عربي
Monday 23rd of December 2024
0
نفر 0

سر الإبداع اللغوی عند الإمام علی علیه السلام

 

الدكتور عباس علی الفحام

 

     لا ریب فی أن البحث فی هذا الموضوع واسع وشائك فضلا عن الكتابة فیه بمقال یكاد لا یصل إلى بدایات شواطئه ، ولكن لا بأس من مساس نقطة معینة تكون مرتكزا لهذه الأسرار، وسنجعل من بعض التساؤلات منطلق المحاولة فی هذا الكشف،  فمتى یمكن للأدیب أن یبدع ؟ وكیف یتمیز على الرغم من أن اللغة موروث مشترك ؟ 

 

    ببساطة تتركز مادة الإبداع اللغوی فی ثلاثة عناصر لا انفصال بینها البتة هی : المعانی والألفاظ وأدوات التأثیر اللغویة ، ومن حسن الإجادة فی تركیب هذه العناصر یتمیز الكلام المبدع عن الكلام الاعتیادی فیغدو فنا .

 

من هذا المدخل ، ما حصة الإمام علی(ع)  من هذا الإبداع ؟ وكیف تمكن من الفرادة عن غیره من أبناء زمانه ، على الرغم من امتلاكهم لكثیر من نواصی اللغة بخاصة وهم فی لباب الفطرة السلیمة للغة ، أین یكمن السر ؟

 

 

     كان أكثر ما انماز به الإمام فی كلامه هو حضور النص القرآنی فی ذهنه وقدرته على اجتلاب صوره وتمثل معانیه ، ولیس ذلك بالأمر الهین الیسیر ، لأن المعانی القرآنیة جدیدة كل الجدة على العقلیة العربیة والثقافة السائدة وقتذاك مثل موضوع الذات المقدسة وصفاتها وقضایا المعاد والثواب والعقاب والعالم الآخر والجنة والنار وقضایا التشریع الأخرى ، ولست أشك فی أنها تشغل ذهن المتكلم الذی ینشد الفن والتأثیر لأنها لیست ذائبة فی نفسه ولا یستطیع تمثلها بالنفس القرآنی ذاته ،ولأنه لا یزال بعد منشدا إلى الثقافة الجاهلیة القدیمة والتی هی بالوقت نفسه لیست ببعیدة العهد عنه ، فمشكلة الأدیب فی عصر النبوة وما تلاه أنه أراد تأدیة المعانی الإسلامیة الجدیدة تأدیة فنیة بالموروثات اللغویة الجاهلیة ذاتها التی أجاد بها فی الطلل وبكاء الحبیبة والتغنی بالبطولة والحماسة ، وهنا كمن سر إخفاق الأدیب العربی فی هذه المدة من عمر الإبداع اللغوی غیر المتناسب وعظمة التأثیر القرآنی ، وهنا أیضا بان سر عظیم من القدرة الإبداعیة المتمیزة لكلام أمیر المؤمنین علیه السلام .

 

     لم یستطع الأدیب العربی فی عصر النبوة شاعرا أو ناثرا أن یصل بالفن الأدبی إلى مستوى یبذ به العصر الذی سبقه أو یساویه على الأقل بسبب عدم القدرة على تمثل التعبیر القرآنی صیاغة ودلالة ، وأعنی به عدم اقتفاء البناء اللغوی المتكامل للنص القرآنی القائم على نظام من العلاقات التركیبیة التی تعمقت فیها الدلالة بوسائط لغویة انمزج فیها الصوت بالصورة من غیر أن یسمى شعرا .  وإذا كنا نلتمس للأدیب العربی المنشئ بعض العذر فی كون الدعوة الجدیدة بكل مفاهیمها العظیمة لازالت بكرا على العقل العربی ، وأنها لابد أن تصدم الثقافة العربیة بشیء من الذهول أو التوقف لاستیعاب هذا البناء اللغوی المعجز وهضمه وتمثله – أقول إذا كنا نلتمس له العذر فی كل ذلك – فما التبریر لأن ینكفئ الأدب مرة أخرى ویعود جاهلیا بأشد مما كانت علیه الجاهلیة ذاتها فی العصر الأموی فتكثر الوقفات الجاهلیة وأسماء مواضع الطلل ورحلات الصید الموغلة بالابتعاد عن لغة القرآن متناسین عمدا أو سهوا اللغة الجدیدة التی نزل بها القرآن الكریم والتی كان یمكن لو أمعن النقاد والشعراء معا فی الوقوف علیها واحتذائها ولفت الانتباه إلیها ابتكار معلقات إسلامیة ـ إذا صح الكلام ـ فی عصر صدر الإسلام وما بعده بدلا من تقلید الموروث الجاهلی بأشد مما علیه الجاهلیون أنفسهم ، لأن الفرصة كانت مواتیة والفطرة السلیمة لازالت بكرا فی فهم النص القرآنی المعجز والاقتداء به وحل رموز علاقاته التركیبیة ، یقول الأستاذ المرحوم طه أحمد إبراهیم :(( ولو أنهم تمعنوه لوجدوا فیه أسالیب من القول ، وضروبا من الفن الأدبی ، كان یسیرا علیهم أن یحتذوها . فی القرآن مثلا الأسلوب القصصی ، وتاریخ الأقدمین ، وقصص الأنبیاء ، وتلك أمور تزید فی روحیة الأدب وتمد الشعراء بالأخیلة والإلهام ))([1])، وكان یمكن أن یكون النص القرآنی مثالهم للانفلات من أسر تقلید النص الجاهلی ،

 

لذلك لم نر أدیبا فی العصر النبوی وما تلاه أجاد فی المعانی الإسلامیة الجدیدة إجادة الأدیب الجاهلی لمعانیه، لأنه لا یمكن التعبیر فنیا عن المعنى الإسلامی الجدید بلغة الجاهلیة القدیمة، فعلیه التخلی عن الثقافة اللغویة الموروثة القدیمة والانصهار فی الثقافة القرآنیة الجدیدة ، فقد وفرت الصیاغات القرآنیة زخما عالیا من الثراء اللغوی وكان على الأدیب فی عصر النبوة التنبه إلیه واقتفاء أثره واستثماره بشكل كلی ولیس الوقوف عند حد اقتباس اللفظة أو الجملة من القرآن .

 

بلى ، كان التأثیر الحقیقی للإبداع اللغوی القرآنی المعجز فی الكلام العربی یتمثل فی النبی الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله علیه وآله وابن عمه علی بن أبی طالب (ع) فی الخطابة والإیجاز بشهادة كل الدارسین للبلاغة العربیة ، وكلامهما ـ لاشك ـ أرفع من صفة الأدباء ، لذلك كانت خطب الرسول(ص) ـ على الرغم من قلة ما وصل إلینا منها ـ وأحادیثه وابتكاره لأوضاع تركیبیة جدیدة فی الكلام العربی([2]) وخطب الإمام علی ورسائله وأقواله العلامة الفارقة فی جبین الأدب العربی فكان أن انتظمت شروحا ممیزة ینتهل منها الأدباء قدیما وحدیثا مثل كتاب ( المجازات النبویة ) مثلا للحدیث النبوی الشریف ، و ( نهج البلاغة ) الذی جمع فیه الشریف الرضی مختارات من كلام الإمام علی (ع) وهما مثل للمصنفات القدیمة ، وكتاب (الإعجاز القرآنی والبلاغة النبویة) للرافعی مثلا للمصنفات الحدیثة .

 

    وكل ذلك تأتى من فهم طبیعة اللغة القرآنیة التی یدركها العربی بفطرته ولكنه لا یحسن التعبیر عنها لجدة مضامینها ولأن علیه الانصهار بروح القرآن والذوبان فی مضامینه لتغدو اللغة حینئذ صورة سریعة للمعنى فلا ینشغل الذهن فی أدائه ولا یكد فی استجلاب الألفاظ المناسبة لتجلیته .و لـذلك كـان الإمام علـی (ع) أول من عالج فن الخطابة معالجة الأدیب ، وأول من أضفى علیـها صبغة الإنشاء الذی یقتدى به فی الأسالیب كما یقول العقاد .  

 

       لقد كان الأثر الحقیقی المبكر للقرآن فی الكلام العربی على لسان علی (ع) فما وصلنا من كلامه المجموع فی ( نهج البلاغة ) یعد من أظهر تجلیات الأثر القرآنی فی الأدب العربی لسبب واضح هو أن المعانی الإسلامیة ذائبة فی نفس علی (ع) وهی بعد جدیدة على غیره فقد كان (( مما انعم الله على علی بن أبی طالب (ع) أنه كان فی حجر رسول الله صلى الله علیه وسلم قبل الإسلام )) ([3]) ، إذ رباه الرسول (ص) بعد أن مست الضراء بیت أبیه أبی طالب إثر القحط الذی ضرب قریشا ، فاستخلصه النبی(ص) لنفسه وكانت تلك بدایة علاقة الإمام(ع) بالقرآن لأنه كان لا یفارق ابن عمه حتى فی تأملاته فی غار حراء، وقد صور الإمام علی (ع) نفسه هذه المرحـلة من حیاته مع رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) فقال من خطبة له : (( وَ لَقَدْ كَانَ یُجَاوِرُ فِی كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ ، فَأَرَاهُ وَ لَا یَرَاهُ غَیْرِی ، وَ لَمْ یَجْمَعْ بَیْتٌ وَاحِدٌ یَوْمَئِذٍ فِی الْإِسْلَامِ ، غَیْرَ رَسُولِ اللَّهِ (ص) وَ خَدِیجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا ، أَرَى نُورَ الْوَحْیِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِیحَ النُّبُوَّة )) ([4]) . لهذا نشأ الإمام (ع) حافظا للقرآن واعیا لآیاته یعرف باطنها مثلما یعرف ظاهرها وهو ما أكده النبی(ص) بأحادیثه فی فضل علی(ع) ([5]) . قال ابن أبی الحدید(ت656هـ): (( وقد اتفق الكل على أنه كان یحفظ القرآن على عهد الرسول صلى الله علیه وآله ولم یكن غیره یحفظه، ثم هو أول من جمعه ))([6]).

 

إذن فقد كان النص القرآنی حاضرا فی ذهن الإمام یستدعیه من ذاكرته كیفما یشاء فكان قوله وسلوكه تعبیرا حقیقیا عن روح القرآن ولغته ، وكان یسعى إلى وجوب إحلال هذه الثقافة فی النفوس و استبدال البناء اللغوی الجاهلی بآخر جدید معجز فی بنائه حتى فی المعانی التی كان العربی یعتقد أن الشعر الموروث وحده القادر على التعبیر عنها والإجادة فیها مثل التعبیر عن الطلل وعبر الذكریات ، فقد جاء فی  كتاب ( وقعة صفین ) أن الإمام علیا (ع) لما سار بجیشه إلى صفین مر بمدینة بهرسیر ([7]) ، وإذا رجل من أصحابه یقال له حر بن سهم بن طریف من بنی ربیعة بن مالك ینظر إلى آثار كسرى ویتمثل بقول الشاعر الجاهلی الأسود بن یعفر ([8]) :

 

جرت الریاح على محل دیارهم

 

 

 

 

 

فكأنهم كانوا على میعاد

 

فقال له (ع) :(( أفلا قلت : { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُیُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِیمٍ *وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِیهَا فَاكِهِینَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِینَ * فَمَا بَكَتْ عَلَیْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِینَ }([9]) إن هؤلاء كانوا وارثین فأصبحوا مورثین ، ولم یشكروا النعمة ، فسلبوا دنیاهم بالمعصیة ، إیاكم وكفر النعم لا تحل بكم النقم ، انزلوا بهذه النجوة )) ([10]) .

 

   وعلى الرغم من أن الإمام(ع) إنما نهى عن ذكر هذا الشاعر خاصة لأنه من كبار شعراء قریش الذین عارضوا الإسلام وأعلنوا وثنیتهم كما فی قوله([11]) :            

 

أیوعدنا ابن كبشة أن سنحیــى

ألا من مبلغ الرحمــــــن عنی

 فقل لله یمنعنــی شرابــــــــی

 

 

 

 

 

 

وكیف حیاة أصداء وهام

بأنی تارك شهـر الصیام

وقل لله یمنعنــــی طعامی

 

بید أن التطابق الجدید بین الأداء والمضمون على أروع ما تكون صورته ، فهذا التخیر للشاهد القرآنی فی مثل هذه المعانی لم یألفه العربی من قبل وربما لم یتصور أن غیر الشعر یمكن أن یؤثر فیه ، ولا ریب فی أن إیرادها یعد تطبیقا حیا ینقل النظریة إلى التطبیق ویوحی بوجوب الإفادة من الوقوف على آثار الماضین وهو كله ینبئ عن ذوبان الإمام (ع) فی القرآن ، ولذلك نجد فی كلامه (ع) ما یشبه الإحجام عن ثقافة الشعر الجاهلی فلیس فی كلامه ظلالها ، فهو مقل على كثرة خطبه ورسائله من الاستشهاد بالشعر الجاهلی ، وإن تمثل ببیت منه فهو یتخیره من الحكم التی تجری أمثالا سائرة ، ولا یمكن تفسیر قلة تمثل الإمام (ع) بالشعر الجاهلی بعدم معرفته به أو خلو حافظته منه ، بل یدل استشهاده وتخیره لأبیات منه على درایة واسعة بمضامینه ومناسباتها وقائلیها ، وهذا التخیر یعنی أنه یحفظه ویحسن استثماره فی كلامه ، ولكنه لم یتأثر به أسلوبا ولم یتبع صیاغاته أو یستعر صوره ولم یتفق معه إلا من خلال الأبیات التی تجری مجرى المثل السائر ، فجل عدد الأبیات التی تمثل بها فی كلامه الواصل إلینا فی ( نهج البلاغة ) أثنا عشر بیتا أكثرها من أنصاف الأبیات([12]) .

 

     ألیس ذلك دلیلا على عدم تأثره بالأدب الجاهلی على علو كعبه ؟ .

 

    وماذا یصنع علی (ع) بأدب لا یمس قیمه ولا یمثل الفكر الذی آمن به ؟ ، ولا یعنی ذلك غضا من شأن الشعر الجاهلی ولكنه (ع) متأثر بشكل كلی بأدب القرآن وصوره وأسالیبه ، ومن(( قصد البحر استقل السواقیا )) كما یقول المتنبی .

 

     إذن الإمام (ع) انبعث فی سلوكه من ثقافة قرآنیة وعاها وذاب فی معانیها فجسدها فی عمله مثلما جرت على لسانه بیانا وإبداعا ، لأن لغة الإمام تطابق صادق بین الإیمان والعمل وبین المعنى والأداء اللفظی ، وهذا سر بلاغته وتفرده عن أبناء عصره .   

 

( ([1]طه أحمد إبراهیم ، تاریخ النقد الأدبی : 107

 

( ([2]ظ. الجاحظ ، البیان والتبیین : 2/16

 

( ([3]الطبری ، تاریخ الطبری : 2/213

 

(  ([4]الإمام علی(ع) ، نهج البلاغة : 2/238

 

(  ([5]ظ.النسائی ، خصائص أمیر المؤمنین : 131

 

(  ([6]ابن أبی الحدید ، شرح نهج البلاغة : 1/28

 

( ([7]من نواحی سواد بغداد فی غربی دجلة وهی إحدى المدائن السبع التی سمیت بها المدائن ظ. یاقوت الحموی ، معجم البلدان : 1/515 .البلاذری ، فتوح البلدان : 2/322

 

( ([8]تنظر ترجمته فی الشعر والشعراء لابن قتیبة : 255 . البغدادی ، خزانة الأدب : 1/389 . الزركلی ، الأعلام : 1/330

 

(  ([9]الدخان : 25-29

 

(  ([10]نصر بن مزاحم ، وقعة صفین : 142 

 

(  ([11]تنظر الأبیات فی بعض كتب التفسیر والأدب -لأنها لیست موجودة فی دیوانه- فی آیات تحریم الخمرة مثل : الطبری ، جامع البیان : 2/492. الطباطبائی ، المیزان : 6/132. الثعلبی ، تفسیر الثعلبی : 2/142. الأبشیهی ، المستطرف : 2/229

 

(  ([12]ظ. صبحی الصالح ، نهج البلاغة (فهارس الشعر): 818 .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ما هي ليلة الجهني، و لماذا سُمِّيت بالجهني؟
الضبط والحرية
اعمال اليَوْمُ الاوّل من شهر رمضان المبارک
من هم كتّاب الوحي؟
انتقال الخلافة إلى الأمويين
الاطفال يبكون في ارحام امهاتهم
تاريخ أربعينية الإمام الحسين عليه السلام
الْيَومُ الحادي وَالعِشرون
الخصائص الحسنيّة (1)
مكة والمدينة في علوم القرآن

 
user comment