علي رغم اقصاء الامام العسكري عليه السلام عن موقعه الريادي والقيادي ، فقد استطاع ان ينهض بمهمته الرسالية ، فكان له رصيد علمي وعطاء معرفي واسع ، حيث واصل نشاط مدرسة ابائه المعصومين عليهم السلام من حيث المنهج والمصدر والمادة ، ومهد لمدرسة الفقهاء والمحدثين من اصحابه التي سارت علي خطاها ، فكان له دور بارز في رفد تلك المدرسة بالمادة العلمية اللازمة علي مختلف الاصعدة ، سيما في مجال ترسيخ اصول الاعتقاد ، وايصال سنن جده المصطفي صلى الله عليه و اله الي الامة في احلك الظروف اقساها ، وقد نسبت اليه بعض الاثار في هذا الاتجاه ، كما اعد جيلا من الاصحاب الثقات الذين رفدوا الواقع الشيعي بمصادر يستقي منها العلم ومناهل تؤخذ منها المعرفة ، وكان بعضها يعرض عليه لينال تصحيحه وتوثيقه ، وتصدي الامام عليه السلام لبعض الدعوات المنحرفة والشبهات الباطلة التي تشكل موطن خطر علي الرسالة وبين زيفها وبطلانها ، فاسهم في انقاذ الامة من حالة التعثر في مهاوي الضلال والانحراف ، وفيما يلي نقف عند بعض تلك العطاءات في المباحث التالية :
دوره عليه السلام في ترسيخ العقائد الاسلامية
نحاول هنا اثارة بعض الكلمات التي وردت عن الامام العسكري عليه السلام في شؤون العقيدة والكلام ، وما يتصل بذلك من التمهيد لغيبة ولده الحجة المهدي عليه السلام ، وملاحظة بعض الافكار المنحرفة لردها وتفنيدها ، وكما يلي :
اولا : كلماته في التوحيد
ففي باب التوحيد لم يدع الامام عليه السلام مناسبة دون ان يوجه اصحابه الي التوحيد الخالص والتحذير من رواسب الشرك مهما دقت وصغرت ، ومن ذلك ما رواه ابوهاشم الجعفري قال : « سمعت ابا محمد عليه السلام يقول : من الذنوب التى لا تغفر قول الرجل : ليتني لا اؤاخذ الا بهذا ، فقلت فى نفسى : ان هذا لهو الدقيق ، ينبغي للرجل ان يتفقد من امره ومن نفسه كل شيء ».
فكان الامام عليه السلام عرف ما في نفسه ، وهناك احاديث كثيرة عنه وعن ابائه عليهم السلام تذكر ان بعض الناس كان يسمع الجواب من الامام وهو يفكر ، اي لم يطرح السؤال بعد ، حيث ان الملكة القدسبة تجعله عليه السلام يعرف ما يضمرون من قبل ان يتحدثوا به. فقال عليه السلام« يا اباهاشم ، صدقت فالزم ما حدثت به نفسك ، فان الاشراك في الناس اخفي من دبيب الذرعلي الصفا في الليلة المظلمة ، ومن دبيب الذرعلي المسح الاسود » (1).
وكان الجدل يدور في صفات الله تعالي منذ عهد الامام الباقر عليه السلام حتي عهد الامام العسكري عليه السلام ، ولعل ابرز المسائل التي كانت مدار البحث والجدل هيمسالة الرؤية والتجسيم والتصوير ، وكان منهج الائمة عليه السلام هو انهم يتحدثون بلغة القران وباسلوبه وبمفرادته في العقيدة ، ليوجهوا الناس الي الاخذ بالعناوين الكبري في العقيده من القران الكريم لامن غيره.
فعن يعقوب بن اسحاق ، قال : « كتبت الي ابي محمد عليه السلام اساله : كيف يعبد العبد ربه وهو لايراه؟فوقع عليه السلام: يا ابا يوسف ، جل سيدي ومولاي والمنعم علي وعلي ابائي ان يري ».
قال : وسالته : « هل راي رسول الله صلى الله عليه و اله ربه؟فوقع عليه السلام: ان الله تبارك وتعالي اري رسوله بقلبه من نور عظمته ما احب » (2).
وعن سهل بن زياد ، قال : « كتب الي ابي محمد عليه السلام سنة خمس وخمسين وومائتين : قد اختلف يا سيدي اصحابنا في التوحيد »وهذا يدل علي ان الجدل الكلامي في التوحيد كان يدور حتي في اوساط اتباع اهل البيت عليهم السلام« فمنهم من يقول هو جسم ، ومنهم من يقول : هو صورة ، فان رايت يا سيدي ان تعلمني من ذلك ما اقف عليه ولااجوزه ، فعلت متطولا علي عبدك؟ »والعبودية هنا من باب التواضع.« فوقع بخطه عليه السلام: سالت عن التوحيد ، وهكذا منكم معزول ، الله واحد احد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا احد ، خالق وليس بمخلوق ، يخلق تبارك وتعالي ما يشاء من الاجسام وغير ذلك وليس بجسم ، ويصور ما يشاء وليس بصورة جل ثناؤه وتقدست اسماؤه ان يكون له شبه ، هو لاغيره ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير » (3).
فلقد اراد عليه السلام ان يقول للسائل بان لا يستغرق في الجدل الكلامي عندما يتحدث عن الله سبحانه وتعالي ، ولكن طلب اليه ان يقرا كتاب الله فيما انزله من اياته ، فهو اعرف بنفسه من مخلوقاته كلها؛لان المخلوق لا يستطيع ان يعرف من ربه الا ما عرفه ربه ، والا فلا يمكن للعقل ان يدرك صفاته جل جلاله ذاتيا ، فهو ليس بجسم لانه خالق الاجسام ، وهو ليس بصورة لانه خالق الصورة ومبدعها.
وعن ابي هاشم الجعفري ، قال : « سال محمد بن صالح الارمني ابا محمد عليه السلام عن قول الله تعالي : ((يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب)) (4) فقال : هل يمحو الا ما كان ، وهل يثبت الا ما لم يكن. فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقول هشام : انه لايعلم الشيء حتي يكون. فنظر الي ابو محمد عليه السلام فقال : تعالي الجبار العالم بالاشياء قبل كونها ، الخالق اذ لامخلوق ، والرب اذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه ، فقلت : اشهد انك ولي الله وحجته والقائم بقسطه ، وانك علي منهاج امير المؤمنين » (5) ، فلقد اُكّد ان المخلوقين يحتاجون الي معرفة الاشياء في صورتها الوجودية ، اما الله سبحانه فهو الذي يخلق الوجود ، فهو يعرف ما يريد ان يخلقه قبل ان يخلقه.
ثانيا : كلماته في الامامة
اكد الامام العسكري عليه السلام في الكثير من كلماته علي فرض الولاية لاهل البيت عليهم السلام وضرورة معرفتهم والتصديق بهم والتمسك بهديهم واداء حقوقهم التي جعلها الله لهم ، ولولا ذلك لايستكمل المرء خصال الايمان.
ومن ذلك ما جاء في كتاب له عليه السلام الي اسحاق بن اسماعيل النيسابوري : « ...ان الله بمنه ورحمته لما فرض عليكم الفرائض ، لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه اليكم ، بل برحمة منه ـ لااله الا هو ـ عليكم ، ليميز الخبيث من الطبيب ، وليبتلي ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم ، لتسابقوا الي رحمة الله ، ولتتفاضل منازلكم في جنته.
ففرض عليكم الحج والعمرة واقام الصلاة وايتاء الزكاة والصوم والولاية ، وجعل لكم بابا تستفتحون به ابواب الفرائض ، ومفتاحا الي سبيله ، لولا محمد صلى الله عليه و اله والاوصياء من ولده لكنتم حياري كالبهائم ، لاتعرفون فرضا من الفرائض ، وهل تدخل مدينة الا من بابها ، فلما من عليكم باقامة الاولياء بعد نبيكم ، قال الله في كتابه : ((اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا)) (6) وفرض عليكم لاوليائه حقوقا امركم بادائها ليحلَّ لكم ماوراء ظهوركم من ازواجكم واموالكم وماكلكم مشاربكم ، قال الله تعالي : ((قل لااسالكم عليه اجرا الا المودة في القربي)).. » (7).
وفي حديث ابي هاشم الجعفري : « ان الامام العسكري عليه السلام قال له مبينا منزلة اهل البيت عليهم السلام : ...ما ظنك بقوم من عرفهم عرف الله ، ومن انكرهم انكر الله ، ولايكون مؤمنا حتي يكون لولايتهم مصدقا ، وبمعرفتهم موقنا » (8).
قال ابوهاشم : « وقلت في نفسي : اللهم اجعلني في حزبك وفي زمرتك. فاقبل علي ابومحمد عليه السلام فقال : انت في حزبه وفي زمرته ان كنت بالله مؤمنا ولرسوله مصدقا ، وباوليائه عارفا ، ولهم تابعا ، فابشر ثم ابشر » (9) ، فالانتماء الي حزب الله ليس مجرد دعوي ، بل هو ارتباط عقائدي ومنهج سلوكي يقتضي الايمان بالله والتصديق برسوله صلى الله عليه و اله ومعرفة اوليائه ، وبذلك حدد عليه السلام مبدا الولاية لله وللرسول صلى الله عليه و اله ولعترته الطاهرة.
وفي حديث اخر عن الحسن بن ظريف بين فيه الامام العسكري عليه السلام المصداق البارز لحزب الله عند اختلاف الكلمة ، قال : « كتبت الي ابي محمد عليه السلام اساله : مامعني قول رسول الله لاميرالمؤمنين عليه السلام : من كنت مولاه فعلى مولاه؟فقال : اراد بذلك ان جعله علما يعرف به حزب الله عند الفرقة » (10)
وجاء في كتاب المحتضر للحسن بن سليمان عنه عليه السلام في هذا السياق مايؤكد فضل اهل البيت عليهم السلام ووجوب ولايتهم ، قال : « روي انه وجد بخط مولانا ابي محمد العسكري عليه السلام : ...فنحن السنام الاعظم ، وفينا النبوة والولاية والكرم ، ونحن منار الهدي والعروة الوثقي ، والانبياء كانوا يقتبسون من انوارنا ، ويقتفون اثارنا ، وسيظهر حجة الله علي الخلق بالسيف المسلول لاظهار الحق... » (11).
وفي كتاب اخر له عليه السلام الي محمد بن الحسن بن شمون : « ...نحن كهف لمن التجاء الينا ، ونور لمن استبصر بنا ، وعصمة لمن اعتصم بنا ، من احبنا كان معنا في السنام الاعلي ، ومن انحرف عنا فالي النار » (12).
ثالثا : التمهيد لغيبة ولده الحجة عليه السلام
سار الامام العسكري عليه السلام علي خطي ابيه عليه السلام في التخطيط لمستقبل الامامة والتحضير لزمان الغيبة بتهيئة المقدمات الضرورية للانتقال من مرحلة الامامة الظاهرة الي الامامة الغائبة ، وتعويد الشيعة علي ذلك فكرا وسلوكا.
وكانت المهمة التي نهض بها الامام العسكري عليه السلام في هذا السبيل صعبة للغاية ، ذلك لانه والد الامام الثاني عشر عليه السلام ويقع عليه العبء الاكبر في ترسيخ مبدا الغيبة التي بدات تباشيرها واوشك زمانها في وقت عصيب عملت فيه السلطة الحاكمة علي عزل الامام عليه السلام عن اصحابه ومواليه وشددت الرقابة عليه ، ووقفت ضده وضد فكرة الغيبة بالذات ، سيما وانهم يدركون انه قد ان اوانها وان الامام الثاني عشر علي وشك الولادة ، مما يهدد كيانهم ويقض مضاجعهم ، فالتبليغ في هذا الاتجاه يعتبر في منطق السلطة خروجا وتحديا يستحق اقصي العقاب.
لكن مع ذلك استطاع امامنا الممتحن الصابر عليه السلام ان ينهض يهذه المهمة العسيرة بكل جدارة وقوة ، فعمل علي تاصيل هذا المبداء العقائدي الذي هو من صميم الدين وضرورياته في نفوس اصحابه ، للحفاظ علي خطهم الرسالي من الضياع والانهيار والتحذيرمن الاختلاف والفرقة وغيرها من التداعيات المحتملة للفترة الانتقالية من الظهور الي الغيبة ، كما استطاع ان يتخذ تدابير الحيطة والسرية للحفاظ علي حياة ولده الحجة عليه السلام من براثن السلطة وادوات رقابتها وقمعها.
من هنا يمكن تلخيص نشاط الامام العسكري عليه السلام في هذا الاتجاه بما يلي :
1 ـ التمهيد العملي للغيبة
من البديهي انه لوغاب الامام الحجة عليه السلام عن شيعته ، واوكل ادارة امورهم ابتداء الي القيم او السفير الذي يعينه لاداء هذه المهمة ، لكان ذلك مدعاة للاستغراب ، ولتولد عنه مضاعفات ونتائج غير محمودة.
من هنافقد اتخذ الامام العسكري عليه السلام ومن قبله ابوه عليه السلام اسلوبا شبيها بمنهج الامام المهدي عليه السلام في الاحتجاب عن الناس وايكال امر تبليغ الاحكام وقبض الحقوق المالية وايصال التواقيع الصادرة عن الامام الي الوكلاء الذين يختارهم من خاصة اصحابه ، لغرض تهيئة الذهنية العامة كى تستسيغ هذا الاسلوب ويحسن تقبلها له.
قال المسعودي في اواخر (اثبات الوصية) : « روي ان ابا الحسن صاحب العسكر عليه السلام احتجب عن كثير من الشيعة الا عن عدد يسير من خواصه ، فلما افضي الامر الي ابي محمد عليه السلام كان يكلم شيعته الخواص وغيرهم من وراء الستر الا في الاوقات التي يركب فيها الي دار السلطان ، وان ذلك انما كان منه ومن ابيه قبله مقدمة لغيبة صاحب الزمان عليه السلام لتالف الشيعة ذلك ، ولاتنكر الغيبة ، وتجري العادة بالاحتجاب والاستتار » (13).
وحينما يطغي اسلوب الاحتجاب علي معظم حياة الامام عليه السلام ، يكون اتخاذ نظام الوكلاء الزم واقرب ، وكان هذا النظام ـ اي نظام الوكلاء ـ معمولا به حتي قبل الامامين العسكريين عليهم السلام لانه يحقق ارتباط الائمة عليهم السلام بالبلاد البعيدة ذات القواعد الموالية لهم عليهم السلام ، لكنه اصبح ظاهرة ملموسة تمارسها حتي القوعد القريبة خلال امامة العسكريين. عليهم السلام
وكان من بين الوكلاء الذين اعتمدهم الامام العسكري عليه السلام للنهوض بهذا الامر : ابراهيم بن عبدة النيسابوري ، واحمد بن اسحاق الاشعري ، وايوب بن نوح بن دراج ، وجعفر بن سهيل الصيقل ، وحفص بن عمرو العمري ، وابو عمرو عثمان بن سعيد العمري ، وعلي بن جعفر الهماني ، والقاسم بن العلاء الهمداني ، ومحمد بن احمد بن جعفر القمي ، وابوجعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري ، ومحمد بن صالح بن محمد الهمداني وغيرهم.
ويمكن القول ان وكالة عثمان بن سعيد للامام العسكري عليه السلام كانت بمثابة التمهيد للسفارة المهدوية؛لان عثمان بن سعيد كان السفير الاول للامام الحجة عليه السلام ، وذلك مما يزيد من ثقة الشيعة به ، سيما وانه منصوص علي ثقته وامانته وعدالته وصلاحه لهذا الامر من قبل الامامين العسكريين عليهم السلام (14).
وكانت اداة الامام عليه السلام في الاتصال بشيعته هي المكاتبات ووالتواقيع التي يتحمل الوكيل العبء الاكبر في ايصالها من والي الامام ، فكان الاصحاب يكتبون الي الامام عليه السلام بعض المسائل التي تشكل عليهم في امور دينهم ودنياهم ، والامام عليه السلام يجيب عليها عن طريق التواقيع.
وقد تفشي هذا الاسلوب حتي اتخذت المكاتبات والتواقيع حيّزاً واسعاً في تراث الامامين العسكريين ، وبلغت من الكثرة بحيث اصبحت مادة للجمع والتاليف من قبل بعض الاصحاب المعاصرين للعسكريين عليهم السلام ، ومنهم : عبدالله بن جعفر الحميري ، الذي صنف (مسائل الرجال ومكاتباتهم اباالحسن الثالث عليه السلام) و (مسائل لابي محمد الحسن عليه السلام علي يد محمد بن عثمان العمري) و (مسائل ابي محمد وتوقيعاته) (15). وعلي بن جعفر الهماني البرمكي ، وله (مسائل لابي الحسن عليه السلام) (16) ، ومحمد بن الحسن الصفارت290هـ ، وله (مسائل كتب بها الي ابي محمد الحسن العسكري عليه السلام) (17) ، ومحمد بن الريان بن الصلت الاشعري ، وله (مسائل لابي محمد الحسن العسكري عليه السلام) (18) ، ومحمد بن سليمان ابن الحسن الزراري ، وله (مسائل وجوابات لابي محمد الحسن العسكري عليه السلام) (19) ، ومحمد بن علي بن عيسي القمي ، وله (مسائل لابي محمد العسكري عليه السلام) (20) وغيرهم.
وصفوة القول ان الامام العسكري عليه السلام استطاع من خلال التخطيط للارتباط به عن طريق الوكلاء ، ان يمهد لنفس الاسلوب الذي اعتمده ولده الامام المهدي عليه السلام خلال غيبته الصغري (260 ـ329هـ) وبذلك اعتاد الشيعة هذا الامر وتقبلوه بشكل تدريجي يزيح معه كل عوامل الارتياب والشك ، وهكذا كانت غيبة الامام الصغري ايضا تمهيدا للغيبة الكبري التي امر الامام عليه السلام شيعته بالرجوع الي رواة حديثهم واتباع الفقهاء العدول من اتباع مدرستهم.
2 ـ النص علي ولده المهدي عليه السلام وعرضه علي اصحابه
وهذا الامر يتطلب المزيد من الحذر والحزم والموازنه بين نقيضين؛الاول يتطلب عرض الامام المهدي عليه السلام علي اصحابه للتاكد من ولادته والاشهاد عليها واثبات النص عليه ، والثاني يتطلب اخفاء ولادته والتكتم علي شخصه خشية من السلطة التي كانت مستعدة لبذل مختلف وسائل الاغراء والتهديد في سبيل القبض عليه.
وقد استطاع الامام العسكري عليه السلام الموازنة بين الامرين متحريا الحيطة والدقة ، متبعا اقصي درجات السرية والكتمان ، حيث حدثت الولادة المباركة في النصف من شعبان سنة255ه ، وجهد الامام العسكري عليه السلام خلال السنوات الخمس التي قضاها مع ابنه المهدي عليه السلام من اجل اخفاء ولادته واسمه ومكانه وسائر اموره عن اسماع السلطة ومراقبة عيونها.
فمن اساليب الكتمان انه عليه السلام لم يعق عن ابنه عليه السلام في داره ، بل اوصي احد اصحابه لاداء هذ المهمة ، وقد روي انه امر اباعمرو عثمان بن سعيد ان يعق عنه بكذا وكذا شاة (21) ، كما روي انه عليه السلام وجه الي ابراهيم بن ادريس بكبشين ، وكتب اليه« عق هذين الكبشين عن مولاك ، وكل هناك الله ، واطعم اخوانك » (22).
اما من حيث تبليغ اصحابه بالولادة او النص ، فمن الطبيعي انهم يختلفون في مقدار ضبطهم وصمودهم امام وسائل الاغراء والتهديد من قبل الجهاز الحاكم ، لهذا اختار الامام العسكري عليه السلام من اصحابه الاشخاص الذين يتوقع منهم صلابة الارادة وقوة الايمان وعمق الاخلاص ، وحملهم امانة الوصية ومسؤولية النص علي ولده الحجة عليه السلام بعد عرضه عليهم
ورد في الحديث انه كان يتخير لهذه المهمة الاقرب لقرابته والاولي لولايته وذوي الكرامة عندالله سبحانه ، ومع ذلك ياخذ عليهم بالكتمان ويوصيهم بالستر والسرية.
ففي كتاب له بخطه بعثه الي احمد بن اسحاق بن سعد الاشعري ، جاء فيه : « ولد لنا مولود ، فليكن عندك مستورا ، وعن جميع الناس مكتوما ، فانا لم نظهر عليه الا الاقرب لقرابته والولي لولايته.... » (23).
وجاء في حديث اخر : « يااحمد بن اسحاق ، لولا كرامتك علي الله عزوجل وعلي حججه ، ما عرضت عليك ابني هذا انه سمي رسول الله صلى الله عليه و اله وكنيه الذي يملا الارض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ».
الي ان قال : « يا احمد بن اسحاق هذا امر من امرالله ، وسر من سرالله ، وغيب من غيب الله ، فخذ ما اتيتك واكتمه ، وكن من الشاكرين تكن معنا في عليين » (24).
ويمكن القول ان اسلوب الاحتجاب الذي اعتمده الامام عليه السلام ساعد كثيرا علي اخفاء الولادة المباركة ، فضلا عن انشغال الدولة انذاك بحوادث كبری ، كان علي راسها ثورة صاحب الزنج وحركات يعقوب بن الليث الصفار وبعض الخوارج الشراة وغيرهم ، مما شغل الدولة عن الالتفات الي الولادة ، وفوق ذلك كله القدرة علي الاستتار عن الانظار التي حباها الله لوليه الحجة بن الحسن عليه السلام ، فكان مثله في هذه الامة مثل الخضر عليه السلام ومثل ذي القرنين ، كما جاء في كثير من الروايات التي تحدثت عن صفة القائم المهدي عليه السلام. كل ذلك جعل السلط تسقط اسم الحجة عليه السلام من حسابها القانوني علي الاقل ، كما ورد علي لسان اوثق اصحاب الامام عليه السلام ، وهو ابوعمرو عثمان ابن سعيد العمري حينما ساله عبدالله بن جعفر الحميري عن اسم الامام عليه السلام فقال : « اياك ان تبحث عن هذا ، فان عند القوم ان هذا النسل قد انقطع » (25).
وفي حديث اخر عنه ايضا قال الحميري : « قلت : فالاسم؟قال العمري : محرم عليكم ان تسالوا عن ذلك ، ولا اقول هذا من عندي ، فليس لي ان احلل ولا احرم ، ولكن عنه عليه السلام، فان الامر عند السطان ان ابا محمد عليه السلام مضي ولم يخلف ولدا ، وقسم ميراثه ، واخذه من لاحق له فيه ، وهو ذا عياله يجولون ليس احد يجسر ان يتعرف اليهم او ينيلهم شيئا ، واذا وقع الاسم وقع الطلب ، فاتقوالله وامسكوا عن ذلك » (26).
وتحريم السؤال عن الاسم الوارد في هذا الحديث هو من اساليب الكتمان التي انتهجها الامام العسكري عليه السلام لاخفاء ولده ، لان الاسم يدل علي المسمي ، فاذا اشير الي المسمي وقع الطلب عليه ، ولعل التحريم كان للتقية ويقتصر علي تلك الفترة التي اشتد الطلب بها علي الامام الثاني عشر عليه السلام وكثر السؤال عنه ، كما ذكر بعض الاعلام (27) ثم ان اشارة العمري رضى عنه الي تقسيم الميراث ، هي دلالة واضحة علي ان السلطة قد غضت النظر عن الامام الحجة عليه السلام ولو في حساباتها القانونية الانية ، وثبت ذلك عند القاضي ، كما جاء في حديث احمد بن عبيدالله بن خاقان ، وهو من رجال السلطة ، قال : « فلما دفن ـ اي الامام العسكري عليه السلام ـ وتفرق الناس ، اضطرب السلطان واصحابه في طلب ولده ، وكثر التفتيش في المنازل والدور ، وتوقفوا علي قسمة ميراثه ، ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين واكثر حتي تبين لهم بطلان الحبل ، فقسم ميراثه بين امه واخيه جعفر ، وادعت امه وصيته ، وثبت ذلك عند القاضي... » (28).
علي ان السلطة لم تغض النظر علي المدي البعيد ، بل يبقي هاجس الخوف يساورها الي ما بعد 18 سنة من شهادة الامام العسكري عليه السلام ، كما جاء في مجلس احمد بن عبيدالله بن خاقان الذي عقده في شعبان سنة278ه حينما كان عاملا من قبل السلطان علي الخراج والضياع في قم ، وجاء في اخر المجلس : « والسلطان يطلب اثر ولد الحسن بن علي عليه السلام حتي اليوم »(29) وقوي الشر الي اليوم ما انفكت تخشي من اسم المهدي ومن حكومته الموعودة في يوم الخلاص والانعتاق من الظلم والجور الذي غطی انحاء الارض.
ومهما يكن فان الامام العسكري عليه السلام استطاع اداء التكليف المتعلق به ، وهو التبليغ لولده الحجة عليه السلام بعرضه علي اصحابه والاشهاد علي ولادته والنص عليه ، بالقدر الذي تقوم به الحجة علي الناس مع الضمان الكامل لنجاته من تطلب الجهاز الحاكم ، وفيما يلي نقتصر علي ذكر الاشخاص الذين حملهم الامام العسكري عليه السلام مسؤولية حفظ النص علي ولده بالامامة ، او اولئك الذين اثبت عليهم الحجة قولا وعملا بعرض ولده المهدي عليه السلام عليهم ، دون ان نذكر الاحاديث بلفظها كي لايطول المقام.
أ ـ رواة النص عن الامام العسكري عليه السلام
لابد من الاشارة اولا الي ان النص علي ظهور الامام المهدي عليه السلام في اخر الزمان جاء في تراث المسلمين متواترا عن النبي صلى الله عليه و اله وقد اثبته مؤلفوا الصاح والمسانيد (30) ، كما روي النص علي الامام المهدي عليه السلام وكونه ابن الحسن العسكري عليه السلام وانه الثاني عشر من ائمة اهل البيت المعصومين ، جملة اصحاب الائمة عليهم السلام جيلا بعد جيل حتي اصبح الاعتقاد بالغيبة من ضروريات مذهب التشيع ، فكان كل واحد من الائمة عليهم السلام مالمعصومين يؤدي دوره الكافي في هذا الاطار ، لتوعية الناس وارشادهم الي هذه العقيدة الكبري ، كما صرحوا بصفات الامام الغائب قبل ولادته ، فاخبروا عن كونه ابن سيدة الاماء ، وانه خفي الولادة معروف النسب ، وان الناس لايرون شخصه ولايحل لهم ذكره باسمه ، واخبروا عن غيبته قبل وقوعها ، وان له غيبتين احداهما اطول من الاخري ، وانه الامام المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره ، فيملا الارض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما (31) ، الي غير ذلك من الصفات التي لاتنطبق الا علي الامام محمد بن الحسن المهدي عليه السلام.
وجاء دور الامام العسكري عليه السلام ليقع عليه العبء الاكبر في هذا المجال ، باعتباره الوالد المباشر للامام الحجة عليه السلام ، فصرح لبعض اصحابه كما ذكرنا ، وفي فترات متفاوتة من اول الولادة المباركة حتي قبل مضيه بايام قلائل ، بكون ولده محمد عليه السلام هو الامام من بعده والخليفة علي اصحابه ، ومن بين الذين سمعوا النص عنه عليه السلام : احمد بن اسحاق بن سعد الاشعري ، واحمد بن محمد بن عبدالله ، وابوهاشم داود بن القاسم الجعفري ، وابو عمرو عثمان بن سعيد العمري ، وعمرو الاهوازي ، وابو غانم الخادم ، ومحمد بن ايوب بن نوح ، ومحمد بن عثمان العمري ، ومحمد بن علي بن بلال ، ومعاوية بن حكيم ، وموسي بن جعفر بنوهب ، ويعقوب بن منقوش وغيرهم.
ب ـ الذين راوا الامام المهدي في حياة ابيه عليهما السلام
وعرض الامام العسكري عليه السلام ولده علي بعض اصحابه الذين تقدم ذكرهم وغيرهم من خدم الدار ، ليكون ابلغ في تاكيد الحجة وتبليغ النص ، فتشرف بعضهم برؤيته في يومه الاول ، وبعضهم في اليوم الثالث ، وبعضهم حينما بلغ السنة الثالثة او الخامسة من عمره الشريف ، وكان من بينهم : احمد بن اسحاق بن سعد الاشعري الذي راه في سنته الثالثة ، وحكيمة ابنة الامام محمد الجواد عليه السلام وهي عمة ابيه الامام الحسن العسكري عليه السلام وكانت قابلته ، وحمزة بن ابي الفتح ، وحمزة بن نصر غلام ابي الحسن عليه السلام ، وابو نصر ظريف الخادم ، وجارية ابي علي الخيزراني ، وابو عمرو عثمان بن سعيد العمري ، وعمرو الاهوازي ، وابوغانم الخادم ، وكامل بن ابراهيم المدني ، ومارية ونسيم وكانتا من خدم الدار ، ويعقوب بن منقوش راه حينما كان خماسيا.
وعرضه عليه السلام قبل مضية بايام قلائل علي اربعين من اصحابه منهم : معاوية ابن حكيم ، ومحمد بن ايوب بن نوح ، ومحمد بن عثمان العمري ، قائلا لهم : « هذا امامكم من بعدي وخليفتي عليكم ، اطيعوه ولاتتفرقوا من بعدي في اديانكم فتهلكوا ، اما انكم لاتونه بعد يومكم هذا... ».
3 ـ بيان التكليف في زمان الغيبة
سبق عن النبي المصطفي صلى الله عليه واله واهل بيته المعصومين عليهم السلام في احاديث كثيرة التاكيد علي الغيبة وحتمية تحققها وضرورة الايمان بها ، وكونها سببا للابتلاء والتمحيص والحيرة ، مما يتطلب مستوي عاليا من الصبر وانتظار الفرج ، للثبات علي الدين ، وتقوية نوازع الاخلاص والاستقامة وقوة الارادة رجاء اليوم الموعود بظهور المصلح والاستخلاف في الارض وتاسيس دولة الحق في اخر الزمان.
وسار الامام العسكري عليه السلام في ذلك علي خطي ابائه عليه السلام ، ويمكن تلخيص دوره في هذا الاتجاه بالنقاط التالية :
أ ) معرفة الحجة رغم طول الغيبة والحيرة ، ففي حديث محمد بن عثمان العمري ، قال : « سمعت ابي يقول : سئل ابومحمد الحسن بن علي عليه السلام وانا عنده عن الخبر الذي روي عن ابائه عليه السلام : ان الارض لا تخلو من حجة الله علي خلقه الي يوم القيامة ، وان من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية. فقال عليه السلام : ان هذا حق كماان النهار حق. فقيل له : يابن رسول الله ، فمن الحجة والامام بعدك؟فقال : ابني محمد ، هو الامام والحجة بعدي من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية ، اما ان له غيبة يحار فيها الجاهلون ، ويهلك فيها المبطلون ، ويكذب فيها الوقاتون ، ثم يخرج فكاني انظر الي الاعلام البيض تخفق فوق راسه بنجف الكوفة » (32). وفي حديث الحسن بن محمد بن صالح البزاز ، قال : « سمعت الحسن بن علي العسكري عليه السلام يقول : ان ابني هو القائم من بعدي ، وهو الذي تجري فيه سنن الانبياء عليهم السلام بالتعمير والغيبة حتي تقسو القلوب لطول الامد ، فلا يثبت علي القول به الا من كتب الله عزوجل في قلبه الايمان وايده بروح منه » (33).
ب) التحذير من الاختلاف والشك والدعوة الي الثبات علي الدين ، كما جاء في الحديث الذي قدمناه انفا« ولا تتفرقوا من بعدي في اديانكم فتهلكوا » (34).
وحذر الامام العسكري عليه السلام في اكثر من مناسبة اصحابه من ان تميل بهم الاهواء او تعصف بقلوبهم الفتن لطول الغيبة وشدة الريبة ، واكد علي ضرورة التمسك بالامام من بعده وطاعته ، كما ورد في حديث موسي بن جعفر بن وهب البغدادي ، قال : « سمعت ابا محمد الحسن بن علي عليه السلام يقول : كاني بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف مني ، اما ان المقر بالائمة بعد رسول الله صلى الله عليه و اله المنكر لولدي ، كمن اقر بجميع انبياءالله ورسله ثم انكر نبوة رسول الله صلى الله عليه واله ، والمنكر لرسول الله صلى الله عليه واله كمن انكر جميع انبياء الله؛ لان طاعة اخرنا كطاعة اولنا ، والمنكر لاخرنا كالمنكر لاولنا ، اما ان لولدي غيبة يرتاب فيها الناس الامن عصمه الله » (35). عزوجل ورغم هذا فقد اختلف ذوي الريب بعد شهادة الامام العسكري عليه السلام كما ورد في اول الحديث ، ولم يثبت علي الحق الا ثلة مؤيدة برحمة الله ولطفه وعنايته ، كان لها الاثر في حفظ الدين وسلامة المنهج ، وتوقع الامام العسكري عليه السلام ذلك حتي انه حدد تاريخه بالضبط ، كما في حديث ابي غانم ، قال : « سمعت ابا محمد الحسن بن علي عليه السلام يقول : في سنة مائتين وستين تفترق شيعتي. قال : ففيها قبض ابو محمد عليه السلام وتفرقت الشيعة وانصاره ، فمنهم من انتمي الي جعفر ، ومنهم من تاه ، ومنهم من شك ، ومنهم من وقف علي تحيره ، ومنهم من ثبت علي دينه بتوفيق الله » (36) عزوجل فكان لتحذير الامام عليه السلام من الفرقة وتاكيده علي التمسك بولاية الحجة عليه السلام ، دور فاعل في حفظ الدين وسلامة العقيدة من الزيغ.
ج) التاكيد علي الصبر وانتظار الفرج في ايام الغيبة لربط الامة بقائدها المنتظر حتي ياذن الله بظهور دولته وانطلاق دعوته ، ومن ذلك ماكتبه الامام العسكري عليه السلام الي ابي الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي« عليك باصبر وانتظار الفرج ، قال النبي صلى الله عليه واله : افضل اعمال امتي انتظار الفرج ، ولا تزال شيعتنا في حزن حتي يظهر ولدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه و اله يملا الارض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، فاصبر يا شيخي يا ابا الحسن علي ، وامر جميع شيعتي بالصبر ، فان الارض لله يورثها من يشاء من عبادة والعاقبة للمتقين... » (37).
رابعا : رد الشبهات وملاحقة الافكار المنحرفة
هناك الكثير من الاخبار التي تدل علي ان الامام العسكري عليه السلام كان يتابع بدقة ما يجري علي الساحة الفكرية ، فيلا حق الافكار المنحرفة والشبهات التي تطرح هنا وهناك في مواجهة الفكر الاسلامي الاصيل ، خصوصا تلك التي تعمد الي تهديم الاسس الاسلامية علي المستوي العقائدي او الفقهي ، فكان يواجهها بالحجة والاسلوب العلمى والجدل الموضوعي.
أ ـ من ذلك ما نقله ابن شهر اشوب عن ابي القاسم الكوفي في كتاب التبديل : ان اسحاق الكندي ، كان فيلسوف العراق في زمانه ، اخذ في تاليف تناقض القران ، وشغل نفسه بذلك ، وتفرد به في منزله ، فسلط الامام عليه السلام عليه احد طلابه بكلام قاله له ، مما جعله يتوب ويحرق اوراقه.
وملخص الفكرة التي ابداها الامام عليه السلام للتلميذ ، هي احتمال ان يكون المراد بالايات القرانية غير المعاني التي فهمها وذهب اليها ، باعتبار ان اللغة العربية مرنة متحركة ، فقد يفهم بعض الناس الاكلام علي انه الحقيقة وهو من المجاز ، وقد يفهم ان المراد هو المعني اللغوي والمقصود هو المعني الكنائي.
وطلب الامام عليه السلام من تلميذ الكندي ان يتلطف في مؤانسة استاذه قبل القاء الاحتمال ، ووصفه عليه السلام بقوله : « انه رجل يفهم اذا سمع ». فصار التلميذ الي الكندي ، والقي اليه ذلك الاحتمال ، فتفكر في نفسه ، وراي ان ذلك محتمل في اللغة ، وسائغ في النظر.
فقال : « اقسمت عليك الا اخبرتني من اين لك هذا؟فقال : انه شيء عرض بقلبي فاوردته عليك. فقال : كلا ، ما مثلك من اهتدي الي هذا ، ولامن بلغ هذه المنزلة ، فعرفني من اين لك هذا؟فقال : امرني به ابومحمد. فقال : الان جئت به ، وماكان ليخرج مثل هذا الا من ذلك البيت. ثم انه دعا بالنار واحرق ، واسم الكندي اذا اريد به فيلسوف العراق فهو يعقوب بن اسحاق ، وكان معاصرا للامام عليه السلام حيث توفي سنة260هـ ، وقيل : انه هم بان يعمل شيئا مثل القران : جميع ما كان الفه » (38).
وفي هذا الخبر دلالات مهمة جديرة بالذكر :
1 ـ ان الامام الحسن العسكري عليه السلام كان يتابع حركة الثقافة في زمانه ، وكان يتحرك علي كل الاتجاهات المضادة التي تنطلق في مواجهة الاسلام ، فلم يكن خارج نطاق الواقع الثقافي ، وهذا ينطلق من مسؤولية الامام عن تصحيح المسار الاسلامي في كل ما يمكن ان يعرض عليه من الانحرافات.
2 ـ يستوحي من هذه القصة انك عندما تريد ان تحاور انسانا وتجادله ، فلا يكن العنف سبيلك الي ذلك ، ولا يكن القلب القاسي وسيلتك الي الانفتاح عليه ، بل حاول ان تتلطف به اولا وان تؤانسه ثانيا ، حاول ان تربح قلبه قبل ان تخاطب عقله ، لان اقرب طريق الي عقل الانسان هوقلبه.
3 ـ الاسلوب الذي اتبعه الامام عليه السلام في مخاطبة هذا العالم هو الانفتاح علي علمه وتفكيره ، حيث القي اليه الفكرة علي سبيل الاحتمال ليدفعه الي التامل.
4 ـ ان قول الكندي« لقد علمت انه لايخرج هذا الا من اهل هذا البيت »يدل علي الثقة العلمية العالية التي كان يحملها الفلاسفة والمثقفون في علم اهل البيت عليهم السلام، مما يوحي انهم كانوا قد بلغوا القمة في العلم حتي خضع الاخرون لعلمهم ، وانحنوا لهذا المستوي الكبير من الثقافة.
ب ـ وهناك حديث اخر يحال الامام العسكري عليه السلام ان يرد فيه بعض الشبهات ، رواه ثقة الاسلام الكليني باسناده عن اسحاق بن محمد النخعي ، قال : « سال الفهفكي ابامحمد عليه السلام : ما بال المراة المسكينة الضعيقة تاخذ سهما واحدا وياخذ الرجل سهمين؟ فقال : ابومحمد عليه السلام : ان المراة ليس عليها جهاد ولانفقة ولاعليها معقلة ، انما ذلك علي الرجال ، فقلت في نفسي : قد كان قيل لي : ان ابن ابي العوجاء سال اباعبدالله عليه السلام عن هذه المسالة ، فاجابه بهذا الجواب ، فاقبل ابومحمد عليه السلام علي. فقال : نعم ، هذه المسالة مسالة ابن ابي العوجاء ، والجواب منا واحدا اذا كان معني المسالة واحدا ، جري لاخرنا ماجري لاولنا ، واولنا واخرنا في العلم سواء ، ولرسول الله صلى الله عليه واله وامير المؤمنين عليه السلام فضلهما » (39).
ج ـ لقد اثيرت مسالة خلق القران منذ زمان المامون ، وانقسم العلماء فيها الي قسمين ، فمنهم من قال بقدم كلام الله سبحانه ، ومنهم من قال بحدوثه ، مما ادي الي خلق فتنة ومحنة راح ضحيتها الكثير من الاعلام ، وكان جواب الائمة عليهم السلام المعاصرين لتلك المحنة واضحا ، يقوم علي اساس التفريق بين كلام الله تعالي وبين علمه ، فكلامه تعالي محدث وليس بقديم ، قال تعالي : ((ما ياتيهم من ذكر من ربهم محدث)) (40) ، واما علمه فقديم قدم ذاته المقدسة ، وهو من الصفات التي هي عين ذاته.
ونري بعض امتدادات هذه المسالة في زمان الامام العسكري عليه السلام ، فقد روي عن ابي هاشم الجعفري انه قال : « فكرت في نفسي ، فقلت : اشتهي ان اعلم ما يقول ابومحمد عليه السلام في القران؟فبداني وقال : الله خالق كل شيء ، وما سواه وفهو مخلوق » (41).
د ـ تقدمت الاشارة الي ان الامام العسكري عليه السلام تصدي لكشف واحدٍ من اهم وسائل التموية والتلبيس علي اذهان العامة ، حين حاول احد الرهبان تضليل العقول الضعيفة وتشكيكهم في دينهم ، فكشف الامام عليه السلام زيف ذلك الراهب وكذبه وبين وسائل تمويهه ، وذلك في حادثة الاستسقاء الشهيرة التي تواطات علي نقلها الكثر من المصادر.
هـ ـ تصدي الامام العسكري عليه السلام لبعض الاتجاهات العقائدية المنحرفة والفرق الضالة ومنهم الغلاة الذين كانوا في زمانه ، وهم الذين خرجوا عن الجادة ووصفوا الائمة عليهم السلام بصفات الالوهية ، فتبرا اهل البيت عليهم السلام منهم ولعنوهم وحاربوا مقالاتهم الباطلة. ومن هؤلاء ادريس بن زياد الكفر توثائي ، قال : « كنت اقول فيهم قولا عظيما ، فخرجت الي العسكر للقاء ابي محمد عليه السلام ، فقدمت وعلي اثر السفر ووعثاؤه ، فالقيت نفسي علي دكان حمام فذهب بي النوم ، فما انتبهت الا بمقرعة ابي محمد عليه السلام قد قرعني بها حتي استيقظت ، فعرفته فقمت قائما اقبل قدميه وفخذه وهو راكب والغلمان من حوله ، فكان اول ما تلقاني به ان قال : يا ادريس ((بل عباد مكرمون*لا يسبقونه بالقول وهم بامره يعملون)) (42). فقلت : حسبي يا مولاي ، وانما جئت اسالك عن هذا. قال فتركني ومضي » (43).
ويبدو من بعض الاخبار ان الامام العسكري عليه السلام كان لايترحم علي الغلاة ولو كانوا من الوالدين ، وذلك لكي يؤدب اصحابه للوقوف بشدة ضد هذه النزعة الهدامة ، فقد نقل الحميري في الدلائل عن ابي سهل البلخي ، قال : « كتب رجل الي ابي محمد يساله الدعاء لوالديه ، وكانت الام غالية ، والاب مؤمنا ، فوقع عليه السلام : رحم الله والدك » (44).
ومن هؤلاء ايضا الواقفة ، و هم الذين وقفوا علي الامام الكاظم عليه السلام بسبب بعض النوازع المادية ، حيث تجمعت لديهم اموال طائلة من الحقوق المالية في وقت كان فيه الامام عليه السلام في سجن الرشيد ، فطمعوا فيها وادعوا بعد شهادة الامام عليه السلام انه حي لم يمت ، واصبح الوقف تيارا فكريا يتبناه بعض من لم تترسخ لديه مبادئ العقيدة الحقة ، فيقف عند بعض الائمة عليهم السلام. وقد صرح الامام العسكري عليه السلام بالبراءة منهم ، ودعا اصحابه الي ان لايعودوا مرضاهم ولايشهدوا جنائزهم ولايصلوا عليهم.
و منه مارواه الاربلي والقطب الراوندي بالاسناد عن احمد بن محمد بن مطهر ، قال : « كتب بعض اصحابنا الي ابي محمد عليه السلام من اهل الجبل ، يساله عمن وقف علي ابي الحسن موسي عليه السلام اتولاهم ام اتبرا منهم؟فكتب عليه السلام : اتترحم علي عمك؟لارحم الله عمك. وتبرا منه ، انا الي الله منهم برئ ، فلا تتولاهم ، ولاتعد مرضاهم ، ولاتشهد جنائزهم ، ولاتصل علي احد منهم مات ابدا.
من جحد اماما من الله ، او زاد اماما ليست امامته من الله ، كان كمن قال ان الله ثالث ثلاثة ، ان الجاحد امر اخرنا جاحد امر اولنا ، والزائد فينا كالناقص الجاحد امرنا... » (45).
وروي الكشي بالاسناد عن ابراهيم بن عقبة ، قال : « كتبت الي العسكري عليه السلام : جعلت فداك ، قد عرفت هؤلاءالممطورة ، فاقنت عليهم في الصلاة؟قال عليه السلام : نعم ، اقنت عليهم في صلاتك » (46). وتصدي الامام عليه السلام لمقالات الثنوية ، فقد روي ثقة الاسلام الكليني بالاسناد عن محمد بن الربيع الشائي ، قال : « ناظرت رجلا من الثنوية بالاهواز ، ثم قدمت سر من راي وقد علق بقلبي شيء من مقالته ، فاني لجالس علي باب احمد بن الخضيب اذ اقبل ابو محمد عليه السلام من دار العامة يوم الموكب ، فنظر الي واشار بسبابته : احد احد فرد ، فسقطت مغشياعلي ».
وادب اصحابه علي عدم الترحم عليهم ولو كانوا ذوي قربي ، فقد نقل الاربلي عن دلائل الحميري بالاسناد عن ابي سهل البلخي ، قال : « كتب رجل يسال الدعاء لوالديه ، وكانت الام مؤمنة ، والاب ثنويا ، فوقع : رحم الله والدتك ، والتاء منقوطة » (47).
ووقف الامام العسكري عليه السلام بوجه بعض الوضاعين والصوفية المتصنعين ، وعرف اصحابه بسوء نواياهم ، وامرهم بالبراءة منهم لئلا يفسدوا عقائدهم ، ومنهم عروة بن يحيي الدهقان الذي كان يكذب علي الامام عليه السلام وعلي ابيه من قبله ، ويختلس الاموال التي ترد علي الامام عليه السلام.
روي الكشي بالاسناد عن محمد بن موسي الهمداني ، قال : « ان عروة بن يحيي البغدادي المعروف بالدهقان (لعنة الله) كان يكذب علي ابي الحسن علي بن محمد ابن الرضا عليه السلام وعلي ابي محمد الحسن بن علي عليه السلام بعده ، وكان يقتطع امواله لنفسه دونه ، ويكذب عليه حتي لعنه ابومحمد عليه السلام وامر شيعته بلعنه ، ودعا عليه بقطع الاموال لعنه الله » (48).
وفي المناقب لابن شهر اشوب : « كان عروة الدهقان كذب علي علي بن محمد ابن الرضا ، وعلي ابي محمد الحسن بن علي العسكري بعده ، ثم انه اخذ بعض امواله فلعنه ابومحمد عليه السلام ، فما امهل يومه ذلك وليلته حتي قبض الي النار » (49).
ومنهم احمد بن هلال العبر تائي ، الذي عده الشيخ الطوسي من الوكلاء المذمومين (50) ، وكان يتظاهر بالتدين والورع والزهد ، ويخفي الانحراف في العقيدة والعمل وسوء الطوية ، فاطلق عليه الامام عليه السلام لفظ (الصوفي المتصنع) وكتب الي اصحابه يحذرهم اياه ويبين سوء سيرته وفساد مذهبه في اكثر من توقيع.
قال الشيخ الطوسي : « روي محمد بن يعقوب ، قال : خرج الي العمري في توقيع طويل اختصرناه : ونحن نبرا الي الله تعالي من ابن هلال لارحمه الله ، وممن لايبرا منه ، فاعلم الاسحاقي واهل بلده مما اعلمناك من حال هذا الفاجر ، وجميع من كان سالك ويسالك عنه » (51).
وروي الشكي بالاسناد عن ابي حامد احمد بن ابراهيم المراغي ، قال : « ورد علي القاسم بن العلاء نسخة ماكان خرج من لعن ابن هلال ، وكان ابتداء ذلك ان كتب عليه السلام الي قوامه بالعراق : احذروا الصوفي المتصنع. قال : وكان من شان احمد بن هلال انه قد كان حج اربعا وخمسين حجة ، عشرون منها علي قدميه ، قال : وكان رواة اصحابنا بالعراق لقوه وكتبوا منه ، فانكروا ما ورد في مذمته ، فحملوا القاسم بن العلاء علي ان يراجع في امره ، فخرج اليه : قد كان امرنا نفذ اليك في المتصنع ابن هلال لارحمه الله بما قد علمت ، لم يزل ـ لاغفر الله له ذنبه ولا اقاله عثرته ـ يداخل في امرنا بلا اذن منا ولارضي ، يستبد برايه ، فيتحامي من ديوننا ، لايمضي من امرنا اياه الا بما يهواه ويريد ، ارداه الله في نارجهنم ، فصبرنا عليه حتي بترالله عمره بدعوتنا ، وكنا قد عرفنا خبره قوما من موالينا ، في ايامه ، لارحمة الله ، وامرناهم بالقاء ذلك الي الخاص من موالينا ونحن نبرا الي الله من ابن هلال لارحمه الله وممن لايبرا منه...الي ان يقول عليه السلام : فانه لاعذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما يؤديه عنا ثقاتنا ، قد عرفوا باننا نفاوضهم سرنا ونحمله اياه اليهم... »الي اخر التوقيع (52).
المصادر :
1- الغيبة/الشيخ الطوسي : 207/176 ، الثاقب في المناقب : 567/509 ، اثبات الوصية : 249 ، الخرائج والجرائح2 : 688/11
2- اصول الكافي1 : 95/1 ـ باب ابطال الرؤية من كتاب التوحيد ، التوحيد/الشيخ الصدوق : 108/2 ـ باب ما جاء في الرؤية.
3- اصول الكافي1 : 103/10 / التوحيد/الشيخ الصدوق : 101/14 ـ باب انه عزوجل ليس بجسم ولاصورة.
4- سورة الرعد : 13/39.
5- اثبات الوصية : 249 ، الغيبة/الشيخ الطوسي :430/421، الثاقب في المناقب : 566/507 ،الخرائج والجرائح2 : 687/10.
6- سورة المائدة : 5/3.
7- سورة الشوري : 42/23. (2) تحف العقول : 358 ، علل الشرائع/الشيخ الصدوق1 : 291/6 باب 182
8- الثاقب في المناقب : 567/508 ، اثبات الوصية : 249.
9- اعلام الوري2 : 143.
10- كشف الغمة/الاربلي3 : 303 ، بحارالانوار50 : 290/50.
11- بحارالانوار26 : 264/49.
12- كشف الغمة/الاربلي3 : 300 ، بحارالانوار50 : 299.
13- اثبات الوصية : 272.
14- كتاب الغيبة/للشيخ الطوسي : 354/حديث 315 ومابعده.
15- رجال النجاشي : 220/573.
16- رجال النجاشي : 280/740
17- الفهرست/للشيخ الطوسي : 408/622
18- رجال النجاشي : 370/1009.
19- رجال النجاشي : 347/937.
20- رجال النجاشي : 371/1010.
21- اكمال الدين : 431/6 باب42 ما روي في ميلاد القائم صاحب الزمان حجة الله ابن الحسن عليه السلام...
22- اثبات الوصية : 260 ، غيبة الطوسي : 246/214.
23- اكمال الدين : 433/16 باب 42 ماروي في ميلاد القائم صاحب الزمان حجة الله بن الحسن عليه السلام...
24- اكمال الدين : 384/1 باب 38
25- اكمال الدين : 442/14 باب 43 ذكر من شاهد القائم عليه السلام وراه وكلمه.
26- اصول الكافي1 : 330/1 باب في تسمية من راه.
27- المجالس السنية/السيد محسن الامين5 : 678 ـ دار التعارف ـ بيروت.
28- اكمال الدين : 43 ـ المقدمة.
29- اكمال الدين : 43 ـ المقدمة ـ والمجلس يبدا من ص40 ـ43.
30- المهدي المنتظر عليه السلام في الفكر الاسلامي/السيد ثامر العميدي ـ الاصدار الاول من اصدارات مركز الرسالة.
31- اكمال الدين : 256/من باب24
32- اكمال الدين : 409/9 ـ باب 38.
33- اكمال الدين : 524/4 باب 46 ماجاء في التعمير.
34- اكمال الدين : 435/2 باب 43 ذكر من شاهد القائم عليه السلام وراه وكلمه.
35- اكمال الدين : 409/8 باب 38 ماروي عن ابي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام من وقوع الغيبة بابنه القائم.
36- اكمال الدين : 408/6 باب38 ماروي عن ابي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام من وقوع الغيبة بابنه القائم.
37- المناقب/لابن شهر اشوب4 : 459 ، بحارالانوار50 : 317/14.
38- المناقب/لابن شهر اشوب4 : 457.
39- الكافي7 : 85/2 ـ باب علة كيف صار للذكر سهمان وللانثي سهم ، من كتاب المواريث.
40- سورة الانبياء : 21/2.
41- الثاقب في المناقب : 568/511 ، الخرائج والجرائح2 : 686/6.
42- سورة الانبياء : 21/26 ـ 27.
43- المناقب/لابن شهر اشوب4 : 461.
44- كشف الغمة3 : 306 ، بحار الانوار50 : 294/69.
45- رجال الغمة3 : 312 ، بحار الانوار50 : 274/46 عن الخرائج والجرائح.
46- رجال الكشي2 : 762/875.
47- اصول الكافي1 : 511/20 باب مولد ابي محمد الحسن بن علي عليه السلام من كتاب الحجة.
48- رجال الكشي2 : 842/1086.
49- المناقب4 : 467.
50- الغيبة : 353/313.
51- الغيبة : 353/313.
52- رجال الكشي2 : 816/1020.
source : .www.rasekhoon.net