إن هيكل الحقوق الإنسانية لن يتصدع طالما فُهِمَ معنى الحقوق الأساسية كما يفهمه الإسلام، أي أن الحقوق ليست من وضع الإنسان، إنما يجدها الإنسان فيتعرف عليها، وليس هو موجدها.
إن المعوَّلَ في قيام حقوق الإنسان أو سقوطها إنما يتعلق أولاً وأخيراً بالإيمان بالله: فإذا أنكر إمرئٌ وجود الله، فإنه بهذا يضع كافة الحقوق تلقائياً تحت تصرف الإنسان أو رحمته، حتى لو استطاع بذلك خداع نفسه حيناً من الدهر، بإشارته إلى الحقوق الطبيعية المزعومة.
فضلاً عن ذلك، فإنه لم يتح لأي إنسان منذ بدء الخليقة أن يخرج علينا بنظام قانوني مقنع عام، استقاه أو استوحاه من مراقبته الدارسة للطبيعة... والحق أن غاية ما يتوصل إليه الإنسان وحده في مثل تلك الحالات مجرد إسقاط لتصورات مثالية من الإنسان على بيئته، بحيث لا يبحث عن أساس لصلاحية أو كفاءة القانون إلا في العرف أو التقليد في التطابق الاجتماعي.
أما التصدع الثاني، فقد نتج عن تطور المطالب التي وُجِّهت إلى الدولة بشأن حقوق الإنسان: فالمعروف أن الصياغة التي تناولت حقوق الإنسان التقليدية في القرون المنصرمة، إنما كانت بالدرجة الأولى للحد من سلطة الدولة وتقييدها، أي أنها حريات من الاستقلال والتحرر إلى الحرية، فليس للدولة دون مبرر أن تفرض الضرائب، أو تعتقل إنساناً، أو أن تنزع ملكيته، أو أن تحكم عليه بالإعدام. المدار في ذلك لم يكن حول: ماذا ينبغي على الدولة فعله، وإنما ماذا لا يجوز للدولة فعله.
بيد أن العصر الحديث شهد صياغة أخرى لحقوق الإنسان تتمثل فيما ينبغي على الدولة عمله، أي واجبات الدولة التي يراها الإنسان من حقه عليها: أي على الدولة أن تضمن لكل فرد فيها عملاً وسكناً، ورعاية صحية طبية، بل والاستمتاع بالطبيعة، وبحظّه من الحياة... ولقد أدى هذا إلى الإفراط والتضخم في حقوق الإنسان، وإلى توسيع رقعة اختصاص الدولة.
وكلا الأمرين يمكن أن يتهدد بنية حقوق الإنسان، تماماً مثل فقد المركزية الدينية.
إن عدم إلقاء ضوءٍ كافٍ على المعالجة النظرية لحقوق الإنسان، يرجع بشكل رئيس إلى طريقة العرض التقليدية للقانون والحقوق في الإسلام:
فالحقوق كلها سواء في الإسلام، لا تفريق فيه بين أولوية أحدِها على سواه فالحق حق، وذلك من حيث تناولُها بالتصنيف على أسس القرآن الكريم بشكل مبدئي، لهذا لا تنفرد حقوق الإنسان في مراجع الفقه أو القانون الإسلامي بمعالجة مستقلة بهذا المعنى، وإنما يتم علاجها في إطار مباحث أخرى، متعلقة بقانون الأحوال المدنية الشخصية، وقانون العقوبات، والقانون الاقتصادي.
وتوافق هذا الفهمَ الموضوعي المعرفةُ الإسلاميةُ المقتنعةُ بأن كل الحقوق، بما فيها حقوق الإنسان، لا يمكن ضمان تحقيقها في واقع القضاء، إلا إذا سَلِمَ النظام القانوني كله، بمعنى أن الهدف الأعلى للعدالة لا يتحقق إلا إذا كان نتاجَ نظامٍ اجتماعيٍ شامل سليم.
على أن الأهم من التنظيم أو التصنيف العلمي لتصور القانون، تطبيق الجوهر ومعرفة موقف الإسلام من مضمون حقوق الإنسان.
ومن حسن الحظ أنه لا تعارُض أو تناقُض بين وجهة النظر الغربية، وبطبيعة الحال بين وجهة النظر الإسلامية، فيما يتعلق بالتصور المثالي للعلاقة بين الدولة والمواطنيين. فعلى الأسس التي أرساها القرآن الكريم، تضمن الشريعة الإسلامية قوانين مختلفة تكفل توافر الحقوق، وبخاصة:ـ حق الحياة ـ سلامة الجسد ـ الحرية ـ المساواة في المعاملة ـ الملكية الخاصة ـ حرية الضمير ـ الزواج (عقد القران) ـ سماع أقوال المدعي والمدعى عليه قانونياً ـ براءة المتهم حتى تثبت إدانته ـ لا عقاب بدون سابق إنذار ـ الحماية من التعذيب ـ حق اللجوء. ولابد أن ننبه إلى أن هذه الحقوق التي كفلها الإسلام ترجع إلى ألف وأربعمئة عام.
ولقد يكون من الأهمية في هذا الصدد الالتفات إلى الاختلافات بين مدونات القوانين الغربية وبين الحقوق التي ضمنها الإسلام منذ ألف وأربعمئة عام، ذلك أن هذه الاختلافات تقتصر على النقاط القليلة التالية:
1- تنص مواثيق حقوق الإنسان، بما في ذلك اتفاقيات حقوق الإنسان الأوروبية الصادرة في 4/11/1950 على صيغ بشأن المساواة بين الجنسين، خاصة أمام القضاء، وفي العلاقة الزوجية، والتي لا يمكن أن توافق أو تصادق عليها الدول الإسلامية إلا تحت شروط معينة.
فالإسلام، لا يضع من شأن المرأة أو يحتقرها في قياسه لها بالرجل، لأن المعاملة في القانون الإسلامي تقوم أن الجزاء من جنس العمل، فالحسنة بالحسنة، والسيئة بالسيئة، وهنا مرتبط الفرس ولبّ المشكلة، فالنظرية الغربية تنكر الفروق القانونية المهمة بين الجنسين أصلاً وبشكل رئيسي، بينما لا ينساق الإسلام كلية وراء هذا الافتراض الخيالي.
2- بناءً على القانون الإسلامي، يمكن للإنسان أن يدين بدين غير دينه، دون أن يضار لاعتناقه الدين الجديد، لكن هذا الحق ليس مسموحاً به للمسلم... فالمسلم المرتد يتحَمل عواقب ارتداده، وأقلها منعه من ميراث أي مسلم، وقد تكون لارتداده عواقب أسرية وخيمة (بطلان زواجه من الزوجة المسلمة)، وهذا ثابت قطعاً، على إعدام المرتد المسلم.
3- المواطنون غير المسلمين في البلاد الإسلامية، لا يتمتعون في المجال السياسي بفرص متكافئة مع المسلمين لاحتلال المناصب السياسية الرئيسة، كما لا يسمح لهم بتولي منصب الخليفة أو الحاكم (على أنه يجب التنبيه إلى أن وضع غير المسلم في هذا المجال ليس أسوأ من وضع المواطن الأمريكي المولود خارج أمريكا، إذا ارتأى ذلك الأمريكي مثلاً أن يرشح نفسه لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية).
4- عقوبة الإعدام: يطبق الإسلام هذه العقوبة (التي لا يمكن تصويب خطئها بعد إعدام المظلوم مثلاً)، رغم جهود عالمية بذلت لإلغاء هذه العقوبة، خاصة أيام النازية الهتلرية، وإبان النظام الشيوعي حيث أسيء استخدام عقوبة الإعدام مئات الآلاف من المرات، وترفض الدول الإسلامية إلغاء عقوبة الإعدام لأن القرآن حدَّدها عقاباً لِثلاثٍ من الجرائم الكبرى وهي الخيانة العظمى، والقتل، وقطع الطريق بالسلب والنهب والسرقة كرهاً وعمداً. وهذا أيضاً ثابتٌ في الإسلام.
5- ثمة مشكلة مماثلة، لكنها لحسن الحظ مشكلة شكلية، وتتمثل في الرقّ الذي يشجبه العالم اليوم ويستقبحه في كل مكان، فقد كان الرقيق في الإسلام، مسموحاً به في قانون الحرب، وذلك باعتبار أسرى الحرب من غير المسلمين رقيقاً، على أنهم كانوا يعتبرون ملكاً شخصياً لمن خرجوا في سهمه، لهم حقوق مكفولة، وعليهم واجبات محددة، ولم يكونوا يعاملون بأية حال معاملة مهينة لا إنسانية فيها، كالتي جسمتها القوانين الرومانية، حيث اعتبرتهم متاعاً أو أشياءً أو تراثاً حقيراً.
ولا ينسيّن أحد أن الله حثّ على تحرير الرقبة في مواضع مختلفة من القرآن، وعظّم أجر من يمنح الإماء والذكور من الرقيق الحرية، وبهذا بدأ القرآن نفسه الحملةَ لتحرير الرقيق.
ولن تجد المسلم الجاد اليوم، الذي يرتضي عودة الرقيق، فقد شاءت إرادة الله أن يبرأ منه وأن يتجاوز ذلك المرفقَ الذي واراه التاريخ، أما إذا ذَكَرَ المسلم وجود الرقيق في الإسلام، فإنما يذكره كما ذكره القرآن، حفظاً على التكامل وعدم المساس بأي حرف من القرآن، لتبقى للقرآن موثوقيته، التي لا يُخَلُّ بها أبداً.
بعد كل هذا يتبقى أن نعيد أنه لا تعارض أو تناقض في الجوهر بين الإسلام، وبين مبادئ حقوق الإنسان، بل العكس يجب أن يذكر، لبيان عظمة الإسلام بوصفه نظاماً شاملاً متكاملاً في احترامه لحقوق الإنسان وتأكيدها.