّة تعطى لطفل صغير في المهد فهل نستكثر على الإمامة أن تكون عند ابن خمس سنوات؟
ثم هل أنّ الإمامة هي رئاسة جمهوريّة حتى تنتخب من قبل الناس؟ لا، الإمامة منصب إلهي يعطى للطفل الرضيع ولابن التسعين ولابن خمس سنوات، لأنّ القرار إلهي ولا خيار للبشريّة أمام الخيار الإلهي.
أين التسليم لأمر الله إذا كنا نناقش كل شيء؟ هذا معناه نأتي بالشريعة كلها ونفهم الحكم منها، فعدم هضم قضية الإمامة قصور في الفهم، وإذا كان الإنسان قاصراً في فهمه وكان عقله محدوداًً فلا يلقي باللائمة على الشريعة وعلى أطروحات السماء لهذه البشرية.
والإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه لا أحد يراه، حتى في الغيبة الأولى، عندما غاب كان يتصل بالناس من خِلال العلماء الوكلاء. وعندما قام بتعويد الناس وترتيب المراجعة وربط الأمّة بالمراجع غاب الغيبة الكبرى، ولم يره أحد إلاّ لضرورة وعلى غير توقّع. كما نقل عن العلاّمة الحلّي.
أختم ثانية بهذه القصّة، وهي: أنّ السيد حيدر الحلّي _ شاعر أهل البيت _ كان يكتب كل سنة قصيدة، وقبل أن يقدّمها إلى الخطباء وإلى الشعراء والكتاب يلقيها بنفسه، فألّف قصيدته المشهورة:
أيّها المحيي الشريعة
غير أحشاءٍ جزوعة
وشكت لواصلها القطيعة مات التصبّر بانتظارك
انهض فما أبقى التصبّر
قد مزّق الثوب الأسى
... إِلى أخر القصيدة، يردّدها بينه وبين نفسه، وكان قد كتبها في الليل وجاء يستريح في بستان وهو في طريقه إلى إلقائها.
جلس يردّد القصيدة فجاءه رجل بزيّ عربي جلس إلى جانبه، سلّم عليه قال: يا سيد حيدر اسمعني قصيدتك. الرجل لم يكن متوقعاً، فإنّ الإمام التقى بأناس لكنه على حين غفلة، لكي لا يشعروا به ولا يعرفوه بإذن الله. يقول السيد حيدر: قرأت القصيدة وإذا به ينتحب باكياً، دموعه تتحادر على وجنتيه إلى أن وصلت...
لوقعة الطف الفظيعة
خيل العدا طحنت ضلوعه ماذا يهيجك إن صبرت
حيث الحسين على الثرى
إلى آخر القصيدة...
يصل إلى الرضيع يقول أجهش بالبكاء. فقال: كفى كفى يا سيد حيدر فإنّ الأمر ليس بيدي، حكمة إلهيّة متى ما اكتملت الظروف وشاءت السماء أن أظهر، أظهر...
وما بوسعنا أيّها الاخوة إلاّ أن نبتهل إلى الله تبارك وتعالى أن يوفقنا للتمهيد _ على الأقل _ لظهور الإمام الحجة صلوات الله وسلامه عليه، وأن يرينا ولو يوماً من دولته المباركة وحكومته الشريفة المقدّسة، وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه، وأن يوفق الجميع للعمل الصالح سيما في هذه اللّيلة الشريفة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الهوامش:
________________________________________
(1) الكافي للكليني، ج 1: 310، ح 13، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب، ج 3: 434.
(2) راجع: إثبات الوصية للمسعودي: 222.
(3) الصافات، الآية: 143 _ 144.
(4) الأنبياء، الآية: 69.
(5) الشعراء، الآية: 63.
(6) كفاية الأثر للخزاز القمي ص 29، وغاية المرام للبحراني ج 1: 24، وشرح إحقاق الحق للمرعشي ج 9: 307، ج 18: 553، ج 24: 341 _ 352.
(7) الامامة والتبصرة لابن بابويه ص 8، 44، 25، والغيبة للنعماني ص 50، 78، والكافي للحلبي ص 97...
(8) المعيار والموازنة للاسكافي ص 24، 209، 321. وكتاب السنة لابن أبي عاصم ص 43، 422... والامامة والتبصرة لابن بابويه ص 10، 33، 63...
(9) سنن أبي داود ج 2: 309، والمستدرك للحاكم ج 4: 464، ومجمع الزوائد ج 5: 180 وج 7 ص 313، ودلائل الإمامة للطبري، ص 9، 134، 184،... والتوحيد للصدوق ص 82، والاعتقادات للشيخ المفيد ص 95، 122، ورسائل في الغيبة للشيخ المفيد ص 12.
(10) الثاقب في المناقب لابن حمزة ص 606، وينابيع المودة للقندوزي ج 3: 325.
(11) مريم، الآية: 30.