كما قدّمنا في أبحاثنا الماضية، فإنَّنا في علاقتنا بأئمة هل البيت (عليه السلام) ننطلق من علاقتنا العميقة بالإسلام.. ومن هنا، نشعر بأننا نعيش مع الإسلام النقيّ والطاهر، ومع الإسلام المجاهد، والإسلام الذي يأخذ القوّة من الله، ليكون القويَّ أمام التحديات، والثابت أمام الاهتزازات، وليكون أيضاً المتحدّي للذين يُطلقون التحدّي في وجهه.. وهذا ما كان عليه نهج الإمام الصادق (عليه السلام) في تربية شيعته على روحية الإسلام،
حيث كان من وصيّته لأحد أصحابه الذي أراد منه تبليغها لشيعته، وهي ليست لأولئك وحسب، ولكنها لنا أيضاً، ولكلِّ من يعيش في الساحة الإسلامية عقليّة الانغلاق على المسلمين الآخرين، بفعل ما تحاول المخابرات الدولية الاستكبارية أن تزرعه من الحقد بين المسلمين المختلفين في مذاهبهم أو في داخل المذهب الواحد.. وقد جاء في هذه الوصية: "أقرى ء من يطيعني منكم السلام ـ وهذه وصيته لكلِّ مَن يطيعه ـ أوصيكم بتقوى الله ـ فمن لم يكن تقيّاً فهو ليس شيعيّاً ـ والورع في دينكم ـ فمن لم يكن ورِعاً عن الحرام في دينه، فليس ممن يعيش وصايا أهل البيت ـ والاجتهاد لله ـ اجتهدوا لله بأن تكونوا له سبحانه بكلِّ ما تملكون من طاقة وقوّة، ومعنى الاجتهاد لله أن يكون جهدكم كلّه في ما تحملون من علم وقوّة وإمكانات هي لله، تبذلونها له لا لغيره، وإذا بذلتموها لغيره، فأن تطلبوا وجهه الكريم ـ وصدق الحديث ـ فالكذّابون لا مكان لهم في دائرة أهل البيت(عليه السلام)، لأنَّ أهل البيت هم الصادقون، ولأنَّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله) سيد أهل البيت وسيد العالم ـ وأداء الأمانة ـ الخائنون لأماناتهم والذين لا يحفظون هذه الأمانات، هؤلاء لا ينتسبون إلى أهل البيت في شي ء ـ وطول السجود ـ أن تكون خاشعاً لله، خاضعاً له، منسحقاً أمام عظمته، لا كلمة لك أمام كلمته، ولا رأي لك أمام ما يريده.. عندما تقف في كلِّ الساحات وتعرف أنَّ رضى الله في هذا الأمر وغضبه في الأمر الآخر، طأطى ء رأسك لإرادة ربِّك في ما يأمر وينهى، وعندما يريد الناس منك تلبية أمرٍ لا يريده الله، ارفع رأسك وقل: أنا حرٌّ في أن لا أفعل ما تريدون، لكنني أمام الله أنا العبد الفقير الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً إلا بالله {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضَى اللهُ ورسولُه أمراً أن يكونَ لهُمُ الخِيَرة من أمرهم} [الأحزاب: 36]، فمعنى السجود لله تعالى يرمز إلى معنى العبودية لله، وأقرب ما يكون العبد إلى ربِّه وهو ساجد، لأنَّه في هذا السجود يخاطب ربَّه: يا ربّ سجد لك جسمي وعقلي ومشاعري، فأنا لا شي ء أمامك، بك أصير شيئاً وأصير إنساناً، بك أصير حرّاً وقويّاً.. ـ وحسن الجوار ـ كونوا الجيران الطيّبين لكلِّ مَن جاوركم، تحمّلوا الأذى ولا تؤذوهم وأحسنوا إليهم.. ثم يقول(عليه السلام) ـ أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً كان أو فاجراً، فإنَّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط ـ فالإبرة والخيط، مهما كانت قيمتهما الماديّة قليلة، فإنَّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله) يأمر بأدائها إلى أصحابها ـ وَصِلُوا عشائرهم ـ ممن تختلفون معهم في المذهب ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصَدقَ الحديث وأدّى الأمانة وحَسُنَ خُلقه مع الناس قيل: هذا جعفري، ويسرّني ذلك، وقيل هذا أدب جعفر ـ أو هكذا أدّب جعفر شيعته ـ وإذا كان غير ذلك دخل عليَّ بلاؤُه وعارُه". إذاً، أن تكون مسلماً شيعيّاً جعفريّاً فتلك مسؤوليةٌ كبرى، انظر ما عليه أئمة أهل البيت(عليه السلام) وافعله، لأنَّ التشيّع ليس تعصّباً وطائفيّة، التشيّع هو خطُّ الإسلام الذي انطلق منه أئمة أهل البيت(عليه السلام)، وليس شيئاً خارجاً عن الإسلام في أيِّ شي ء، ولذلك قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): "إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي"(66). قال(صلّى الله عليه وآله) ذلك، لأنَّ أهل البيت لا ينفصلون عن كتاب الله، وكلام الله هو الوحي لكلامهم، وشريعته سبحانه هي الأساس في ما يتحرّكون به من أحكام، فمفاهيم الإسلام هي مفاهيمهم، وليس لهم(عليه السلام) حسابٌ خاصٌ بعيدٌ عن حساب الإسلام، ولهذا قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): "أهل بيتي كسفينة نوح مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق وهوى"(67). لأنَّ أهل البيت يريدون أن يخرجونا من طوفان الضلال والظلم وطوفان الكفر والانحراف.. ولهذا، إذا أردتم أن تنسبوا أنفسكم لأهل البيت، انظروا ما هو انتماؤكم إلى الإسلام، لأنَّ علياً(عليه السلام) وأبناءه المعصومين لا يفكّرون إلا بالإسلام، ولا شي ء عندهم غير الإسلام. ومن هنا، فإنَّ الإمام الصادق(عليه السلام) يريد من أتباعه وشيعته أن يعيشوا في الأفق الإسلامي الواسع، ليلتقوا مع كلِّ المسلمين، حتى ولو اختلفوا معهم في الرأي على أساس الإسلام، ليكون هذا الجوّ المنفتح هو السبيل لأن يدخلوا في حوار معهم على أساس اللقاء على القضايا المشتركة لمواجهة التحديات التي تحاول النيل من الإسلام كلِّه. هذا ما كان يريده(عليه السلام) لشيعته، فهو يسأل أحد أصحابه وقد جاءه من سفر بعيد قال: "كيف مَنْ خلّفت من إخوانك، فأجاب الرجل وأحسن الثناء: أناس طيبون خيّرون من الشيعة، فيسأله الإمام: كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم؟ قال: قليلة، قال: فكيف مساعدة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال: قليلة.. قال: فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ فقال الرجل: إنَّك تذكر أخلاقاً قلّما هي فيمن عندنا. قال الإمام: كيف يزعم هؤلاء أنهم من شيعتنا".. فالمجتمع الشيعي هو المجتمع المسلم الذي يصل فيه الأغنياء الفقراء ويساعدونهم ويزورونهم ولا يتكبّرون عليهم.. وقد قال الإمام لبعض أصحابه: "أيمدُّ أحدكم يده إلى جيب أخيه فيأخذ منها ما يشاء فيدعه؟ قال: لا، فقال: كيف تقولون إنكم إخوة".. الأخ من يفعل ذلك من خلال التربية والإيمان، ومن خلال أن يفتح كلُّ واحد قلبه للآخر ويشعر بأنَّه يتوحّد معه.. كان(عليه السلام) يريد لأصحابه وشيعته أن يكونوا الصورة المشرقة عن الإسلام، فيقول لأحد أصحابه: "الحَسَنُ من كلِّ أحد حسن ومنكم أحسن لأنَّكم تُنسبون إلينا، والقبح من كلِّ أحد قبيح ومنكم أقبح لأنكم تنسبون إلينا.."(68). الانتساب إلى أهل البيت(عليه السلام) مسؤولية، وليست مجرّد لافتة، لأنَّ اللافتة التي تضعها في أيِّ موقع، إذا لم تصدقها بالواقع الذي تحت اللافتة، فإنَّ اللافتة تكون سوءاً عليك بدلاً من أن تكون شرفاً لك، فإذا كانت لافتتك تتحدّث عن الحقّ وأنت تعيش الباطل، وتتحدّث عن الإخلاص وأنت تعيش الزيف، فاللافتة تنال منك ومن مواقفك يوميّاً، لأنَّ الله تعالى يقول: {يا أيُّها الذينَ آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون* كبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف:2ـ3] لذلك يوجّه(عليه السلام) شيعته بقوله: "اتقوا الله وكونوا إخوةً بَرَرة متحابين في الله متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا"(69). هكذا كان يوصيهم بأن يكونوا زيناً لأهل البيت(عليه السلام) في خطِّ الإسلام، ويحثهم على أن يجعلوا أمرهم لله تعالى وألا يجعلوه للناس، وفي ذلك نجاتهم في الدنيا والاخرة. فيقول(عليه السلام): "اجعلوا أمركم لله ـ عندما تعملون في خطِّ الإسلام، وفي حركتكم في الواقع على المستوى الاجتماعي أو السياسيّ، اجعلوه لله، واقصدوا به القربة لله سبحانه، وانفتحوا به عليه ـ ولا تجعلوه للناس، فإنَّه ما كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله". لذا، لا بدَّ أن نرصد العمل الذي نعمله ليكون قربةً إلى الله، ولا يكون قربةً إلى النّاس.. حتى ولو كان الإنسان يعمل لمصلحة الناس، فليقصد بذلك وجهَ الله، فإنَّه يحصل على محبته سبحانه أولاً، وعلى محبة النّاس من خلال الله، لأنَّ الله تعالى هو مقلّب القلوب، ويفتح قلوب الناس بعضها على بعض. ثم يحذّر الإمام الصادق(عليه السلام) فيقول: "إيّّاكم والخصومة ـ لا تختلفوا وتتعادوا وتتحاقدوا وتتباغضوا لأمر دنيويّ هنا ولمشكلة سياسيّة أو اجتماعيّة هناك، حاوروا بعضكم بعضاً وحاولوا أن تبتعدوا عن الخصومة ـ فإنَّها تُشغل القلب وتورثُ النفاق". ــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1)بحار الأنوار، ج:2، ص:99. (2)المصدر نفسه، ج:77، ص:77. (3)بحار الأنوار، ج:74، ص:351. (4)الكافي، ج:2، ص:359.