تنوع أسالیب القرآن الکریم وبلوغه القمة فی کل منها حیث نجد قمة البلاغة فی السور ذوات الآیات القصار کما نجدها فی ذوات الآیات الطوال، کذلک تشترک کل الآیات - بمضامینها المتنوعة - فی الإبداع، سواء منها آیات الوعد والوعید أم القصص أم التشریع أم مکارم الأخلاق أم العقائد وغیرها، بینما المعهود فی الأدباء والبلغاء..
أولاً: أن یکون لإبداعهم مذاق واحد. فلکل شخص أسلوبه المتمیز به، حتى ان النقّاد والباحثین یعتمدون على هذه النقطة فی نسبة القصائد والنتاجات الأدبیة لأصحابها الحقیقیین.
وثانیاً: ان کلاّ منهم یحلّق فی مساحة خاصّة، فقد قالوا فی شعر امرىء القیس: "یحسن عند الطرب وذکر النساء وصفة الخیل"، وشعر النابغة "عند الخوف" وشعر الأعشى "عند الطلب ووصف الخمر"، وشعر زهیر "عند الرغبة والرجاء"( 1)، فکل شاعر یحسن کلامه فی مجال فإنّه یضعف فی غیر ذلک، أمّا القرآن فإنّه بلغ الذروة بأسالیبه المختلفة وفی مساحات شتّى. وهذا مما ینفی کونه إبداعاً بشریاً.
عدم الاضطراب فی المحتوى، وتظهر أهمیة هذه النقطة مع ملاحظة ما یلی..
أ: تشعب المواضیع والعلوم التی یتعرّض لها، حیث یشتمل على منظومة من العقائد والحِکَم ومکارم الأخلاق والقوانین، ویتضمّن القصص التاریخیة وبعض الظواهر الکونیة.. وغیر ذلک.
ب: نزول کثیر من الآیات أو أکثرها من دون تهیئة مسبقة، أو تبعاً لحدث طارئ أو سفر أو حرب أو نحو ذلک مما لا یسمح بالتمعّن ومراجعة النص السابق تجنّباً للوقوع فی التناقض.
ج: تکرر الحدیث عن نفس المواضیع التی سبق التعرض لها فی فترات زمنیة متباعدة مما یجعله معرضاً للاضطراب والتناقض - لو کان نتاجاً بشریاً - وعدم الاقتصار فی الحدیث عن الموضوع مرة واحدة.
د: صدوره من غیر متعلم، إذ لم یعرف عن الرسول (صلى الله علیه وآله وسلّم) اهتمامه بالدراسة والتعلم، فکیف یمکنه إبداع القرآن وما تضمّنه من علوم وتعالیم وغیرها، فهو یتحدّث عن السماء والأرض والتوحید والأخلاق والتشریع والتاریخ وغیر ذلک، والى هذا تشیر الآیة الکریمة: ﴿وَمَا کُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن کِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِیَمِینِکَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ ( 2).
بعد ملاحظة هذه النقاط الأربع یتضح الوجه فی کون عدم الاختلاف والاضطراب فی القرآن دلیلاً على ارتباطه بالله تعالى ومن أدلة إعجازه، کما أشارت إلیه الآیة الکریمة: ﴿أَفَلاَ یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ کَانَ مِنْ عِندِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِیهِ اخْتِلاَفًا کَثِیرًا﴾ ( 3).
والبعض ممن لم ینتبه لهذه الخصوصیات الأربع لم یتفهم وجه کونه دلیلاً على الإعجاز، قال محمد عبدالعظیم الزرقانی: "ویلاحظ کذلک ان الاشتمال على الحِکَم البالغة، وعدم الاختلاف والتناقض بین معانیه لا یصلح واحد منها أن یکون وجهاً من وجوه الإعجاز، لأنّهما لا یخرجان عن حدود الطاقة بل کثیراً ما نجد کلام الناس مشتملاً على حِکَم وسلیماً من التناقض والاختلاف"( 4).
وما أدری کیف یفهم الزرقانی معنى هذه الآیة الصریحة فی جعل عدم الاختلاف فی القرآن دلیلاً على أنّه من الله تعالى لا من البشر، ویبدو أنّه أخذ عدم الاختلاف مجرداً عن الخصوصیات التی ذکرناها فلذلک لم یستوضح دلالته على الإعجاز.
ومن کلام للإمام علی (علیه السلام) فی نهج البلاغة: "وذکر أنّ الکتاب یصدق بعضه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فیه فقال سبحانه: ﴿ولو کان من عند غیر الله لوجدوا فیه اختلافاً کثیراً﴾ "( 5).
إخباره بالمغیبات، ویتضح وجه دلالة هذا الشاهد على الإعجاز من خلال ملاحظة ما یلی:
اولا: إنّ المتمیّزین بالإخبار عن بعض الأمور الغیبیة والعلوم الغریبة من الکهان ونحوهم کانوا بعدد الأصابع ومعروفین على مستوى الجزیرة العربیة یراجعهم العرب ویحکّمونهم أحیاناً فی أمورهم، ولم یعرف عن النبی (صلى الله علیه وآله وسلّم) انّه کان یرتاد أماکنهم ویختلط بهم، ولو کان قد استقى علومه الغیبیة من أحد هؤلاء لفضحه هو ومن یختص بذلک الشخص.
خصوصاً انّهم کانوا بعیدین عن مکّة بحیث یُقصَدون بعناء، فلیس من المعقول أن یرتاد على أحدهم شخص من أسرة معروفة متمیّزة فی مکة ویلازمه فترة طویلة من دون أن یعرف بذلک أحد حتى أقاربه وأهله، خاصةً أنّ الرسول (صلى الله علیه وآله وسلّم) کان فی کفالة عمه شیخ الأباطح أبی طالب الذی سببت دعوته له ولبنی هاشم إحراجاً عظیماً، خسروا بسببها زعامتهم فی قریش وعُزِلوا عن المجتمع المکّی وحوربوا على جمیع الأصعدة، فلو کانوا قد اکتشفوا دجلاً منه من خلال ارتباطه بالکُهّان ونحوهم لنبذوه ولم یتحملوا المحنة العصیبة بسببه.
وقد تنبّه الکاتب الإنجلیزی (هـ. ج. ویلز) لذلک حیث قال: "إنّ من أرفع الأدلة على صدق محمد کون أهله وأقرب الناس إلیه یؤمنون به، فقد کانوا مطلعین على أسراره، ولو شکوا فی صدقه لما آمنوا به".
ثانیا: إنّ النبی (صلى الله علیه وآله وسلّم) لم یحتجّ بتحقق إخباراته الغیبیة لاثبات صدق دعواه الرسالة الالهیة، فلم تجرّ إلیه نفعاً ولم تدعم سلطانه حین تحققها، بل ان بعضها تحقق بعد وفاته (صلى الله علیه وآله وسلّم)، مما یکشف یقیناً ان الإخبار بها لم یکن لمطامع دنیویة - کما یفعل الکهنة والمرتبطون بعالم الجن ونحوهم - مثل إخباره بغلبة الروم فی المستقبل - فی بضع سنین - واقتران ذلک بغلبة المسلمین ونصرهم، الأمر الذی لم یکن یخطر فی بال أحد آنذاک، قال سبحانه وتعالى: ﴿ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِی أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَیَغْلِبُونَ * فِی بِضْعِ سِنِینَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَیَوْمَئِذٍ یَفْرَحُ * بِنَصْرِ اللَّهِ یَنصُرُ مَن یَشَاء وَهُوَ الْعَزِیزُ الرَّحِیمُ *وَعْدَ اللَّهِ لَا یُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لَا یَعْلَمُونَ﴾ ( 6)، فترى لسان الآیة لسان الواثق المتیقّن الذی لا یقبل أی شک أو تردید.
وبالفعل تحققت کل هذه النبوءات - غَلَبت الروم، فی أقل من عشر سنوات، مقرونة بفرح المؤمنین بنصر الله فی بدر الکبرى - ولم یُعَرف ان الرسول (صلى الله علیه وآله وسلّم) استثمر ذلک فی مخاصمة المشرکین وتقویة حجّته.
ومن آیات الغیب هذه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَکَ إِنَّ رَبَّکَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤیَا الَّتِی أَرَیْنَاکَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِی القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا یَزِیدُهُمْ إِلاَّ طُغْیَانًا کَبِیرًا﴾ ( 7)، حیث روى جمع من المؤرخین والمفسرین - من الفریقین - نزول هذه الآیة المکیة فی بنی أمیة، حیث رآهم النبی (صلى الله علیه وآله وسلّم) ینزون على منبره فاغتمّ لذلک فنزلت الآیة الکریمة فی مکة، فصدّقها الزمن بعد حین. ( 8)
أترى مثل هذه الإخبارات الغیبیة تتناسب مع إخبارات الکهنة ومن شابههم؟!
وهناک العدید من إخبارات الرسول (صلى الله علیه وآله وسلّم) - غیر القرآنیة - کانت من هذا القبیل حیث لم یستثمرها وإنّما شهد الزمن بصدقها فیما بعد، کإخباره بأنّ عماراً تقتله الفئة الباغیة وانّ آخر شرابه ضیاح من لبن، وکان هذا الحدیث من الحقائق الثابتة تاریخیاً حیث بلغ حداً من الانتشار بین المسلمین بحیث أحرج معاویة عند مقتل عمّار واضطرب جیش أهل الشام وکاد الأمر ینقلب علیه لولا حیلة صاحبه عمرو بن العاص حینما خدع رعاة أهل الشام بقوله: "إنما قتل عمّاراً من جاء به" محمّلاً الإمام علیاً (علیه السلام) مسؤولیة مقتله( 9).
عوداً على الموضوع نقول: بملاحظة هاتین النقطتین یتضح کیف تکون تلک الإخبارات الغیبیة شاهدة على إعجاز القرآن وارتباطه بالله تعالى.
المصادر :
1- التفسیر الکبیر: 2/ 116
2- سورة العنکبوت: 48.
3- سورة النساء: 82.
4- مناهل العرفان، ج: 2 443.
5- نهج البلاغة،الخطبة: 18/61 تحقیق صبحی الصالح.
6- سورة الروم: 1 - 6.
7- سورة الإسراء: 60.
8- حکاه فی الدر المنثور عن ابن جریر عن سهل بن سعد، وأیضاً عن ابن أبی حاتم عن ابن عمر، وأیضاً عن ابن ابی حاتم عن یعلى بن مرة، وأیضاً عن ابن مردویه عن الحسین بن علی، وأیضاً عن البیهقی فی الدلائل وابن عساکر عن سعید بن المسیب، وعن آخرین. ان المقصود من الشجرة الملعونة هم بنو أمیة.
9- یراجع تأریخ الامم والملوک للطبری:3/27 و 29، وغیره.
source : .www.rasekhoon.net