والآن بعد أن اطَّلعنا على أُمهات المطالب المتعلّقة بصفات الذات ينبغي التعرّف على بعض صفات الفعل.
وندرس هنا ثلاث صفات فقط من صفات الفِعل:
1. التكلّم.
2. الصِدق .
3. الحِكمة.
الأصلُ الثامن والثلاثون: كون الله متكلّماً
إنّ القرآن الكريم يصفُ الله تعالى بصفة التكلّم إذ يقول: ( وَكَلَّم اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) ([1] ) .
وقال أيضاً: ( وَما كانَ لِبَشَر أنْ يُكلِّمَهُ اللهُ إلاّ وَحْياً أوْ مِن وَراءِ حِجاب أو يُرْسِلَ رَسُولاً) ([2] ) . وعَلى هذا الأساس لاشكّ في كون التكلّم إحدى الصّفات الإلهيّة.
إنّما الكلام هو في حقيقة التكلّم وأنّ هذه الصِفة هل هي من صِفات الذات أم من صفات الفعل؟ إذْ مِنَ الواضح أنّ التكلّم بالشَكل الموجود عند الإنسان لا يجوزُ تصوّرُهُ في الحقّ تعالى.
وحيث إنّ صفَةَ التَكّلم ممّا نطق بها القرآن الكريم، وَوَصَف بها الله، لذلك يجب الرّجوع إلى القرآنِ نفسه لِفَهم حقيقته كذلك.
إنّ القرآن يقسّم تكلّم اللهِ مع عباده ـ كما عرفنا ـ إلى ثلاثةِ أنواع، إذ يقول: ( وَما كانَ لِبشَر أن يُكلِّمهُ اللهُ إلاّ وَحْياً أو مِن وَراء حِجاب أو يُرسِلَ رَسُولاً فيوُحِيَ بإذنِهِ ما يشاء إنّه عَليٌّ حَكيْمٌ) ([3] ) .
إذَن فلا يمكن للبشر أن يكلّمهُ الله إلاّ من ثلاث طرق:
1 ـ «وَحْياً» الإلهام القلبي .
2 ـ «أو مِنْ وَراءِ حِجاب» كأن يكلّم اللهُ البشرَ من دون أن يراه كتكلّم اللهِ مع موسى ـ عليه السَّلام ـ .
3 ـ «أو يُرسِلَ رسولاً...» أي مَلَكاً يوحي إلى النبيّ بِإذنِ الله تعالى.
ففي هذه الآية بَيَّنَ القرآنُ تكلُّمَ اللهِ بأنّه تعالى يوجدُ الكَلامَ تارةً من دون واسطة، وَأحْياناً مع الواسطةِ، عَبر مَلك من الملائكة.
كما أنّ القِسمَ الأوّل تارةً يكون عن طريقِ الإلقاء والإلهام إلى قلب النبي مباشرةً، وتارةً بالإلقاء إلى سَمْعِهِ ومنه يصلُ الكَلامُ إلى قلبه. وعلى كلّ حال يكونُ التكلّم بِصُوره الثلاث بمعنى إيجاد الكلام وَهَو من صِفات الفعل.
إنّ هذا التَفْسير والتحليل لصفة التكلّم الإِلهيّ هو أحدُ التفاسير التي يمكن استفادتها بمعونةِ القرآنِ وإرشاده وهدايته.
وهناكَ تفسيرٌ آخرٌ لهذه الصفةوهو: أنَّ اللهَ اعتبر مخلوقاتهِ من كلماتِه فقال: ( قُلْ لَوْ كانَ البَحْرُ مِداداً لِكَلماتِ رَبّي لَنَفدَ البَحرُ قَبْلَ أنْ تَنَفَدَ كَلِماتُ رَبِيّ وَلوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) ([4] ) .
فالمقصودُ من «الكلمات» في هذه الآية هو مخلوقات الله الّتي لا يقدرُ شيءٌ غيرُ ذاته سبحانه على إحصائها وعدّها، ويدعم هذا التفسيرَ للكلمة وصفُ القرآن الكريم المسيحَ ابنَ مريم ـ عليه السَّلام ـ بأنّه «كلمة الله» إذ قال: ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إلى مَرْيمَ) ([5] ) .
إنّ الإمام أميرَ المُؤْمنين ـ عليه السَّلام ـ فسّر تَكَلّم الله تعالى في إحدى خُطَبِه وأحاديثه بأنّه إيجادٌ وفِعلٌ، فقال: «يَقُولُ لِمَنْ أرادَ كَوْنَهُ «كُنْ»، لا بصَوت يَقرَعُ، ولا بنداء يُسْمَعُ وَإنّما كَلامُهُ سُبحانَه فِعلٌ منه، أنشَأهُ وَمَثَّله»([6] ).
فإذا كان الكلام اللفظيّ معرباً عمّا في ضمير المتكلّم، فما في الكون من عظائم المخلوقات إلى صغارها يعرب عن علم الله تعالى وقدرته وحكمته.
الأصل التاسعُ والثلاثون: هل القرآن مخلوق أم قديم؟
اتّضح مِنَ البَحْث المتَقَدّم الذّي تضمّن تفسيراً لِحقيقة كلامِ الله، بنحوين، أنَّ التفسيرَ الثاني لا يخالف التفسير الأوّل، وانّه سبحانه متكلم بكلا الوجهين.
كما ثَبَتَ أنَّ كلامَ اللهِ حادثٌ وليس بقديم، لأنّ كلامَهُ هو فِعْلُه، ومن الواضح أنّ الفِعلَ حادثٌ، فَيَنتُجُ من ذلك أنّ «التكلّم» أمرٌ حادِثٌ أيضاً.
ومع أنّ كلامَ الله حادثٌ قطعاً فإنّنا رعايةً للأدب، وكذا دَرءاً لسوءِ الفهم لا نقول: إنّ كلام الله (القرآن) مخلوق إذ يمكن أن يصفه أحدٌ في ضوء ذلك بالمجعول والمختلق وإلاّ فإنّ ما سوى اللهِ مخلوقٌ قطعاً.
يقول سليمان بن جعفر الجعفري: سألت الإمامَ عليَ بن موسى بن جعفر ـ عليه السَّلام ـ : يا اْبن رسول الله أخبِرني عن القرآن أخالقٌ أو مخلوقٌ؟ فأجاب ـ عليه السَّلام ـ قائلاً: «ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنّه كلامُ الله عزّ وجلّ»([7] ).
وهنا لابدّ من التذكير بنقطة تاريخية في هذا المجال وهي أنّه طُرحت في أوائل القرن الثالث الهجري، في عام 212 هـ في أوساط المسلمين مسألة ترتبط بالقرآن الكريم، وهي: هل القرآنُ حادثٌ أو قديمٌ؟
وقد صارت هذه المسألة سبباً للفرقة والاختلاف الشديدين، على حين لم يمتلك القائلون بِقدَم القرآن أيَّ تبرير صحيح لمزعمتهم، لأنّ هناك احتمالات يكون القرآنُ حسب بعضها حادثاً، وحسب بعضها الآخر قديماً.
فإذا كان المقصود من القرآن هو كلماته التي تُتلى وتُقرَأ، أو الكلمات التي تلقّاها الأمينُ جبرائيل، وأنزلها على قلب رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فإنّ كل ذلك حادثٌ قطعاً ويقيناً.
وإذا كان المقصود هو مفاهيم الآيات القرآنية ومعانيها، والتي يرتبط قسمٌ منها بقصص الأنبياء، وغزوات الرسول الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ، فهي أيضاً لا يمكن أن تكون قديماً.
وإذا كان المقصودُ هو علم الله بالقرآن لفظاً ومعنى فإنّ من القطعيّ والمسلَّم به هو أنّ علم الله قديمٌ، وهو من صفات الذات، ولكن العلِمَ غيرُ الكلام كما هو واضحٌ.
الأصلُ الأربعون: كون الله صادقاً
ومن صفاته سبحانه «الصدقُ» وهو القول المطابق للواقع في مقابل الكذب الذي هو القول المخالف للواقع.
فاللهُ تعالى صادقٌ لا سبيلَ للكذب إلى قوله، ودليلُ ذلك واضحٌ تمام الوضوح، لأنّ الكذبَ شيمةُ الجَهَلة، والعَجَزة والجُبَناء. والله منزهٌ عن ذلك كُلّه.
وبعبارة أُخرى ; إنَّ الكذبَ قبيحٌ والله منزهٌ عن القبيح.
الأصلُ الواحدُ والأربعون: كون الله حكيماً
ومِنَ الصّفات الكماليّة الإلهيّة «الحكمةُ» كما يوحي بذلك تسميتهُ تعالى بالحكيم.
والمقصود من كون الله حكيماً:
أوّلاً: أنّ أفعال الله تعالى تتسم بمنتهى الإتقان والكمال.
ثانياً: أنَّ الله تعالى منزّهٌ عن الأفعال الظالمة، والعابثة.
ويدل نظامُ الخلق الرائع العجيب على المعنى الأوّل حيث أُقيم صرحُ الكَون العظيم على أتّم نظام وأحسن صورة، إذ يقول:
( صُنْعَ اللهِ الَّذِي أتْقَنَ كُلَّ شيء ) ([8] ) .
ويشهد بالمعنى الثاني قولُه تعالى:
( وما خَلَقْنا السَّماءَ واْلأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) ([9] ) .
وهو أمرٌ يَدْعَمُه العلمُ والعقْلُ كلَّما تقدَّم بهما الزمنُ، وَوَقفنا على أَسرارِ الكونِ وقوانينه.