(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنّ َ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين)1.
الرشد في المصطلح الإسلامي
قبل الدخول في بحث القيادة في الإسلام من المناسب أن نتعرّض لمفهوم الرشد ومن ثمّ لمفهوم الإمامة.
1- الرشد
لقد استعمل القرآن الكريم اصطلاح الرشد في حقّ الأطفال الذين يمتلكون ثروة ولكن لا قيّم لهم، فذكر أنّه لا بدّ من جعل قيّم ووليّ عليهم حتى يبلغوا الرشد بعد تجاوزهم سنّ َ البلوغ، فقال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ انَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)2.
تعريف الرشد
"الرشد عبارة عن نوع من الكمال الروحي والمعنوي، بمعنى أن يكون للإنسان قدرة على الإدارة والمحافظة على طاقاته المادية والمعنوية، وحسن الاستفادة منها"، وهذا التعريف يشمل جميع أنواع الرشد الأخلاقي منه والاجتماعي، ولتوضيح هذه الفكرة نذكر المثاليين التاليين:
أ- إدارة الذاكرة، لقد أودع الله تعالى في الإنسان قوىً إدراكية، من فهم وإدراك وحفظ وذاكرة، والإنسان الرشيد هو الذي يمكنه الاستفادة الصحيحة منها، فينظر في الأمور أيّها مفيد بل وأيها أكثر فائدة، ثمّ يتخيّر الترتيب العلمي الصحيح لحفظها ووضعها في الذهن، ومن ثمّ يحافظ عليها، أما غير الرشيد فهو من يتعامل مع ذاكرته مثلا كمستودع لكل ما يقع في طريقه، فلا ينتفع من هذه العطايا الإلهية بشكل صحيح، فمن يقرأ كتاباً ما لا يمكنه أن يحتفظ بمحتويات هذا الكتاب من قراءةٍ واحدةٍ، بل عليه أن يقرأه مرّة ثانيةً على التوالي، ثم يفكّر في كلّ فكرةٍ وردت فيه، ويحلّلها ويحقّقها، وبعد الانتهاء عليه أن يلخّصها ويودعها ذاكرته، ثمّ يقرأ كتاباً اخر من نفس الموضوع حتى لا يمتلىَ ذهنُه بمواضيعَ متعددة بصورةٍ غير منظمة، فتختلط عليه الأفكار.
ب- الرشد في العبادة: إن العبادة الصحيحة هي التي تجذب الروح وتغذّيها، وليست الكثرة هي المقياس للعبادة، تماماً ككثرة الطعام ليس هو مقياس غذاء الجسم، وإنّما المقياس هو تلاۆم الروح مع العبادة، وتحقّقها عن رغبةٍ وشوقٍ، وأي إكثارٍ في العبادة من دون شوقٍ قد يۆدي إلى ردّات فعلٍ عكسيّة لا تُحمد عُقباها، وهكذا يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي عليه السلام: "يا علي، إنّ هذا الدينَ متين، فأوغل فيه برفقٍ، ولا تُبغِّض إلى نفسك عبادة ربّك"3، فلا بدّ من ممارسة العبادة بشكلٍ تميل معها النفس تدريجاً إلى العبادة، لا أن تتنّفر من العبادة، "فإنّ المُنبِت4 لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع"5.
فالممارسة الصحيحة للعبادة والاستفادة منها لها علاقة وثيقة بحسن إدارة الإنسان لنفسه، لأن القلب والمشاعر والأحاسيس وكل القوى الإدراكية بحاجة إلى إدارةٍ وقيادةٍ رشيدة وحكيمة.
2- الإمامة والقيادة
عندما يكون موضوع الرشد هو قيادة وإدارة الآخرين يطلق عليه (الهداية) أو (الإمامة)، ولعلّ أفضل لفظٍ يعبّر عن الإمامة هو القيادة، مع فارقٍ بين النبوّة والإمامة أيضاً، حيث إنّ النبوة هي إراءة وكشف الطريق، بينما تتعدى الإمامة ذلك لتتحمّل مسۆولية القيادة للأمّة، فيقوم بعض الأفراد بمهمّة تعبئة القوى الإنسانية وتنظيمها وتدفعها إلى العمل، وكثير من الأنبياء لاسيما العظام منهم جمعوا بين الميزتين، أي بين النبوة (كشف الطريق) والإمامة (القيادة).
إبراهيم عليه السلام القائد الإمام
لقد ابتلى اللهُ النبيّ َ إبراهيم عليه السلام بكثيرٍ من المصاعب والإمتحانات، فقد واجه بمفرده تلك الإنحرافات العقائدية والخرافات السائدة آنذاك، فحطّم الأصنام وواجه نمرودَ وأتباعَه قاطبةً، وفي خِضَمّ هذه المِحن القاسية يطلب منه الله سبحانه أن يذبحَ ابنه إسماعيل عليه السلام بيده، وعندما أسلما وانقادا لأمر الله سبحانه وتجاوز كلّ هذه المحن بنجاحٍ وإيمانٍ ثابت، عندها أُعطي مقام الإمامة،(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنّ َ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً)6، فهذه الإمامة وقيادة البشر في البُعد الإجتماعي والمعنوي هي أرفع مقام يمكن أن يمنحه الله للإنسان، وقد حاز أئمتنا عليهم السلام على هذا المقام الرفيع وإن لم يكونوا أنبياء، إلا أنهم يسيرون على نفس طريقهم، ويعبئون القوى، ويدعون الناس إلى نفس الرسالة التي دعا إليها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
أصول القيادة
والقيادة التي يبحث عنها القرآن الكريم هي الزعامة المتجهة نحو الله تعالى في بعديها الاجتماعي والمعنوي، بخلاف ما يفهمه البشر في العالم المعاصر من القيادة بأنّها مجرّد زعامة اجتماعية، لأنّه يحتاج إلى القيادة بطبيعته، وقيمة هذه القيادة تبتني على ثلاثة أصول:
1- أهميّة الإنسان والقوى المودعة فيه
فقد اهتم القران الكريم بتوجيه الإنسان إلى معرفة نفسه، وما أودع له الله من قوى كبيرةٍ كامنةٍ فيه، فهو أعرف من
الملائكة بالأسماء ممّا جعلها تسجد له، وهو أرفع الموجودات جميعاً، كلّها مسخرة لخدمة مصالح الإنسان (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)7، و(أَلَمْ تَرَوْا أَنّ َ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)8.
2- قيادة الغرائز المودعة في الإنسان والحيوان
فالإنسان يختلف عن الحيوان من حيث الغرائز وطبيعتها، وهو أضعف منها في هذا المجال، فالحيوانات مجهزة بمجموعةٍ من الغرائز تُسيِّرها وتقودها وتنظِّم لها حياتها، فهي لا تتعدّاها، إلا أن الإنسان ليس كذلك، فهو من جهة يمتلك قوى أكبر وأكثر من الحيوانات، لكن لم يودع الله فيه غرائز كثيرةً جداً، وإنما ألقى على عاتقه قيادة نفسه، فالإنسان يفتقر إلى الغرائز الداخلية التي تقوده، ولذلك احتاج للموجِّه الخارجي، وهذه فلسفة بعثة الأنبياء عليهم السلام، فإنهم بعثوا لأجل تربية هذه الغرائز، وتعريف الإنسان على النفائس المكنونة في أعماقه، وكيف يستخدمها ويستفيد منها بالشكل الصحيح، ومن ثم توجيه الإنسان والقوى البشرية لتسير على الطريق المستقيم، ويحثونه على الحركة والعمل، وبالتالي تتحقق القيادة الحكيمة للقوى البشرية.
3- القوانين الخاصة في الحياة البشرية
هناك مجموعة من القوانين والأصول الحاكمة على سلوك الإنسان وتصرفاته، والذي ينصّب نفسه قائداً وزعيماً للبشر عليه أن يتعرّف على هذه القوانين الحاكمة، لأنها مفتاح السيطرة على قلوب الناس، فيرسم لهم طريق العمل بها ويحثَّهم على الاستفادة منها بالشكل الصحيح، وتعبير القرآن الكريم بحقّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مثير للدهشة حيث يقول: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيّ َ الْأُمِّيّ َ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلّ ُ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)9، فهذه الأثقال ليست إلا التقاليد والخرافات، وهذه الأغلال ليست إلا عادات روحيّة تكبّل استعداداته وطاقاته المعنوية الزاخرة التي أدّت به إلى الجمود والشقاء واليأس، ويأتي دور النبي بالقيادة من بُعدها الاجتماعي ليطلق سراح هذه القوى المقيَّدة، ويبثّ فيها النشاط والحيوية، ويأخذ بيدها في المسار الصحيح، فيجعل من أضعف الشعوب، بسبب القيادة الحكيمة، أمّة قويّة لا يفوقها قوّة.
الشهيد مرتضى مطهري
_________
1- البقرة،:124.
2- النساء:6.
3- الكافي، ج 2، ص 87.
4- المنسبت هو الذي يضرب الجمل ويخشن في التعامل معه، فلم يقدر على قطع المسافة المطلوبة وفي نفس الوقت قضى على الجمل من الضرب.
5- الكافي، ج 2، ص 87.
6- البقرة:124.
7- البقرة:29.
8- لقمان:20.
9- الأعراف:157.
source : www.tebyan.net