أنتم تعرفون مقدار الترکیز والتشدید الذی أعطاه مذهبنا لربط الشیعة، وتوطید علاقتهم، حتى نفسیاً وعاطفیاً، بالقائد المنتظر. هناک مناجاة خاصة یتّصل من خلالها الشیعی ویتعاطف مع إمامه، ذلک ما نقرؤه فی (دعاء الندبة). هذه المناجاة کل شیعی مدعو لممارستها أسبوعیاً لا أقل. وهناک زیارة خاصّة للقائد المنتظر، یعیش الرجل الشیعی فی أثنائها مع إمامه، وقائده، یستشعر وجوده وحبّه، ومشارکته، وقیادته.وهناک دعاء خاص یتوسّل به الشیعی إلى الله تعالى فی رعایة القائد فی غیبته، وتسدیده، ودفع الشرّ عنه، والإذن له بالظهور، وإزاحة ثقل الاحتجاب عن صدره. کل هذا وأکثر من هذا من أجل قضیة واحدة. من أجل توثیق الربط بین الشیعی وقیادته المعصومة.حتى یشعر أنّ إمامه مثله یعیش همّ المأساة. ویتحرّق شوقاً للانفتاح على شیعته. إنّ العزلة تشق علیه. إنّه یضیق ذرعاً بالوحشة. إنّه یرجو منّا الدعاء له بالفرج، وإعلان الثورة الکبرى. إنّه یعمل ویدعونا للعمل. إنّه صابر ویدعونا للصبر. إنّ هذه المناجاة، والتوسلات، والأدعیة، لم تکن عبثاً، أو مجرّد تسلیة للضمائر الخائرة. إنّها تحمل أکبر عطاء....
تصوّر نفسک وأنت تناجی بکل حب ولهفة قائدک المغیّب عنک. تبثّ إلیه همّک، وتعرض له شوق قلبک، وتسرد له مآسی جبهة الحق، وتجدّد العهد معه بأنّک سائر على الدرب، ساحق کل الأشواک، صابر على العناء. تصوّر نفسک وأنت تتحدث للإمام القائد المفدّى، حدیث مسؤولیة، وحدیث مودّة، وحدیث أشجان، وحدیث توسل، وحدیث انتظار وتلهّف وحدیث عهد لا تتراجع عنه. تتحدّث معه کما لو کان یشترک معک فی الحدیث، فاتحاً قلبه إلیک، مبصراً بالأسى الذی لا یبارحک. کم یجعلک هذا اللقاء قوی العزیمة، رابط الجأش.
واثقاً بالأصالة، شاعراً بالاعتزاز. کم یهبک هذا اللقاء قوّة، ومنعة عن الذوبان، والانهیار، والتلاشی؟! ستشعر بأنّک لست ریشة فی مهب الریح. ولست قطعة خشب تطفو على میاه البحر یتقاذفها الموج. ولست وحدک یتخطّفک العدو من کل مکان. إنّما أنت جندی فی جبهة الحق. الجبهة الرصینة، المتکاتفة. الجبهة ذات القیادة الحیّة، المتحرّکة، التی تعرفک، وتعرفها جیداً.
إنّ ما یصدر منّا لا یحتجب عن الإمام. وهو إذا کان غائباً عن أنظارنا فإنّه حاضر فی ساحتنا.إنّ أخبار شیعته تنقل إلیه. من الذی انهزم، ومن الذی نافق، ومن الذی أساء لجبهة الحق. وعلى العکس..من الذی یصمد، ومن الذی یخلص للحق، ومن الذی یحسن العمل والنشاط. کل ذلک فی علم الإمام، ومطروح بین یدیه. وحینما نفهم هذه الحقیقة کم نشعر بالمسؤولیة؟ إنّ قائدنا المفدّى یرقب أعمالنا، ویعرف کیف نتصرّف، ویحکم علینا من خلال مستوى إخلاصنا. نحن لسنا فی غیبة عنه، وإن کان فی غیبة عنّا.وبهذا یکون العطاء الذاتی لحیاة الإمام أکبر. فنحن لا فقط نستلهم من حیاته الحیاة، ومن نشاطه النشاط.ولا فقط نستشعر الأصالة، والحصانة، والاستقلال. وإنّما یتعمّق فینا الشعور بالمسؤولیة حینما نکون على یقین بأنّ أعمالنا تعرض على الإمام، ولیست فی خفاء عنه!!
والثبات یتطلّب منّا جهداً. فعلینا أن نعرف مواقع العدو، وخدع العدو. وعلینا أن نحصّن أنفسنا بالسلاح الکافی للحمایة، والکافی للهجوم فی ذات الوقت. علینا أن نعرف کاملاً عقیدتنا، لنملک حینذاک تمام الثقة بها، والقدرة على الدفاع عنها، فإنّ العقل الفارغ مغارة إبلیس کما ورد فی الحدیث الشریف.علینا أن نکتشف باستمرار زیف التشکیلات التی یقدّمها أعداؤنا. ثم علینا أن نعرف أنّ القضیة قضیة نفس لا بدّ أن نعوّدها الصبر، والعزّ، والإقدام، والتضحیة, والشجاعة.یجب أن نصبح على مستوى قضیتنا، فکل شیء إزاءها رخیص وکل شیء من أجلها یهون. ولنتمثل جیداً منطق المقداد حین استشار رسول الله صلى الله علیه وآله أصحابه للحرب، فقام إلیه وقال: "یا رسول الله: امض لما أراک الله فنحن معک. والله لا نقول کما قالت بنو إسرائیل لموسى: اذهب أنت وربّک فقاتلا إنّا ههنا قاعدون. ولکن اذهب أنت وربّک فقاتلا إنّا معکما مقاتلون".(1)
یحدّثنا عمّار الساباطی، أحد أصحاب الإمام الصادق علیه السلام:
قلت لأبی عبد الله علیه السلام: أیّما أفضل العبادة فی السر مع الإمام منکم المتستّر فی دولة الباطل، أو العبادة فی ظهور الحق ودولته مع الإمام منکم الظاهر؟
فقال: یا عمّار: الصدقة فی السرّ أفضل من الصدقة فی العلانیة، وکذلک والله عبادتکم فی السر مع إمامکم المتستّر فی دولة الباطل وحالة الهدنة أفضل ممن یعبد الله عزّ ذکره فی ظهور الحق مع إمام الحق الظاهر فی دولة الحق. ولیست العبادة مع الخوف فی دولة الباطل مثل العبادة والأمن فی دولة الحق. ولقد عجب عمار وهو یسمع هذا الجواب من الإمام، ولم یکتم استغرابه، فقال:
"قد والله رغّبتنی فی العمل، وحثثتنی علیه. ولکن أُحب أن أعرف کیف صرنا نحن الیوم أفضل أعمالاً من أصحاب الإمام الظاهر منکم فی دولة الحق، ونحن على دین واحد. فقال:
إنّکم سبقتموهم إلى الدخول فی دین الله عز وجل، وإلى الصلاة والصوم والحج، وإلى کل خیر وفقه، وإلى عبادة الله عزّ ذکره سراً من عدوکم، منتظرین لدولة الحق، خائفین على إمامکم وأنفسکم من الملوک والظلمة.. مع الصبر على دینکم وعبادتکم وطاعة إمامکم والخوف من عدوّکم، فبذلک ضاعف الله عز وجل الأعمال، فهنیئاً لکم".(2)
وهکذا یصبح الثبات عظیماً، حین نعیش تحت سیطرة الظلم، دون أن نصافحه، أو نلین له.
إذا کنّا نرید أن نخدم الحق، ونقدّم له، فإنّ الثبات أولاً شرط ذلک. وإذا کنّا قد خسرنا من جبهة الحق عدداً من الناس، فلماذا نخسر أنفسنا، ونضیّع على الحق حتى طاقتنا نحن؟!.
ومهما یکبر حجم الضلال، ویزداد عدد الزالقین فی وادیه، فإنّه لا یجوز لنا أن نترک الساحة خالیة من أحد، ونولّی للمعرکة دبرنا، إنّا إذن لظالمون.
(وَمَنْ یُوَلِّهِمْ یَومَئِذٍ دُبُرَهُ.. فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ..).(3)
والمعسکر یتکوّن من آحاد. أولسنا نشکّل أولئک الآحاد لنکوّن معسکراً. لقد تحدّث الإمام الصادق عن ضرورة الثبات فی عصر الغیبة قائلاً: " کونوا على ما أنتم علیه حتى یطلع الله علیکم نجمکم".(4)
لا ننحرف إلى یمین أو شمال. لا تجذبنا عن مواقع الحق إغراءات الباطل. ولا تقلعنا من أرض الصدق رعدات الفراعنة والیزیدیین. أم نرید أن نکون مثل قوم موسى؟ حین غاب عنهم نبیّهم أربعین لیلة فاتخذوا العجل إلهاً. (قالوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَیْهِ عاکِفِینَ حَتى یَرْجِعَ إلیْنا مُوسى).(5)
لقد ذهبوا مثلاً فی التأریخ. مثلاً للسقوط فی الفتنة، والفشل عند الامتحان. لقد کانت لهم فتنة أن غاب عنهم نبیّهم، وأغواهم السامری. وإنّا لفی فتنة یضل فیها من یضل، ویثبت فیها الثابتون. لقد روی عن إبراهیم بن هلیل أنّه قال لأبی الحسن علیه السلام: "جعلت فداک مات أبی على هذا الأمر، وقد بلغت من السنین ما قد ترى، أموت ولا تخبرنی بشیء؟ فقال:
یا أبا إسحاق، أنت تعجل!
فقلت: أی والله, وما لی لا أعجل، وقد بلغت من السن ما قد ترى؟
فقال: یا أبا إسحاق ما یکون ذلک حتى تمیّزوا وتمحّصوا وحتى لا یبقى فیکم إلاّ الأقل..".(6)
الانتظار:
وعلى مستوى ذواتنا أیضاً، وکأسلوب من أسالیب تحصینها ضد الانحراف، وتجهیزها للعمل والنشاط, علینا أن نکون فی حالة انتظار. فی حالة ترقّب دائم مستمر لبزوغ فجر الثورة الکبرى، ثورة القائد المنتظر. یجب أن نعیش حالة توقّع غیر یائس، ولا جازع. عیوننا متطلّعة للحدث الأکبر. أسماعنا متلهفة لاستماع خبر النهضة العظمى. أفئدتنا مفعمة بالشوق والشغف لساعة الوعد الإلهی. أن نکون على أهبة الاستعداد. ننتظر المفاجأة ونستشرف لمواجهتها. یغیب عن بالنا قضیة الإمام المنتظر. ولا ننسى الوعد الإلهی بالنصر الظافر. هکذا أراد لنا الأئمّة أنفسهم، وسجّلوه کموقف یجب أن نتخذه, وکحالة نفسیة یجب أن نستشعرها ونعیشها باستمرار. استمع معی للإمام علی علیه السلام وهو یقول:
" انتظروا الفرج، ولا تیأسوا من روح الله، فإنّ أحبّ الأعمال إلى الله انتظار الفرج".(7)
واستمع لحدیث آخر عن أبی الجارود من أصحاب الإمام الباقر علیه السلام:
"قلت لأبی جعفر علیه السلام: یا ابن رسول الله هل تعرف مودّتی لکم وانقطاعی إلیکم، وموالاتی إیّاکم؟.
فقال: نعم..
والله لأعطینّک دینی ودین آبائی الذی ندین الله عز وجل به:
" شهادة لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله.. وانتظار قائمنا والاجتهاد والورع".(8)
ولکن لماذا الانتظار؟ ما هی طبیعته؟ ما هو مردوده النفسی؟
لا حاجة إلى تأکید القول: إنّ الانتظار یعنی فی جملته حالة الأمل، وعدم القنوط. الأمل الذی هو شرط لکل حرکة، نحن مدعوّون إلى تمثله دائماً. والیأس الذی هو مدعاة للانحراف، المطلوب منّا رفضه واقتلاع جذوره من أعماق وجداننا. الانتظار یعنی أنّنا ما زلنا على أمل بالنصر. مجرّد أمل، وإنما ثقة مطلقة بتحقق هذا النصر. فالذین یأملون فی شیء قد لا یملکون قناعة بأنّهم سینالوه، وهم ینتظرون لکن على وجل وفی ریبة. کل الناس یأملون بانتصار الحق، ومحق الباطل، مسلمین وغیر مسلمین، لکن من یملک الیقین الذی نملکه؟ والذی کان یملکه الأنبیاء والأوصیاء، ویغرسونه فی نفوس أشیاعهم. إنّنا لا نأمل بالنصر، وإنّما نرى أنفسنا ونحن نقترب منه. لا یمضی یوم إلاّ وتکون المسافة قد تقلّصت، وأصبحنا على المشارف. هذا هو معنى الانتظار المطلوب. أن لا یخامرنا شک، أدنى شک فی أنّنا سننتصر. أن نرى بعین البصیرة رایات الحق تتقدّم، وها نحن ننتظرها کیما تصل إلینا أو نصل إلیها. والذین یصابون بالیأس یفقدون السلاح وهم وسط المعرکة. فما أیسر أن یقعوا فی أسر الضلال والانحراف، وتلک هی الفتنة, وقد قال الإمام علیه السلام:
" إنّ هذا الأمر لا یأتیکم إلاّ بعد یأس".(9)
ومن هنا تأتی قیمة الانتظار. على أنّ الانتظار له مدلول آخر، ومعنىً عمیق غایة العمق. هذا المدلول هو الذی یفسّر لنا لماذا کان الانتظار مطلوباً، وواحداً من مسؤولیاتنا مع ذواتنا؟ فالانتظار تعبیر عن قناعتنا بجدارة الحل الإسلامی. واستعدادنا لتقبّله، والمشی فی رکبه. من یعیش حالة الانتظار لنهضة القائد المنتظر، لا یستطیع إلاّ الثقة بحیویة الإسلام، وقابلیته الأزلیة على حلّ مشاکل البشریة، وسکب السعادة فی قلوبها الحرّى.أنت حینما تنتظر من رجل القانون أن یرسم لک حلّ المشکلة، أو یختار لک الصیغة المفضّلة، فإنّک لا محالة واثق بقدرته، وجدارته ولو لا ذاک فإنّک لم تکن مستعداً للتفاهم معه فی حل المشکلة. وأنت حین تزور طبیباً تطلب الدواء، لا تفعل ذلک عبثاً، وإلاّ کان من الأیسر لک أن تذهب إلى جیرانک وتعرض له مرضک، وإنّما أنت على قناعة کافیة بأنّ الطبیب هو الجدیر والمؤهّل لإعطاء العلاج، وتشخیص الداء، ولذا فأنت تؤثر زیارته، وتنتظر منه. فالانتظار إذن هو القناعة بالجدارة والأهلیة. ونحن حینما ننتظر الحل الإسلامی الذی یسود العالم کله تحت رایة القائد المنتظر، لا بد أن نکون على أعمق الثقة بهذا الحل. فالتقدّم الحضاری، والتطوّر الذی شهدته الأرض. والتقلب الذی عمّ کل شیء، فی الترکیب الاجتماعی، والوضع الاقتصادی، وطبیعة الحالة النفسیة العامة. إنّ کل ذلک لا یغیر من واقعیة الإسلام، وقدرته على النجاح، سواء على مستوى النظریة، أو على مستوى التطبیق. فسیبقى الإسلام هو الحلّ الحتمی أزلاً وأبداً. ومهما انحرفت البشریة عنه، فإنّها ستؤوب إلیه، وستجده حینذاک مصدر کل السعادة، ومقتلع جذور الشقاء فی الأرض.
ما هی طبیعة الانتظار؟
إذا کان علینا أن ننتظر, فما هی طبیعة الانتظار المطلوب؟ هناک نوعان من الانتظار:
الانتظار الجامد، والانتظار المتحرّک. انتظار أشبه بالموت، أو هو الموت. وانتظار أشبه بالحیاة، أو هو الحیاة. الأسیر المقیّد بالأغلال، والمدفوع نحو المقصلة، ینتظر. والبطل الذی یخوض غمار الحرب، وهو شاکی السلاح، شدید العزم، ینتظر أیضاً. کل من هذین ینتظر الموت والقتل.. لکن هناک فرق کبیر بین نوعی الانتظار. فالأوّل مستسلم، لا یستطیع حراکاً، ولا یفکّر حتى فی الفرار. والثانی متحرّک، مقدام، ینتظر الشهادة بکل بطولة, بل هو یسعى إلیها، ویرحّب بها. فکیف علینا أن ننتظر القائد المنتظر؟
الإجابة على هذا السؤال نأخذها من القرآن، ومن محمّد صلى الله علیه وآله، ومن أهل البیت علیهم السلام.من هذه المدرسة الواحدة نأخذ الإجابة الصحیحة. لقد کان محمّد صلى الله علیه وآله ینتظر. کیف کان ینتظر؟ کان القرآن یأمره بالانتظار، أیّ انتظار ؟
(وَقُلْ للّذینَ لا یُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا على مَکانَتِکُم إنّا عامِلُونَ، وانْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ).(10)
لقد انتظر النصر والفتح، لکن هو الذی کان یمهّد للنصر وللفتح لا غیره. لم یکن یطلب أن یأتیه النصر منحة خالصة من السماء ومن دون ثمن. لقد هاجر، ولقد قاتل، ولقد دعا، ولقد عمل کل شیء فی سبیل النصر، ثم کان ینتظر النصر. الانتظار فی القرآن، وعند محمّد صلى الله علیه وآله ردیف العمل (اعمَلُوا على مَکانَتِکُمْ، إنّا عامِلُونَ ). (وَانْتَظُرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ ). فهناک عمل ثم انتظار. الانتظار فی مفهوم القرآن لا یعنی الجمود والتوقّع البارد الزائف المیت. إنما یعنی التربّص، المداورة مع العدو، التحرّک فی شتّى الطرق، استغلال لحظات الضعف، عدم تضییع الفرص، هذا هو التربّص وهو الانتظار القرآنی.
(قُلْ کُلٌ مُتَرَبّصٌ، فَتَرَبّصُوُا، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أصْحابُ الصّراطِ السَّوی، وَمَنِ اهتَدى).(11)
ولقد انتظر أصحاب محمّد صلى الله علیه وآله. کیف انتظروا؟
(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ).(12)
لکنه لا ینتظر أن یأتیه الموت، وهو فی قعر داره. وإنّما یتقدّم لیکسب الموت، أو یکسب الفتح، فما هو إلاّ إحدى الحسنیین. لقد کان أئمّتنا ینتظرون الفرج، ویوصون أصحابهم بالانتظار. وکما ننتظر الیوم قائم آل محمّد، لقد کانوا مثلنا ینتظرون. لکن هل ترکوا العمل والتضحیة، والنشاط الدائب من أجل الحق. هل وقفوا أسارى الصدف؟
إنّ انتظارهم لم یکن یعنی إلاّ الاستعداد الدائم والعمل المتواصل، فی السرّ أو فی العلن، والتمهید للنتیجة المطلوبة. هذا هو الانتظار فی مفهوم مدرسة أهل البیت علیهم السلام. بث الدعوة، وتوجیه الناس. تحصین قواعد الشیعة، وتوسیع دائرتها. ألم یبارک الأئمّة ثورات العلویین. ثورة زید، والنفس الزکیة، وحرکات الحسنیین المتصلة. لقد مدّوا لها جمیعاً ید العون فی السر، بینما کانوا یحافظون على الخطوط الخلفیة، ویحصنون قواعد الشیعة فی ذات الوقت. ألم تکن أموالاً طائلة تصب فی دورهم لیلاً، وتجمع لهم سرّاً؟ أین کانت تصرف؟ وما معنى هذا العمل؟ لو عرف الأئمّة من الانتظار معنى الجمود فلماذا طاردهم العدو، واضطهدهم ورماهم فی غیاهب السجون؟! فالانتظار عمل ولیس سکوناً. ومن هنا کان " أحب الأعمال إلى الله انتظار الفرج " کما عبّر الإمام(13)، فإذا کنا مدعوّین إلى الانتظار، فإنما نحن مدعوون إلى العمل إلى الانتظار المتحرّک الحی، لا إلى الانتظار الجامد المیت. وفی الحدیث عن علی بن الحسین علیه السلام: یا أبا خالد: إنّ أهل زمان غیبته القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره أفضل أهل کل زمان...أولئک المخلصون حقاً، وشیعتنا صدقاً والدعاة إلى دین الله سرّاً وجهراً".(14)
إنّ مثلنا فی عصر الغیبة مثل الطلیعة التی تنتظر کتائب الجیش. بعد أن تکون قد مسحت لها الأرض، وکشفت لها الساحة.
توطید الصلة مع القائد المنتظر:
وثالث الأمور التی علینا توطید صلتنا مع الإمام المغیّب بواسطتها: ربط قلوبنا به. التعاطف مع قضیته. استشعار وجوده، وحیاته. الدعاء له بالفرج، والأمان والقرار والنصر العاجل. الحدیث معه، والشکوى إلیه، کما لو کان أمامنا. ولقد حدّثتکم فیما سبق عن عطاء هذا الاتصال، ومردودات هذا الارتباط. إنّ مضامین هذا الارتباط کثیرة. وسأنقل لکم بعض الصور الحیّة من هذا الارتباط. هذه الصور الحیّة تجدونها فی الأدعیة والمناجاة، والزیارات. لقد وضعها لنا أهل البیت لتعریفنا بطریقة التعامل مع قائدنا المنتظر. ومهما أبلغ فی القول، فإنّی لا أستطیع أن أجسّد لکم الحالة النفسیة التی یستشعرها من یمعن فی تلکم الأدعیة، والمناجاة. ذلک ما أترکه إلیکم، وإلى ممارستکم، أمّا هنا فاستعرض معکم بعض تلک المضامین، بما تحدثه من مردود نفسی عمیق.
فأنت تعرف قیادتک الحقیقیة. وأنت تعرف أنّک على جادّة الحق المنشود. فتصمد أمام تیارات الانحراف، أمام اتجاهات الضلال. من الیمین جاءت أم من الشمال. أمام کل دعوة غریبة، لا تنتمی إلى جبهة الحق. أنت لا تعترف بأی قیادة أخرى. أنت رافض، وکلّک رفض لقوى الشر والاعتداء فی الأرض، المقنّعة بالحریر الأملس. لا تضع یدک بید کل أحد سوى قیادتک الرشیدة. ولا تنتمی إلى أی جبهة سوى جبهة القرآن. إنّ اتجاهک الذی أنت علیه هو الحق وحده، فلا یأخذک شک ولا یحلّ لک أن تستریب " أشهد یا مولای أنّک والأئمّة من آبائک أئمّتی وموالیّ فی الحیاة الدنیا، ویوم یقوم الأشهاد". " اللهم صلّ على ولیّک وابن أولیائک الذین فرضت طاعتهم، وأوجبت حقّهم، وأذهبت عنهم الرجس، وطهرتهم تطهیراً".
اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد وأظهر کلمته التامة. اللّهم انصره نصراً عزیزاً، وافتح له فتحاً یسیراً. اللهم وأعزّ الدین به بعد الخمول. اللّهم املأ به الأرض عدلاً وقسطاً، کما ملئت ظلماً وجوراً"
"اللّهم إنّا نرغب إلیک فی دولة کریمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله". هذا الدعاء.. لیس فقط دعاء. وإنّما هو دعاء وهو فی ذات الوقت شدّک إلى الإسلام وتوثیق علاقتک به. تلک هی الدولة الکریمة، التی تجسّد کلمة الله فی الأرض. أنت، وأنا، وکل مؤمن، نرغب من الأعماق فی تلک الدولة الکریمة لأنّنا نجد فیها العدالة، والمثل الإنسانیة وکل خیر. ونحن لا نرید الظلم، بل نرید العدالة. نرید أن تملأ الأرض بالقسط والعدل، وینزاح کابوس الظلم، الذی یخنق أبناء آدم فی کل الأرض. هذه صورة من طبیعة الدعاء للقائد المنتظر .
المصادر :
1- سیرة ابن کثیر : 2/392, بحار الأنوار : 19/248
2- الکافی : 1 /333 الحدیث 2
3- الأنفال : 16
4- إکمال الدین وإتمام النعمة: 349 الحدیث41
5- طه : 91
6- الغیبة للنعمانی : 208 الحدیث 14
7- الخصال للصدوق : 616
8- الکافی : 2/22 الحدیث 10
9- إکمال الدین وإتمام النعمة: 346 الحدیث 31, الأنوار البهیّة : 366
10- هود: 121و122
11- طه : 135
12- الأحزاب : 23
13- الأمالی للشیخ الصدوق: 436
14- إکمال الدین وإتمام النعمة: 320 الحدیث 2, الاحتجاج للطبرسی : 2/50
source : .www.rasekhoon.net