من الولادة الی البعثة
ولد خاتم النبيين وسيّد المرسلين محمّد بن عبداللّه بن عبد المطّلب (صلي اللّه عليه وآله وسلم) في السابع عشر من شهر ربيع الأوّل من عام الفيل .بعد أن فقد أباه. ثم استرضع في بني سعد ، ورُدّ الي اُمّه وهو في الرابعة أو الخامسة من عمره. وقد توفّيت اُمّه حين بلغ السادسة من عمره فكفله جدّه واختص به وبقي معه سنتين ثمّ ودّع الحياة بعد أن أوكل أمر رعايته الي عمّه الحنون أبي طالب حيث بقي مع عمّه الي حين زواجه. وسافر مع عمّه الي الشام وهو في الثانية عشرة من عمره والتقي ببحيري الراهب في الطريق فعرفه بحيري وحذّر أبا طالب من التفريط به وكشف له عن تربص اليهود به الدوائر. وحضر النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) حلف الفضول بعد العشرين من عمره وكان يفتخر بذلك فيما بعد، وسافر الي الشام مضارباً بأموال خديجة وتزوجها وهو في الخامسة والعشرين وفي ريعان شبابه ، بعد أن كان قد عُرف بالصادق الأمين، وقد ارتضته القبائل المتنازعة لنصب الحجر الأسود لحل نزاعها فأبدي حنكةً وابداعاً رائعاً أرضي به جميع المتنازعين.
الزواج المبارک
كان لابد لمثل شخصية محمد (صلي اللّه عليه وآله وسلم) التي فاقت كلّ شخصيّةٍ من الاقتران بامرأة تناسبه وتتجاوب مع عظيم أهدافه وقيمه تواصل معه رحلة الجهاد والعمل المضنية وتصبر علي متاعبه ومصاعبه، ولم يكن يومذاك امرأة تصلح لمحمد (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ولهذه المهمة سوي خديجة، وشاء اللّه ذلك فاتجه قلب خديجة بكلّ عواطفه نحو محمد (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وتعلق بشخصه الكريم. ولقد كانت خديجة (رضي اللّه عنها) من خيرة نساء قريش شرفاً وأكثرهنَّ مالاً وأحسنهنَّ جمالاً، وكانت تدعي في الجاهلية بـ«الطاهرة» و«سيدة قريش». وكان كل رجال قومها حريصين علي الاقتران بها. وقد خطبها عظماء قريش وبذلوا لها الأموال، فرفضتهم جميعاً لما كانت تملك من عقلٍ راجحٍ يزن الأمور، ولكنّها اختارت محمداً (صلي اللّه عليه وآله وسلم) لما عرفت فيه من النبل والأخلاق الكريمة والسجايا الفاضلة والقيم العالية. فطلبت النزول في ساحة عظمته، وعرضت نفسها عليه. وتظافرت النصوص التاريخية علي أ نّها هي التي أبدت أوّلاً رغبتها في الاقتران به. فذهب أبو طالب في أهل بيته، ونفرٌ من قريش لخطبتها من وليّها آنذاك وهو عمها عمرو بن أسد وكان ذلك قبل بعثة النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) بخمس عشرة سنة علي المشهور. وكان مما قاله أبو طالب في خطبته: «الحمد لربّ هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكّام علي الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه ... ثمّ إن ابن أخي هذا ممن لا يوزن برجل من قريش إلاّ رجح به ولا يقاس به رجل إلاّ عظم عنه، ولا عدل له في الخلق وإن كان مقلاًّ في المال؛ فإن المال رفدٌ جارٍ، وظل زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليه، برضاها وأمرها والمهر عليَّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله... وله وربّ هذا البيت حظّ عظيم، ودين شائع ورأي كامل». لكن خديجة (رضي اللّه عنها) عادت، فضمنت المهر في مالها.. فقال البعض: يا عجباً! المهر علي النساء للرجال فغضب أبو طالب، وقال: «إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طُلبت الرجال بأغلي الأثمان وأعظم المهر، وإن كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلاّ بالمهر الغالي». وتفيد بعض المصادر أن رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) نفسه قد أمهرها، ولا مانع من ذلك حينما يكون قد أمهرها بواسطة أبي طالب، ومن خطبة أبي طالب يمكننا أن نستشف علو مكانة الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) في قلوب الناس، وما كان يتمتع به بنو هاشم من شرف وسؤدد.
إعادة وضع الحجر الاسود
كان للكعبة منزلة كبيرة لدي العرب إذ كانوا يعتنون بها ويحجّون إليها في الجاهلية. وقبل البعثة النبوية بخمسة أعوام هدم السيل الكعبة فاجتمعت قريش وقررت بناءها وتوسعتها وباشر أشراف القريشيين والمكيين العمل، ولما تكامل البناء وبلغوا الي موضع الحجر الأسود اختلفوا في مَن يضعه في مكانه؛ فكل قبيلة كانت تريد أن تختص بشرف ذلك واستعدوا للقتال وانضم كل حليف إلي حليفه وتركوا العمل في بنائها ثم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا واتفقوا علي ان يكون أول داخل علي الاجتماع هو الحكم بينهم وتعاهدوا علي الالتزام بحكمه فكان أول داخل محمد بن عبداللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: هذا الأمين قد رضينا به، وأقدم النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) علي حلّ النزاع حين جعل الحجر في ثوب وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثمّ قال: ارفعوا جميعاً ففعلوا فلما حاذوا موضعه أخذه بيده الشريفة ووضعه حيث يجب أن يكون، وبعد ذلك أتمّوا بناءها. وروي بعض المؤرخين: أنهم كانوا يتحاكمون إلي النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) في الجاهلية لأ نّه كان لا يداري ولا يماري. لقد كان لهذا الموقف أثر كبير في نفوس تلك القبائل وأعطي الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) رصيداً كبيراً وعمقاً جديداً لتثبيت مكانته الاجتماعية ولفت انتباههم إلي قدراته القيادية وكفاءته الإدارية مما ركّز ثقتهم بسموّ حكمته وحنكته وعظيم أمانته.
من البعثة الی الهجرة
وبُعث وهو في الأربعين وأخذ يدعو الي اللّه وهو علي بصيرة من أمره ويجمع الإتباع والأنصار من المؤمنين السابقين. وبعد مضي ثلاث أو خمس سنوات من بداية الدعوة الي اللّه ، أمره اللّه بإنذار عشيرته الأقربين ثم أمره بأن يصدع بالرسالة ويدعو إلي الإسلام علانية ليدخل من أحبّ الإسلام في سلك المسلمين والمؤمنين. ومن ذلك الحين أخذت قريش تزرع الموانع أمام حركة الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وتحاول أن تمنع من انتشار الرسالة صادّةً بذلك عن سبيل اللّه . وعمل النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) إلي فتح نافذة جديدة للدعوة خارج مكّة فارسل عدّة مجاميع من المسلمين الي الحبشة بعد أن حظَوا باستقبال ملكها (النجاشي) وترحيبه بقدومهم فاستقروا فيها بقيادة جعفر بن أبي طالب ولم يتركها جعفر الاّ في السنة السابعة بعد الهجرة. ولم تفلح قريش في تأليب النجاشي علي المسلمين ، فبدأت بخطّة جديدة تمثّلت في فرض الحصار الأقتصادي والأجتماعي والسياسي والذي استمرّ لمدة ثلاث سنوات ـ فلمّا أيسَتْ من إخضاع النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وأبي طالب وسائر بني هاشم لأغراضها فكّت الحصار ولكن النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وعشيرته بعد أن خرجوا من الحصار منتصرين أُمتُحِنوا بوفاة أبي طالب وخديجة ـ سلام اللّه عليهما ـ في السنة العاشرة من البعثة وكان وقع الحادثين ثقيلاً علي النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) لأنّه فقد بذلك أقوي ناصرَينِ في عام واحد. وهنا رجّح بعض المؤرّخين تحقق حادثة الاسراء والمعراج والنبيّ في أوج هذا الحزن والضغط النفسي علي النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وهو يري صدود قريش ووقوفها بكل ثقلها أمام رسالته ففتح اللّه له آفاق المستقبل بما أراه من آياته الكبري فكانت بركات (المعراج) عظيمة للنبي وللمؤمنين جميعاً. وهاجر الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) الي الطائف ليبحث عن قاعدة جديدة ولكنه لم يكسب فتحاً جديداً من هذه البلدة المجاورة لمكة والمتأثرة بأجوائها، فرجع الي مكّة بعد أن اختار جوار مطعم بن عدي فدخلها، وبدأ نشاطاً جديداً لنشر الرسالة وفي مواسم الحج حيث أخذ يعرض نفسه علي القبائل القاصدة للبيت الحرام لأداء مناسك الحج وللإتّجار فيسوق عكاظ ففتح اللّه له أبواب النصر بعد التقائه بأهل يثرب، واستمرّت دعوته الي اللّه وانتشر الإسلام في يثرب حتي قرّر الهجرة اليها بنفسه بعد أن أخبره اللّه تعالي بكيد قريش حين أجمعت بطونها علي قتله والتخلّص منه نهائيّاً، فأمر عليّاً عليه السلام بالمبيت في فراشه وهاجر هو الي يثرب بكل حيطة وحذر، ودخلها وأهل يثرب علي أتمّ الاستعداد لاستقباله، فوصل (قبا) في غرّة ربيع الأوّل وأصبحت هجرته المباركة مبدأ للتأريخ الاسلامي بأمرٍ منه (صلي اللّه عليه وآله وسلم).
من الهجرة الی الفتح
وأسّس النبيّ الخاتم (صلي اللّه عليه وآله وسلم) أوّل دولةٍ إسلاميةٍ أرسي قواعدها طيلة السنة الاُولي بعد الهجرة بدءاً بكسر الأصنام وبناء المسجد النبوي الذي أعدّه مركزاً لنشاطه ودعوته وحكومته وبالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ليقيم بذلك قاعدة شعبية صلبة يقوم عليها بناء الدولة الجديدة، هذا مضافاً إلي كتابة الصحيفة التي نظم فيها علاقة القبائل بعضها مع بعض والمعاهدة التي أمضاها مع بطون اليهود حيث كانت تشتمل علي الخطوط العامة لأوّل نظام إداري وحكومي إسلامي. ولقد واجهت الدولة الإسلامية الفتية وكذا الدعوة الإسلامية مواجهة شرسة من جانب قريش التي عزمت علي اكتساح الدعوة والدولة الإسلاميتين فشنّت الحرب بعد الحرب علي المسلمين وكان لابدّ للنبي (صلي اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين من الدفاع. وبدأت سنوات الدفاع عن هذه الدولة الفتية وقد افتتحها بأوّل سريّة بقيادة عمّه حمزة في الشهر السابع بعد الهجرة وجهّز ثلاث سرايا الي نهاية العام الأوّل من الهجرة. ونزلت في هذا العام آيات كثيرة من سورة البقرة لترسم للنبي (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ودولته وأمّته أحكاماً خالدة وتفضح خطط المنافقين وتكشف مؤامرات اليهود ضدّ خاتم المرسلين ودولته العالمية الجديدة. لقد استهدفت قريش النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ودولته من خارج المدينة، واستهدف اليهود هذه الدولة من داخل المدينة فرصد النبيّ تحركاتهم جميعاً، وتتابعت ثمان غزواتٍ وسريّتان طيلة العام الثاني بمافيها غزوة بدر الكبري في رمضان المبارك حيث افترضت فريضة الصيام وتمّ تحويل القبلة كلُّ ذلك أعطي لاستقلال الاُمّة المسلمة والدولة الإسلامية بُعداً جديداً. وحفل العام الثاني بمزيد من الانتصارات العسكرية من جانب ونزول التشريعات السياسية والاجتماعية من جانب آخر ومنيت قريش واليهود بأوّل هزيمة فاضحة كما تمّ إجلاء بني قينقاع وهم أول طوائف اليهود التي اتّخذت المدينة وطناً بعد أن نكثوا عهدهم مع الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) عقيب انتصار المسلمين في بدر الكبري. واستمرت محاولات قريش العسكريّة ضد الإسلام والمسلمين من خارج المدينة ونكثت قبائل اليهود عهودها مع النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) عدّة مرّاتٍ خلال ثلاث سنوات متتابعة، فكانت خمس غزوات ، وهي : اُحد وبنو النضير والأحزاب وبنوقريظة وبنو المصطلق ـ ذات ثقل باهض علي عاتق النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين جميعاً خلال هذه السنين الثلاث.
من الفتح الی حجّة الوداع
وردّ اللّه كيد الأحزاب واليهود معاً في العام الخامس بعد أن أبلي المسلمون بلاءاً حسناً ومهّد اللّه بذلك للفتح المبين بعد أن أيسَتْ قريش من القضاء علي شوكة المسلمين وانطلق النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) بعد صلح الحديبية يتحالف مع القبائل المحيطة به ويستقطبها ليجعل منها قوة واحدة أمام قوي الشرك والإلحاد جميعاً حتي فتح اللّه له مكّة في العام الثامن ومكّنه من تصفية قواعد الشرك في شبه الجزيرة بعد أن أخضع عتاة قريش لدولته وسياسته المباركة. ثمّ كانت السنة التاسعة عامرة بوفود القبائل التي أخذت تدخل في دين اللّه أفواجاً. وكان العام العاشر عام حجة الوداع وهي آخر سنة قضاها النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) مع اُمّته وكان يمهّد لدولته العالمية ولاُمّته الشاهدة علي سائر الاُمم.
الرحیل و الانجازات الکبری للرسول
وتوفّي النبيّ القائد (صلي اللّه عليه وآله وسلم) في الثامن والعشرين من صفر المظفر سنة احدي عشرة هجرية، بعد أن أحكم دعائم دولته الإسلامية حيث عيّن لها القيادة المعصومة التي تخلفه وتترسّم خطاه متمثّلة في شخص علي بن أبي طالب (عليه السلام) ذلك الإنسان الكامل الذي ربّاه الرسول الكريم بيديه الكريمتين منذ أن ولد ورعاه أحسن رعاية طيلة حياته، وجسّد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كل قيم الإسلام في فكره وسلوكه وخلقه وضرب مثلاً أعلي في الانقياد لرسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ولأوامره ونواهيه فكان جديراً بوسام الولاية الكبري والوصاية النبوية والخلافة الإلهية حيث رشّحه عمق وجوده في كيان الرسالة الإسلامية والثورة الإلهيّة والدولة النبوية ليكون النائب الأوّل لرسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) حين غيابه عن مسرح الحياة بأمر من اللّه سبحانه وتعالي. وقد لبّي الرسول الأعظم (صلي اللّه عليه وآله وسلم) نداء ربّه بعد أن أتمَّ تبليغ الرسالة بنصب عليٍّ (عليه السلام) هادياً وإماماً للمسلمين علي الرغم من حراجة الظروف وصعوبتها. وهكذا ضرب الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) المثل الأعلي لطاعة اللّه والانقياد لأوامره حيث بلّغ أمر اللّه أحسن تبليغ وأتمّ الحجة بأبلغ بيان. تلك نظرة سريعة إلي شخصية وحياة خاتم الأنبياء محمّد بن عبداللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وهلمّ معنا بعد هذا العرض الموجز إلي دراسةٍ تفصيليةٍ في هذا المجال.
مظاهر من شخصیة النبي
العالم الامّي
لقد تميّز خاتم النبيين بأنه لم يتعلّم القراءة والكتابة عند أيّ معلّم بشريٍّ ولم ينشأ في بيئة علم وإنّما نشأ في مجتمعٍ جاهليٍّ، ولم يكذّب أحد هذه الحقيقة التي نادي بها القرآن. وقد ترعرع ونما في قوم هم من أشد الأقوام جهلاً وأبعدهم عن العلوم والمعارف، ولقد سمّي القرآن الذي جاء به محمّد صلي اللّه عليه وآله وسلم ذلك العصر بالعصر الجاهلي ولا يمكن أن تصدر هذه التسمية إلاّ من عالمٍ خبيرٍ بالعلم والجهل والعقل والحمق. أضف الي ذلك أنه قد جاء بكتاب يدعو الي العلم والثقافة والفكر والتعقّل واحتوي علي صنوف المعارف والعلوم، وبدأ بتعليم الناس الكتاب والحكمة وفق منهج بديع حتي أنشأ حضارة فريدةً إِخترقت الغرب والشرق بعلومها ومعارفها ولا زالت تتلألأ بهاءً ونوراً. فهو اُمي ولكنه يكافح الجهل والجاهلية وعبّاد الأصنام، وبعث بدين قيّم إلي البشرية وبشريعة عالمية تتحدّي البشرية علي مدي التاريخ. فهو معجزة بنفسه في علمه ومعارفه وجوامع كلمه ورجاحة عقله وثقافته ومناهج تربيته. ومن هنا قال تعالي: (فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) وقال له: (وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). أجل لقد أوحي اللّه اليه ما أوحي وعلّمه الكتاب والحكمة وجعله نوراً وسراجاً منيراً وبرهاناً وشاهداً ورسولاً مبيناً وناصحاً أميناً ومذكّراً ومبشّراً ونذيرا. ولقد شرح اللّه له صدره وأعدّه لقبول الوحي والقيام بمهمة الإرشاد في مجتمع تسيطر عليه العصبية والأنانية الجاهلية فكان أسمي قائدٍ عرفته البشرية في مجال الدعوة والتربية والتعليم. إنها نقلة كبيرة أن يصبح المجتمع الجاهلي في بضع سنين حارساً أميناً ومدافعاً قوياً لكتاب الهداية ومشعل العلم ويقف أمام محاولات التشويه والتحريف، إنها معجزة هذا الكتاب الخالد وذلك الرسول الاُمي الرائد، والذي كان أبعد الناس ـ في ذلك المجتمع الجاهلي ـ عن الخرافات والأساطير. إنّه نور البصيرة الربّانية التي أحاطت به بكل جوانب وجوده.
الثقة المطلقة بالله تعالی
قال اللّه تعالي لرسوله (صلي اللّه عليه وآله وسلم): (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ )؟ وقال له أيضا : (وَتَوَكَّلْ عَلَي الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ). وقد كان رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) كما قال اللّه تعالي علي ثقة مطلقة به سبحانه. جاء عن جابر أنه قال : كنا مع رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) بذات الرقاع فإذاً أتينا علي شجرةٍ ظليلة تركناها لرسول اللّه ، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) معلق بالشجرة فاخترطه وقال: تخافني؟ قال: لا. قال: فمن يمنعك منّي؟ قال: اللّه . فسقط السيف من يده فأخذ رسول اللّه السيف فقال: من يمنعك منّي؟ فقال: كن خير آخذ. فقال: تشهد أن لا اله الاّ اللّه وأني رسول اللّه ؟ قال: لا ولكني أعاهدك أن لا اُقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلّي سبيله فأتي أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس.
الشجاعة الفائقة
قال اللّه تعالي: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إلاّ اللّه ) . وجاء عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ الذي طأطأ له فرسان العرب ـ أ نّه: كنّا إذا احمرّ البأس ولقيَ القومُ القومَ اتّقينا برسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) فما يكون أحدٌ أدني من القوم منه. ووصف المقداد ثبات رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) يوم اُحدٍ بعد أن تفرّق الناس وتركوا رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وحده فقال: والذي بعثه بالحق إن رأيت رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) زال شبراً واحداً. إنّه لفي وجه العدوّ تثوب اليه طائفة من أصحابه مرّة وتتفرّق عنه مرّة، فربّما رأيته قائماً يرمي عن قوسه أويرمي بالحجر حتي تحاجروا.
الجود و الحلم
قال ابن عبّاس: كان النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان.. إنّ جبريل كان يلقاه في كل سنة من رمضان.. فإذا لقيه جبريل كان رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) أجود بالخير من الريح المرسلة. وقال جابر: ما سُئل النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً قطّ فقال لا. وروي أن رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) أتي صاحب بزٍّ فاشتري منه قميصاً بأربعة دراهم فخرج وهو عليه، فإذا رجل من الأنصار. فقال: يا رسول اللّه أكسني قميصاً كساك اللّه من ثياب الجنة فنزع القميص فكساه إيّاه، ثم رجع الي صاحب الحانوت فاشتري منه قميصاً بأربعة دراهم وبقي معه درهمان فاذا هو بجارية في الطريق تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: يا رسول اللّه دفع اليَّ أهلي درهمين اشتري بهما دقيقاً فهلكا، فدفع النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) إليها الدرهمين فقالت: أخاف أن يضربوني فمشي معها الي أهلها فسلّم فعرفوا صوته، ثمّ عاد فسلّم، ثمّ عاد فثلّث، فردّوا، فقال: أسمعتم أوّل السلام؟ فقالوا: نعم ولكن أحببنا أن تزيدنا من السلام. فما أشخصك بأبينا واُمِّنا؟ قال: أشفقت هذه الجارية أن تضربوها، قال صاحبها: هي حرّة لوجه اللّه لممشاك معها. فبشّرهم رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) بالخير وبالجنّة؛ وقال: لقد بارك اللّه في العشرة كسا اللّه نبيّه قميصاً ورجلاً من الأنصار قميصاً وأعتق منها رقبة، وأحمد اللّه هو الذي رزقنا هذا بقدرته. وكان إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطي كل سائلٍ. وعن عائشة: أن رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ما انتقم لنفسه شيئاً يؤتي إليه إلاّ أن تنتهك حرمات اللّه . ولا ضرب بيده شيئاً قط الاّ أن يضرب بها في سبيل اللّه ولا سُئل شيئاً قط فمنعه إلاّ أن يُسألَ مأثماً فإنه كان أبعد الناس منه. وعن عبيد بن عمير: أن رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ما اُتي في غير حدٍّ إلاّ عفا عنه. وقال أنس: خدمت رسول اللّه عشر سنين. فما قال لي اُفٍّ قطّ، وما قال لشئصنعتهُ: لِم صنَعْتَه؟ ولا لشيء تركتُه: لِمَ تركتَه؟. وجاءه أعرابيٌّ فجذب رداءه بشدّة حتي أثرت حاشية الرداء علي عاتق النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال له: يا محمد مر لي من مال اللّه الذي عندك. فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء. لقد عُرف (صلي اللّه عليه وآله وسلم) بالعفو والسماحة طيلة حياته... فقد عفا عن وحشي قاتل عمه حمزة... كما عفا عن المرأة اليهودية التي قدمت له شاةً مسمومةً. وعفا عن أبي سفيان وجعل الدخول الي داره أماناً من القتل. وعفا عن قريش التي عتت عن أمر ربّها وحاربته بكل ما لديها.. وهو في ذروة القدرة والعزّة قائلاً لهم: «اللهم اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون.. اذهبوا فأنتم الطلقاء». لقد أفصح القرآن عن عظمة حلم الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) بقوله تعالي: (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)، ووصف مدي رأفته ورحمته بقوله تعالي: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ).
نماذج من أدعیته الشریفة
ألف ـ من دعائه في شهر رمضان بعد المكتوبة : «اللهم أدخل علي أهل القبور السرور، اللهم أغن كلّ فقير، اللهم أشبع كلّ جائع، اللهم اكس كلّ عريان، اللهم اقض دَيْن كلّ مدين، اللهم فرّج عن كلّ مكروب، اللهم رد كلّ غريب، اللهم فكّ كل أسير، اللهم أصلح كل فاسد من اُمور المسلمين، اللهم اشف كلّ مريض، اللهم سدّ فقرنا بغناك، اللهم غيّر سوء حالنا بحسن حالك، اللهم اقضِ عنّا الدين وأغننا من الفقر إنّك علي كل شيء قدير». ب ـ دعاؤه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) يوم بدر : « اللهم أنت ثقتي في كلّ كرب، وأنت رجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقة وعُدّة، كم من كرب يضعف عنه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه القريب، ويشمت به العدو، وتعييني فيه الأُمور، أنزلته بك وشكوته إليك راغباً فيه إليك عمّن سواك ففرّجته وكشفته عني وكفيتنيه، فأنت وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حاجة، ومنتهي كلّ رغبة، فلك الحمد كثيراً ولك المنّ فاضلاً ». ج ـ دعاؤه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) يوم الأحزاب : «يا صريخ المكروبين ويا مجيب دعوة المضطرين اكشف عني همّي وغمي وكربي فإنّك تعلم حالي وحال أصحابي فاكفني هول عدوي فإنه لا يكشف ذلك غيرك». د ـ دعاء علّمه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) لبعض أصحابه يتّقي به شرّ العدو : وذكر ابن طاووس في مهج الدعوات هذا الدعاء كما يلي: «يا سامع كلّ صوت، يا محيي النفوس بعد الموت، يا من لا يعجل لأنه لا يخاف الفوت، يا دائم الثبات، يا مخرج النبات يا محيي العظام الرميم الدارسات. بسم اللّه ، اعتصمت باللّه وتوكلت علي الحيّ الذي لا يموت، ورميت كل من يؤذيني بلا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم». ه ـ دعاؤه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) لقضاء الدين علّمه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): «اللهم اغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمّن سواك». و ـ دعاؤه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) إذا وضعت المائدة بين يديه : كان رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) إذا وضعت المائدة بين يديه قال: «سبحانك اللهم ما أحسن ما تبتلينا، سبحانك اللهم ما أكثر ما تعطينا، سبحانك اللهم ما أكثر ما تعافينا، اللهم أوسع علينا وعلي فقراء المؤمنين والمسلمين». وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربِّ العالمين
source : www.abna.ir