عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

النقطة الخامسة ما هو مدى امكان تنامي البشريّة في سُلَّم العرفان والذوبان في ذات اللَّه تعالى وتزكية النفس؟

وهنا - ايضا - نقتصر على نَقْلِ ما ذكرناه في كتابنا مباحث الاصول الجزء الاوّل من القسم الاوّل ضمن بحث (دلالة الامر على الوجوب) تحت الخط، وهو ما يلي:
 ذكر استاذنا الشهيد - رحمه اللَّه - في مُقدّمة كتاب فلسفتنا ما حاصله: انَّ المحرك الرئيسي للإنسان في كلِّ نشاطاته هو: حبُّ الذات، فهو الواقع الطبيعيُّ الذي يكمن وراء حياة الانسانيّة كلِّها، ويوجهها باصابعه، والذي نعبِّر عنه بحبِّ اللَّذة وبغض الالم. ولا يمكن تكليف الانسان ان يتحمَّل مختارا مرارة الالم دون شي ء من اللَّذة في سبيل ان يلتذَّ الاخرون وينعموا، الا اذا سُلِبت منه انسانيّته، واعطيَ طبيعة جديدة لا تتعشَّق اللَّذة ولا تكره الالم، وحتَّى الالوان الرائعة من الايثار التي نشاهدها في الانسان ونسمع بها عن تاريخه تخضع في الحقيقة - ايضا - لتلك القوة المحرِّكة الرئيسة: (غريزة حب الذات).
 فالانسان قد يُؤْثِر ولده او صديقه على نفسه، وقد يضحِّي في سبيل بعض المُثُل والقيم، ولكنَّه لن يقدم على شي ء من هذه البطولات ما لم يحسّ فيها بلذَّة خاصة ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم من ايثاره لولده وصديقه او تضحيته في سبيل مَثل من المُثل التي يؤمن بها . وهكذا يمكننا ان نفسِّر سلوك الانسان بصورة عامّة في مجالات الانانية والايثار على حدٍّ سواء، ففي الانسان استعدادات كثيرة للالتذاذ باشياء متنوعة: مادِّيّة كالالتذاذ بالطعام والشراب والوان المتع الجنسية وما اليها، او معنويّة كالالتذاذ الخُلُقيّ والعاطفيِّ بقيم خُلُقيّة او اليف روحي، او عقيدة معيَّنة حين يجد الانسان تلك القيم او ذلك الاليف او هذه العقيدة جزءا من كيانه الخاصِّ.
 وهذه الاستعدادات التي تهيِّئ الانسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوِّعة تختلف في درجاتها عند الاشخاص، وتتفاوت في مدى فعليَّتها باختلاف ظروف الانسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثِّر فيه، فبينما نجد انَّ بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الانسان بصورة طبيعيّة كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلاً، نجد انَّ الوانا اخرى منها ربَّما لا تظهر في حياة الانسان، وتظلُّ تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتحها، وغريزة حبِّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعا تُحدِّد سلوك الانسان وفقا لمدى نضج تلك الاستعدادات، فهي تدفع انسانا الى الاستئثار بطعام على اخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع انسانا اخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه؛ لأنَّ استعداد الانسان الاوّل للالتذاذ بالقيم الخُلُقيّة والعاطفيّة الذي يدفعه الى الايثار كان كامنا، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته، بينما ظَفِرَ الاخر بهذا اللَّون من التربية، فاصبح يلتذُّ بالقيم الخُلُقيّة والعاطفيّة، ويضحِّي بسائر لذَّاتها في سبيلها.
 اذن، فكلُّ الويلات المنتشرة في العالم قامت على اساس مجموع امرين:
 الاوّل - هو حبُّ الذات الكامن في نفس الانسانيّة، او قل: تعشُّق اللَّذة وكره الالم.
 والثاني - انحصار المصالح التي تحقِّق اللَّذة وتعالج الالم في مصالح مادّيّة دنيويَّة ضيّقة يقع التكالب عليها بين الناس والتزاحم والمنافسات، فتحصل ما تحصل من المصائب والمحن والظلم والرزايا التي يضجُّ بها العالم اليوم.
 وتدَّعي الشيوعيّة انَّها ستعالج ذلك من طريق القضاء على الامر الاوّل وهو حبَّ الذات، فيصبح الفرد - عندئذ - متعشِّقا للمجتمع لا لنفسه.
 الا انَّ هذا الحلَّ حلٌّ طوبائيٌّ بحت؛ لأنَّ حبُّ الذات ذاتيٌّ للإنسان، ولامعنى لانتزاعه عنه، الا بانتزاع ذاتيَّته تبديلها الى شي ء اخر غير الانسان.
 ويقول الاسلام: انَّ علاج المشكل يجب ان يكون بمعالجة الامر الثاني، وذلك بتوسيع نطاق المصالح في دائرة عريضة لا يؤدِّي التسابق فيها الى التزاحم والتعارض والتكالب، فيحصل كلُّ فرد على مصالحه وملاذّه بقدر ما اوتيَ له من قوَّة، من دون ان ينقص من الاخر شي ء. وبالفعل هذا هو الذي فعله الاسلام بتوسيعه لدائرة المصالح من بُعدين:
 احدهما - بيان انَّ مصالح الفرد ليست محصورة في دائرة المصالح المادِّيّة الدنيويّة الضيِّقة؛ بل له جَنَّة عرضها السماوات والارض اعدَّت للمتقين.
 والثاني - تربية الجانب الخُلُقي النبيل في الانسان، وتنمية قابلياته الاخلاقيّة الكامنة في نفسه: من صفات الايثار، والعطف، والرحمة، والوفاء، والصدق، وما الى ذلك. وتتصادق كلتا المصلحتين الاخرويّة والخُلُقيّة في تحصيل رضا اللَّه سبحانه وتعالى.
 وهذا هو الاسلوب المعقول القابل للتطبيق، فاذ اصبح المجتمع لا يهدِف الا رضا اللَّه سبحانه وتعالى - والذي يكون كفيلاً له بكلتا اللذَّتين وجامعا له المصلحتين - تنتهي كلُّ الوان الظلم والتعسف والويلات والدركات، ويسود العالَم العدل والرفاه والخيرات والبركات.
 اقول : قد يورد على ذلك : بانَّه لم يبقَ اذن فرق في القيمة المعنويّة والخُلُقيّة، بين عمل الظالم الجائر الخسيس اللئيم وعمل الانسان الشهم النبيل الشريف ما داما جميعا يتحركان من وراء اللَّذة وحبِّ الذات.
 ولكنَّ الجواب الى هذا الحدِّ واضح، فانَّ الفرق في القيمة بينهما يبقى في انَّ الرذل والخسيس هو الذي يلتذُّ بالرذائل والخسائس والسفاسف، والشريف وطيِّب النفس هو الذي يلتذُّ بالفضائل والحسنات وصفات الايثار والنُبل. والفرق بين العملين او الوصفين او الشخصين يبقى كالفرق بين الارض والسماء، فهما شريكان في اصل الالتذاذ، واندفاع كلِّ منهما وراء ما يلتذُّ به، ولكنَّهما يختلفان اختلافا عظيما يصعب تصوّر مداه فيما يلتذَّان به ويقصدانه.
 واقصى ما يمكن ان يُتوقَّع من المجتمع العام في الاهتمام بتحصيل رضا اللَّه هو: الوصول الى هذا المستوى الذي لو كان هناك امل في وصول الجميع او الاكثريّة القاطعة اليه، فانّما هو بلحاظ زمان حضور المعصوم وعمله المباشر في تربية البشريّة.
 ولكن هذا كلَّه لا يمنع عن بيان انَّ الخاصّة من العارفين باللَّه يكون طريق التعالي لهم مفتوحا بما هو اكثر من ذلك.
 ولتوضيح ذلك نبدا بالحوار الذي جرى بيني وبين استاذي الشهيد -رضوان اللَّه عليه - حول ما مضى نقله عن مقدّمة فلسفتنا حيث قلت له رحمه الله  : انَّ هذا البيان يقلِّل من قيمة البطولات الاسلامية والتضحيات والالتزام بالمُثُل وبالفضائل؛ وذلك لأنّها - حسب الفرض - تنشا من نفس المنشا الذي تنشا منه الرذائل وشتَّى الوان الظلم والخيانة والاجرام، وهو: حبُّ الذات واللَّذة وكُره الالم (صحيح: انّه لا يقاس بين من يلتذُّ بالفضائل ومن يلتذّ بالرذائل، ولا بين اتِّصاف الشخص بهذه او بتلك، او بين اتيانه بهذه لداعي الالتذاذ بها او بتلك لداعي الالتذاذ بها) ولكن مع ذلك نرى -على ايِّ حال - انَّ هذا اسقاط للقيم العالية والمُثُل العُليا التي تصدر بروح الفداء والتضحية والنُبل والشهامة عن درجة كُنَّا نفترضها ونتصوَّرها اذ تبيَّن انّها - على ايَّة حال - تنشا من دافع حبِّ الذات والانا والالتذاذ.
 فاجاب - رضوان اللَّه تعالى عليه - عن ذلك بانَّ ما قلناه: - من انَّ اللَّذة والالم هما اللَّذان يدفعان الانسان النبيل الى النُبل والفضيلة، كما يدفعان الانسان اللئيم الى اللؤم والرذيلة - لم نقصد به كون تلك اللَّذة او اندفاع الالم هما العلَّتان الغائيَّتان للفعل، وانّما قصدنا كونهما العلَّتين الفاعليَّتين، فالذي يضحِّي في سبيل مَثَلٍ او مبدا، او في سبيل محبوب له، كولدٍ له او صديق او اللَّه سبحانه وتعالى، فهو لا يفعل ما يفعل لغاية التذاذه هو او ارتياحه من الالم النفسيِّ، بل يفعل ذلك لأجل ذاك المَثَل او المبدا او المحبوب ؛ لأنّه يعشق ذلك، ولكن هذا العشق او الحبّ قد جعل في الفعل لذَّة او في الترك الما، والانسان خُلِق بنحو لولا هذه اللَّذة او ذاك الالم لما اندفع نحو ما يندفع، فهذه اللَّذة او ذاك الالم هو الذي يُؤثِّر فاعليَّا في اندفاعه نحو محبوبه او في فراره من مبغوضه. اذن، ففرقٌ بين الغاية التي يندفع باتجاهها، وهي : ما يحبُّه ويريده والدافع الذي يدفعه بذاك الاتجاه دفعا فاعليا، وهو: اللَّذة الكامنة في الفعل، والقيمةُ الخُلُقيّة تنشا من شرافة الغاية وسموِّ الهدف.
 اقول : انَّ حصر العلَّة في اللَّذة والالم غير صحيح، سواءٌ كان الملحوظ هي العلَّة الغائيَّة او العلَّة الفاعليِّة.
 امّا لو كان الملحوظ هي العلَّة الغائيَّة، فانَّنا نستطيع توضيح بطلان ذلك بالفات النظر الى مقدّمتين:
 الاولى - انَّ اللَّذة والالم غير الحبِّ والبغض كما هو واضح، فانَّ الحبَّ والبغض يتحقَّقان قبل تحقُّق المحبوب والمبغوض، واللَّذة والالم يتحقَّقان بتحقُّقهما ولو في علم الشخص، ايْ: بالوجود العلميِّ والذهنيِّ لتحققهما، سواءٌ طابق الواقع او لا، فهما وليدا الحبِّ والبغض، بل هما وليدا العواطف المرافقة للحبِّ والبغض، لاوليدا نفس الحبِّ والبغض؛ ولذا قد ترى - نادرا - التفكيك بينهما، كمن ينتزع قِرطيْ بنت الحسين عليه السلام  ويبكي، فهناك لديه عاطفة اوْجَبَتْ المه وبكاءه، لكنَّه كان انتزاع القِرط لديه - بعد التكاسر بين مجموع المصالح والمفاسد في نظره - محبوبا، فالعاطفةُ التي اوْجَبَتْ بكاءه انفصل مسيرها صدفة عن مسير الحبِّ الذي تعلَّق بعد تكاسر المصالح والمفاسد بالفعل.
 والثانية - انَّ كون الشي ء غاية للإنسان عبارة اخرى عن مطلوبيّته له ومحبوبيَّته وتعلّق شوقه المؤكَّد به. اذن، فالعلَّةُ الغائيّة ليست هي تحقُّق اللَّذة واندفاع الالم، بل هي مُتعلَّق الحبِّ الذي هو اقدم من اللَّذة او نقيض متعلَّق البغض الذي هو اقدم من الالم.
 ويشهد لما قلناه: انَّنا نحسُّ في وجداننا وضميرنا: بانَّ مَنْ احسن الى شخص استحقَّ شكرا من قبل ذاك الشخص اكثر ممّا قد يشكر الانسان شخصا احبَّ ان يُحسن اليه فعجز عن ذلك، فهذا الشكر ان كان في مقابل اتِّصاف هذا الشخص بصفة الفضيلة وهي حبُّه للإحسان الى الضعيف مثلاً فهما سيّان في هذا الاتِّصاف، وانّما ترك من ترك منهما الاحسان الى هذا الشخص بسبب العجز، فيبقى الفارق بين الشكرين بلا مقابل. اذن، فهذه الزيادة تكون في مقابل فعل الانسان، ولو كانت الغاية له من هذا الفعل التذاذ نفسه دون ارتياح الشخص الضعيف لما استحقَّ هذه الزيادة من الشكر.
 نعم، لا ننكر انَّ نفس اللَّذة والالم - ايضا - قد يكون محبوبا او مبغوضا فيريد الشخص الاولى ويهرب من الثانية، ايْ: انَّ اللَّذة والهرب من الالم -ايضا يدخلان في غايته من دون ان يولِّد ذلك لذَّة غير تلك اللَّذة او الما غير ذاك الالم، والا لتسلسل.
 وقد تلخَّص : انّ الغاية - دائما - هي المحبوب او نفي المبغوض، لا اللَّذة ونفي الالم، وان كانا هما - ايضا - قد يتعلق بهما الحب والبغض فيدخلان في الغاية بهذا الاعتبار.
 وامّا لو كان الملحوظ هي العلَّة الفاعليَّة قلنا: انَّ كون اللَّذة والالم هما العلَّة الفاعليّة للتحرك نحو الفعل او نحو الفرار لا يُتصوَّر الا باحد معاني ثلاثة :
 امَّا بمعنى كونهما دافعين للإنسان من دون اختياره، فَمَنْ يلتذُّ بشي ء يتحرك نحوه بلا اختيار، ومن يتالَّم من شي ء يندفع نحو الفرار منه من دون اختيار.
 وامّا بمعنى دخلهما في القدرة مع فرض حفظ الاختيار بعد تحقُّق القدرة، فاللَّذة الموجودة في الشي ء تخلق في الانسان القدرة على الاندفاع اليه، فيندفع اليه باختياره، والالم الموجود في الشي ء يخلق في الانسان القدرة على التحرك نحو الهرب منه، فيهرب منه اختيارا، ولولا اللَّذة والالم لما كان الانسان قادرا على التحرك نحو المحبوب او باتجاه الفرار من المبغوض.
 وسواءٌ قلنا: انَّ اللَّذة والالم دافعان قهريان او قلنا: انَّهما يؤثران في القدرة على الاندفاع لا ينافي ذلك ان تكون الغاية هي ما يندفع اليه من المحبوب او نفي المبغوض لا نفس اللَّذة او نفي الالم وحده.
 وامّا بمعنى كون اللَّذة والالم دخيلين في تحقُّق الارادة برغم فرض انحفاظ القدرة والاختيار بغض النظر عنهما.
 وكلّ هذه الفروض باطل :
 امّا الفرض الاوّل - وهو : فرض الاندفاع وراء اللَّذائذ والفرار من الالام قهرا، فهذا يساوق الجبر وانكار الاختيار، وهذا خلف موضوع علم الاخلاق بعد فرض كون الحسن والقبح امرين واقعيَّين مُدرَكَيْن بالعقل، لا امرين اعتباريِّين مجعلوين من قبل العقلاء او الشريعة، وقد كان هذا هو فرض بحثنا في المقام، فنحن وان كنَّا لا نمانع عن كون بعض القضايا الاخلاقيّة اجتماعيّة او شرعيّة، لكن لو لم نؤمن بقضايا اخلاقيّة واقعيّة وبالحسن والقبح الذاتيَّين والعقليَّين، لم يبقَ موضوع لبحثنا هذا.
 وامَّا الفرض الثاني - وهو : دخل اللَّذة والالم في القدرة، فهذا يعني: ان لايقدر الانسان الا على الفعل الذي يلتذُّ به ، وترك ذلك الفعل يكون مبغوضا له، فبغضه انّما اولد له القدرة على الفرار منه، ومن المعلوم: انَّ فرض تعلّق القدرة باحد النقيضين دون الاخر هو عين الجبر تماما، فانّ القدرة لابدَّ ان تتعلَّق بطرفي النقيض سواءً بسواءٍ.
 وامّا الفرض الثالث - وهو: عدم تحقُّق الارادة نحو الشي ء، الا بفرض الالتذاذ به او التالُّم من فقده على رغم انحفاظ اختياره وقدرته لولا اللَّذة والالم، وعلى رغم فرض حبِّه او بغضه للمتعلق في المرتبة السابقة على اللَّذة والالم، فهذا - ايضا - امر غير معقول سواء، فسَّرنا الارادة بمعنى الشوق الاكيد كما هو المعروف، او فسَّرناها بما يشابه ان يقال بامر وسط بين الشوق الاكيد والفعل، وهو: حملة النفس بدعوى انّها هي مركز القدرة والسلطنة.
 امّا على الاوّل فلوضوح انَّ الشوق الاكيد هو الحبّ الاكيد الذي هو في الرتبة السابقة على اللَّذة.
 وامّا على الثاني فلوضوح انَّ توقُّف حملة النفس على اللَّذة والالم مع انحفاظ كامل القدرة والاختيار في المرتبة السابقة عليهما وتماميّة الحبِّ والشوق، امر غير معقول، الا بمعنى: انَّ الغاية المحبوبة كانت عبارة عن نفس اللَّذة والالم، وهذا رجوع الى الشقِّ الاوّل الذي ابطلناه.
 وبهذا تمَّ برهان كامل على انّ العلَّة الغائيّة والعلَّة الفاعليّة متَّحدتان، غاية الامر انّ العلَّة الغائيّة تكون بوجودها العلميِّ - ولو الخاطئ - مُحرِّكة.
 نعم، لا اشكال - كما اشرنا اليه - في انَّ اللَّذة والالم قد يدخلان بنفسهما في العلَّة الغائيّة، ويكون الاوّل محبوبا والثاني مبغوضا.
 وقد يقول قائل: انَّ حبُّ الدَّعة والراحة الموجود في الانسان لابدَّ ان يتكاسر مع حبٍّ اخر، ويقع مقهورا تحت شعاعه؛ كي يتحرك الانسان نحو ما يكون في وضعه الاوّلي موجبا لسلب الدّعة والراحة. والمقصودُ بعلِّيّة اللَّذة والالم هو: انّه لولاهما لما كان المحبوب الاصلي من المُثُل والقيم والمبادِئ ورضا اللَّه وما الى ذلك قادرا على الغلبة على حبِّ الراحة، فلكي يغلب حبَّ الراحة او قُلْ: (لكي تصبح راحة الشخص في خلاف راحته الظاهريّة) لابدَّ ان ينضمَّ الى تلك الغاية الشريفة غاية اللَّذة او الفرار من الالم، وعند ذلك تكون الغلبة لمجموع الغاية الشريفة النبيلة مع اللَّذة ودفع الالم على حبِّ الراحة، فيقوم الانسان بالعمل النبيل، ويكون الشخص بقدر ما كان من حصَّة الدخل في الغاية لذاك المبدا النبيل والشريف مستحقا للمدح والثواب، وبهذا قد جمعنا بين القول بانّه لابدَّ لتحريك الانسان من وجود اللَّذة والالم في المتعلَّق من ناحية، وبين نُبل التضحيات في سبيل المبادِئ والعقائد الحقَّة والمُثُل والقيم العُليا ورضا اللَّه - سبحانه وتعالى - من ناحية اخرى. فليكن هذا نوع توجيه لكلام استاذنا الشهيدرحمه الله  .
 الا انَّ هذا التوجيه ليس شاملاً لمورد ما قد يتَّفق من عدم وجود زحمة واقل صعوبة في التحرك، او كان المطلوب هو الترك ولم يكن في الترك ايّ زحمة ومشقَّة، وانّما يمكن تطبيق هذا التوجيه في موارد صعوبة العمل وفق ماهو مطلوب اخلاقيّا.
 والظاهر : انَّ هذا التوجيه - ايضا - غير صحيح.
 وتوضيح ذلك: انَّ عدم تحرك الشخص من دون لذَّة او الم لكون حبِّه للمحبوب غير كافٍ لتحريكه، ولكن مع دخول الحبِّ كجزء للعلَّة في الحساب يصبح كافيا له، قد يكون صحيحا بشان بعض السالكين، ويكون هذا الشخص اعلى درجة ممَّن لا يتحرك الا من وراء اللَّذة والالم، ولكن ليس هذا هو اخر الدرجة الممكنة من درجات مرقاة الكمال في سُلَّم الفضائل. والدليل على ذلك مؤتلف من مقدّمتين:
 الاولى - انَّ التقدير المعنوي لمقدار تلك اللَّذة المعنوية يقول لنا بفهم الوجدان: انَّ درجة تلك اللَّذة توازي درجة الحبِّ لذلك المبدا النبيل، وكُلَّما اشتدَّ حبُّه اشتد بقدره الالتذاذ به، وكُلَّما ضعف حبُّه ضعف بقدره الالتذاذ به.
 والثانية - انَّ هذا الالتذاذ قد يفوق في بعض الحالات لذَّة الراحة التي كانت تثبت في ترك التحرك نحو ذاك المحبوب، واية ذلك: انَّ الانسان -عندئذٍ - لا يحسُّ بالراحة النفسيَّة في الترك، بل يحسُّ بانَّ راحته النفسيّة في الفعل فحسب، في حين انَّ من لم يصل حبُّه الى هذا المستوى يحسُّ بالتعب النفسيِّ في عمله، ولكنّه يتحمَّل هذا التعب في سبيل محبوبه.
 والنتيجة : انّه - اذن - سيكون حبُّه لذاك المحبوب غالبا على حبِّه للدَّعة والراحة؛ لأنّه يوازي لذَّته الغالبة على لذَّة الدَّعة والراحة، ويكون وحده كافيا للغلبة على المزاحم، نعم ، لاشك انّه يحصل - اضافة الى ما حصل عليه من الفضيلة - على لذَّة فائقة ايضا ، ولكنَّها واقعة تحت الشُعاع لما يطلبه من مبدا او فضيلة او رضا اللَّه سبحانه وتعالى، فذاك المبدا او حبُّ اللَّه هو محركه الحقيقيُّ، وتترتَّب على ذلك اللَّذة والانبساط كزيادة خير.
 وقد اتَّضح بكلِّ ما شرحناه: انَّ المطيع تنقسم اطاعته بحسب الدوافع النفسيّة الى ثلاثة اقسام:
 الاوّل - دافع اللَّذة او الالم الثابتين بالثواب والعقاب، وتلك طاعة التجار او العبيد.
 والثاني - المزدوج من دافع حبِّ الطاعة ورضوان اللَّه ودافع اللَّذة والالم، وتلك طاعة الخواص.
 والثالث - دافع حبِّ اللَّه سبحانه وتعالى وتحصيل رضاه، وتلك طاعة خاصّة الخواصِ حيث يكون التذاذه بالطاعة - ايضا - مندكا تحت داعويّة اصل الطاعة.
 والالتفات الى ما قلناه لو لم ينفعنا في ارتقائنا السلوكي الى اللَّه سبحانه وتعالى في مرقاة هذه الكمالات، فلا اقلَّ من ان يكون نفعه لنا عبارة عن الاعتصام في مقابل صفة العُجب؛ لأنّنا ما لم نصل الى المرحلة الثالثة، وهي: داعويّة نفس الطاعة ورضوان اللَّه دون الالتذاذ بهما او في الاقل الثانية، وهي: الدافع المزدوج، فنحن في الحقيقة قد عبدنا لذَّتنا وعشقنا ذاتنا، فايُّ استحقاق لنا للثواب؟! وايّة عبوديّة تكون هذه العبوديّة ؟!
 وانا لا اقصد بنفي استحقاق الثواب نفيه من باب انّنا مملوكون ملكيّة حقيقيّة للَّه، فلا نستحقُّ شيئا منه تعالى في قبال طاعتنا ايّاه، ولا نفيه من باب انَّ الاستحقاق انّما يكون لمن اعطى من نفسه شيئا لغيره، ونحن كلَّ ما اعطيناه للَّه -سبحانه - كان من اللَّه، لا من انفسنا كي نستحقَّ شيئا بالمقابل، فانَّ امثال هذه الامور لا تختص بنا، بل تشتمل حتّى المعصومين عليهم السلام  .
 بل اقول - بغض النظر عن هذه النكتة - : انّنا غير مستحقِّين للثواب بعقليّة مكافئة الاحسان؛ لأنّنا في الحقيقة لم نعمل له، بل عملنا لأنفسنا، فلا مكافئة على اعمالنا الا بفضل اللَّه ورحمته ورافته.
 نعم، تصحُّ في العرف الفقهي عباداتنا؛ لأنَّها تشمُل على القربة بالمعنى المقصود في الفقه حيث قرّروا فيه كفاية الداعي الى الداعي القربي، وهذا موجود في المقام؛ لأنَّا نعمل بداعي الامتثال والطاعة وان كان الداعي لنا الى هذا الامتثال والطاعة ثوابه، او الفرار من عقابه، او الالتذاذ بطاعته، الا انّ هذا كماترى حيلة شرعيّة علّمتنا نفس الشريعة ايَّاها، وقبلها اللَّه منَّا بقبول حسن بلطفه وكرمه، والا لهلكنا جميعا، الا انَّ هذا لا يعني: انَّ الاستحقاق - اذن - اصبح واقعيّا (بعد غضِّ النظر عن المملوكيّة وعدم الواجديّة الذاتيّة )، فغير الواصل الى ابتغاء رضا اللَّه - لأنّه رضاه لا لنعيم الجنَّة ولا للفرار من الجحيم - ان كان مطيعا فهو في مرحلة العرفان يكون صاعدا من مستوى تحت الصفر الى مستوى الصفر لا اكثر من ذلك، ومن يلتفت الى ذلك كيف يبتلي بالعُجْب ؟!
 امّا من صعد من هذه المرتبة الى ابتغاء مرضاة اللَّه تعالى وارادة ذاته عزَّوجلَّ، فهو ليس بحاجة الى ما قلناه في الارتداع عن العُجْب، بل الذي يردعه عن العُجْب قول امامنا زين العابدين عليه السلام  : »وما قدر اعمالنا في جنب نعمك، وكيف نستكثر اعمالا نقابل بها كرمك«.
 اللَّهُمَّ ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وعرفان الحرمة، انَّك انت السميع المجيب بمحمد واله الطاهرين.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

العلامة الغريفي: الخطاب الذي ينتج صراعًا طائفيًا ...
حقوق المعصومين (ع)ـ القسم الأول
أبغض الحلال
حقوق الإنسان في الإسلام
مسؤولية المال
مفهوم الغرب لحقوق الإنسان
حقوق الإنسان.. في شريعة حمورابي
حقوق الانسان بين الكونية والخصوصيات
حقوق المجتمع العامة
تعريف حقوق الانسان

 
user comment