هذه دراسة مقارنة بین الإعلان العالمی لحقوق الإنسان، وحقوق الإنسان عند الإمام الحسین علیه السلام وذلک للوقوف على حقیقة تلک الدعاوى التی یتوجه بها البعض إلى الإسلام من جهة، ومن أجل الوقوف على العقلیة التی أفرزت تلک المبادئ، ومعرفة حقیقتها، وکیفیة تناولها لتلک المبادئ..
لا غنى لنا ونحن نروم البحث فی موضوع حقوق الإنسان لدى الإمام الحسین (علیه السلام) من تقدیم عرض للإعلان العالمی لحقوق الإنسان، وذلک لأمرین:
الأول: لمعرفة السبق الزمنی لأی منهما ـ الإعلان العالمی والإمام الحسین ـ کیما نثبت السبق لأحدهما، وهو المتقدم زمنیا فی الدعوة غلى مثل هذه المبادئ الإنسانیة.
الثانی: الوقوف على حقیقة الرقی الفکری الذی یتمتع به صاحب السبق بحیث أملى علیه ذلک الرقی هذه المبادئ قبل الآخر بغض النظر عن الفترة الزمنیة التی تفصل بینهما، فی حین لم یبلغ الآخر ذلک إلا بعد فترة زمنیة معینة.
ولادة الإعلان العالمی لحقوق الإنسان:
لم یکن الإعلان العالمی لحقوق الإنسان ـ الذی عد من أهم الإنجازات البشریة فی میدان تکریم الإنسان ـ بحیث باتت البشریة تقیم المناسبات السنویة احتفاء بذکرى میلاد ذلک الإعلان، لم یکن قد ولد ولادة طبیعیة، بل یمکن القول بأنه قد ولد ولادة قیصریة إثر الأحداث الدامیة التی مرت بها البشریة والمسیرة الشاقة التی سارت بها البشریة طویلا فی الکفاح من أجل الوصول إلى صیغة تکفل للإنسان صیانة لحقوقه الأساسیة.
فالأصول "التاریخیة للرؤى القویة التی تستطیع أن تشکل أحداث ومواقف العالم مثل تلک الخاصة بحقوق الإنسان الدولیة نادرا ما تکون بسیطة. إنها على العکس تخرج بطرق معقدة ومتداخلة من تأثیر العدید من القوى، والشخصیات، والظروف والأوقات المختلفة، والأوقات المتباینة، کل منها تنساب بطریقتها الخاصة "(1)
فالإعلان العالمی ولد إذن حیث "کان المجتمع ـ فی جمیع أدواره ـ یعالج صراعا دائبا بین الشعب والبلاط.. فطورا کانت الملوک تنتصر على الشعوب، وآونة کانت الطبقات الکادحة تنتفض فتتغلب على جهاز الحکم "(2)
وهکذا بین قتل وقتال، وکر وفر، ومخاضات عسیرة مرت بها البشریة، ولد الإعلان العالمی لحقوق الإنسان، وذلک فی أواخر النصف الأول من القرن العشرین، عام 1948 تحدیدا.
القیم الواردة فی الإعلان:
هناک مجموعة من الحقوق، والقیم، والمبادئ تناولها الإعلان العالمی فی مواده یمکن أن توجز بالتالی:
1ـ حق الحیاة
2ـ حق الملکیة
3ـ حق الحمایة
4ـ العدل
5ـ المساواة
6ـ الحریات
إلى غیر ذلک مما ورد فی الإعلان. یجدر بالذکر أن کل واحد من الحقوق، والمبادئ المتقدمة یتفرع عنه مجموعة من الأقسام، فالحریات ـ على سبیل المثال ـ تنقسم إلى الحریات الشخصیة، والحریات الفکریة، والحریات السیاسیة. والمساواة إلى المساواة فی الحقوق والواجبات، والمساواة فی الإنسانیة وهکذا.
فما تقدم إذن هو عرض إجمالی موجز للإعلان العالمی لحقوق الإنسان، من حیث زمان نشأته، والحقوق والمبادئ الأساسیة التی وردت فیه، ولم نرد الخوض فی ثنایا الإعلان المذکور تفصیلا لعدم الحاجة إلى ذلک إلا بمقدار المقارنة بینه وبین حقوق الإنسان فی الإسلام عموما، وفی فکر الإمام الحسین (علیه السلام) خصوصا، ومن وجهة نظری أرى أن هذا العرض الموجز للإعلان یفی بالغرض فی ضوء ما حددنا من هدف.
حقوق الإنسان فی الإسلام:
لا بد لنا ونحن نروم الخوض فی موضوع حقوق الإنسان لدى الإمام الحسین (علیه السلام) من أن نمر إلى ذلک عن طریق البحث فی حقوق الإنسان فی الإسلام لنقف من خلال ذلک على مدى الصلة الوثیقة بین الإمام الحسین (علیه السلام) والإسلام.
ینکر البعض من مناوئی الدین الإسلامی، ومن یسیر فی خطاهم على الإسلام کونه یدعو إلى إقامة دولة، ولذا یحصره بالتالی فی إطار التعالیم الدینیة التی لا تعدو تنظیم علاقة الإنسان بربه، وبما أن حقوق الإنسان تتطلب قوة ملزمة تفرض تطبیقها، ومراقبتها فیکون الدین الإسلامی ـ بناء على وجهة نظر المتقدمین ـ خال من حقوق الإنسان من منطلق کون المسالة سالبة بانتفاء الموضوع، أو أن التعالیم المتعلقة بحقوق الإنسان فی الدین الإسلامی لا تعدو کونها أمورا استشاریة، أو استئناسیة ـ حسب الاصطلاح القانونی الوضعی ـ وبالتالی فهی تفتقد لعنصر الإلزام الذی یضفی على کل مبدأ صفة القانونیة.
الدین الإسلامی منظومة متکاملة من التعالیم التی لم تکن لتکتفی بجانب مما ذکرنا على حساب الجانب الآخر، إنما " یؤمن بأن الحیاة یجب تنظیمها ـ لیس بالإیمان فحسب ولکن أیضا ـ بالعلم والعمل، والذی تتسع رؤیته للعالم بحیث یستوعب، بل یدعو إلى قیام المسجد والمصنع جنبا إلى جنب،... یرى أن الشعوب لا یکفی إطعامها وتعلیمها فقط، وإنما یجب أیضا تیسیر حیاتها، والمساعدة على سموها الروحی "(3).
ثم إن التاریخ یروی لنا بما لا مجال إلى إنکاره کیف أقام الرسول الکریم أعظم دولة عرفها التاریخ البشری، وهذا دلیل عملی على کون الإسلام دین ودولة، وما فصل الدین عن السیاسة سوى مقولة نشأت فی التاریخ الإسلامی بدوافع مصلحیة بحتة لا غرض لنا بالخوض فیها فی دراستنا هذه.
علیه لم یقتصر الإسلام على الدعوة النظریة إلى مبادئ حقوق الإنسان حسب، إنما طبقها عملیا فی ظل حکومتی الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله)، والإمام علی (علیه السلام)، بما أدهش العالم قدیما، وحدیثا.
حقوق الإنسان لدى الإمام الحسین (علیه السلام):
على الرغم من أن الإمام الحسین بن علی بن أبی طالب ـ علیهما السلام ـ لم یکن من الأئمة الذین تسلموا منصب قیادة الدولة الإسلامیة لأسباب عدة لا غرض لنا هنا بتعدادها، والخوض فیها إلا أن کلمات الإمام الحسین (علیه السلام) التی وردتنا عن طریق کتب الأخبار تدل على أنه (علیه السلام) مسلح بتلک المبادئ بحیث لو قدر له وتسلم تلک القیادة لطبق تلک المبادئ کما هی الحال بالنسبة لأبیه الإمام علی (علیه السلام)، وجده النبی محمد (صلى الله علیه وآله).
نلفت نظر القارئ الکریم إلى أننا سوف نتناول حقوق الإنسان عند الإمام الحسین (علیه السلام) وفق الترتیب الذی ورد فی الإعلان العالمی لحقوق الإنسان، لکی یسهل على القارئ العزیز، وغیره إجراء مقارنة، أو الوقوف على الاثنین فیما لو رام ذلک.
الحریة وتأثیر انتهاکها بین الإمام الحسین والإعلان:
تناول الإعلان العالمی لحقوق الإنسان فی دیباجته مسألة الکرامة الفطریة کأساس للحریة الإنسانیة، وحقوق الإنسان، "إن الاعتراف بأن الکرامة الفطریة، والحقوق المتساویة وغیر القابلة للانتقاص منها لکل أعضاء الأسرة الإنسانیة هی أساس الحریة، والعدالة والسلام فی العالم"، وقد اعتبر انتهاک هذه الکرامة والحریة الإنسانیة بمختلف أنواعها مما یقود إلى الحروب، والویلات، والمآسی، والثورات،" وحیث أن تجاهل وازدراء حقوق الإنسان قد أدى إلى أعمال همجیة، أثارت غضب ضمیر الجنس البشری... وحیث أنه من الضروری، إذا لم یجبر الإنسان على اللجوء، کملجأ أخیر إلى الثورة ضد الطغیان والقمع، فإن حقوق الإنسان یجب أن تحمى بحکم القانون".
علیه ـ بناء على الإعلان العالمی ـ تلزم صیانة الحریة، والکرامة الإنسانیة، وحقوق الإنسان إذا أرید للمجتمع ـ الداخلی أو الدولی ـ أن یعیش حالة من الأمن والاستقرار بحیث یصلح لعیش الإنسان فی بالمقدار الذی یکون فیه قادرا على البناء والإنتاج.
أما الإمام الحسین (علیه السلام) فلم یکن قد توقف فی هذه المسألة بحدود إطارها النظری حسب، وإنما أنزلها، بل نزل بها إلى حیز الواقع العلمی، ومارسها شخصیا. فحین أحس الإمام الحسین (علیه السلام) بمدى انتهاک حقوق الإنسان، والحریة الذی باشرت به حکومة یزید بن معاویة ابن أبی سفیان بحق أبناء الشعب لم یکن لیقف مکتوف الأیدی إزاء ذلک، بعد أن استنفد کل الوسائل الممکنة لثنی ذلک الطاغیة عن ممارساته تلک عندها باشر شخصیا بممارسة التغییر الذی عبر عنه بقوله: "ألا وإنی لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا، إنما خرجت لطلب الإصلاح فی أمة جدی رسول الله، أرید أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنکر"(4).
وبقوله: "لا ینبغی لنفس مؤمنة ترى من یعصی الله فلا تنکر علیه"(5)، وأی عصیان لله أکبر من استعباد خلقه الذین کرمهم بقوله تعالى: (ولقد کرمنا بنی آدم ).
وقفة بین الرؤیتین:
على الرغم من اتحاد الرؤیتین بین الإمام الحسین (علیه السلام) والإعلان العالمی لحقوق الإنسان من حیث تناول الاثنین لهذه المسألة الهامة، إلا أن هناک فارق بین الرؤیتین من جهة طبیعة ذلک التناول، وسعته وضیقه.
فالرؤیة التی ساقها لنا الإعلان العالمی لم تکن قد تمیزت بتلک الدقة، والإحاطة التی ساقها لنا الإمام الحسین (علیه السلام).
ففی مسألة الحریة وانتهاکها، میز الإمام الحسین (علیه السلام) بین نوعین من الانتهاک بما یدل على وجود نوعین من الانتهاک هما:
1ـ الانتهاک الخارجی لحقوق الإنسان: وهذا النوع من الانتهاک یأتی من قبل قوة خارجة عن الإنسان، وهذه القوة قد تکون دولة، أو جهة، أو إنسان آخر.
2ـ الانتهاک الداخلی: وهذا النوع من الانتهاک یأتی من قبل الإنسان نفسه على نفسه فیصادر حقوقه، أو یتنازل عنها بنفسه، وهذا النوع من الانتهاک یفوق بخطورته بکثیر النوع الأول لصعوبة زوال آثاره فیما لو تمکن من الإنسان، ونظرا لتلک الخطورة لم تجد الإمام الحسین (علیه السلام) قد أغفل جانبه وإنما أشار إلیه، وأکد علیه فی أشد المواقف وأخطرها لیوجه الناس إلى مدى خطورته على الإنسان.
فحول الظلم الخارجی وظلم الحاکم تحدیدا باعتباره أظهر مصادیق الانتهاک الخارجی، وأبرزها شیوعا ورد عن الإمام الحسین (علیه السلام) قوله: "بأبی أنت وأمی یا رسول الله ـ ویخاطب بذلک جده رسول الله حین وقف على قبره الشریف ـ لقد خرجت من جوارک کرها، وفرق بینی وبینک حیث إنی لم أبایع لیزید بن معاویة، شارب الخمور، وراکب الفجور، وها أنا خارج من جوارک على الکراهة فعلیک منی السلام"(6).
وقال فی ذلک: "أنی لا أبایع له أبدا... ویزید رجل فاسق، معلن الفسق ویشرب الخمر ویلعب بالکلاب والفهود .."(7)
هذا بالنسبة للانتهاکات الخارجیة فقد ورد عن الإمام الحسین (علیه السلام) نقد شدید لهذه الحالة الخطیرة التی تغزو النفس الإنسانیة، وقد بدأ الإمام الحسین (علیه السلام) بتناول هذه الظاهرة مبتدئا بنفسه لیکون تأثیر ذلک أبلغ فی نفوس الآخرین، فقد قال: "والله لا أعطیهم بیدی إعطاء الذلیل، ولا أقر إقرار العبید" (8). ثم قال: "الناس عبید الدنیا، والدین لعق على ألسنتهم، فإن محصوا بالبلاء قل الدیانون"
لقد کان الإمام الحسین (علیه السلام) ینادی بعدم انتهاک الإنسان لحق نفسه بالحریة حتى أواخر لحظات حیاته حین کان واقعا على الأرض فی کربلاء، ولم یفصل بینه وبین الموت سوى لحظات، حیث خاطب قتلته حینها قائلا: "ویحکم یا شیعة آل أبی سفیان، إن لم یکن لکم دین، وکنتم لا تخافون المعاد، فکونوا أحرارا فی دنیاکم هذه.."(9).
وقال أیضا: "رحلی لکم عن ساعة مباح، فامنعوه جهالکم وطغاتکم وکونوا فی الدنیا أحرارا إن لم یکن لکم دین "(10)
لقد حذر الإمام الحسین (علیه السلام) من انتهاک الإنسان لحریته لما سوف یجر إلیه ذلک الانتهاک من مآسی على الإنسان، وعلى المجتمع على حد سواء، إذ لیس الفرد سوى لبنة فی بناء مجتمعه. فمن التحذیرات لتلک النتائج نورد شاهدا على ذلک من أقوال الإمام الحسین حیث یقول فی ذلک: "ولکنکم مکنتم الظلمة فی منزلتکم، وأسلمتم أمور الله فی أیدیهم یعملون بالشبهات، ویسیرون فی الشهوات، سلطهم على ذلک فرارکم من الموت وإعجابکم بالحیاة التی هی مفارقتکم، فأسلمتم الضعفاء فی أیدیهم، فمن بین مستعبد مقهور وبین مستضعف على معیشته مغلوب، یتقلبون فی الملک بآرائهم ویستشعرون الخزی بأهوائهم، إقتداءً بالأشرار، وجرأة على الجبار، فی کل بلد منهم على منبره خطیب یصقع، فالأرض لهم شاغرة وأیدیهم فیها مبسوطة، والناس لهم خول لا یدفعون ید لامس..."(11).
خلاصة القول یعد انتهاک الإنسان لحریة نفسه، وحقوقه أشد خطورة علیه من انتهاک الآخرین لحقوقه، إذ فی الحالة الأولى سوف ینسى الإنسان نفسه بما یسلط علیه الطغاة دون أن یلتفت إلى ما یتکون من حقوقه ما دام هو الذی بدأ بذلک، والشواهد من التاریخ المعاصر کثیرة على ذلک، فقد حدث أن بادر الهنود السود فی أمیرکا إلى العودة للعبودیة من تلقاء أنفسهم بعدما حررهم الرئیس الأسود ابراهام لنکولن من ذلک لاعتیادهم العبودیة، وکذلک بالنسبة للطبقات الاجتماعیة المتدنیة فی الهند ـ حسب تقسیماتهم الطبقیة قدیما ـ حین حرروا.
المصادر :
1- بول جوردون لورین، نشأة وتطور حقوق الإنسان الدولیة الرؤى، الجمعیة المصریة لنشر المعرفة والثقافة العالمیة، القاهرة، ترجمة: د. أحمد أمین الجمل، ط1، 2000، ص19.
2- محمد الحسینی الشیرازی، موسوعة الفقه، کتاب الإدارة، دار العلوم للتحقیق والطباعة والنشر والتوزیع، بیروت، ط1، 1989، ج104، ص32.
3- علی عزت بیکوفیتش، الإعلان الإسلامی، دار الشروق، القاهرة، ترجمة محمد یوسف عدس، ط1، 1999، ص66.
4- الإعلان العالمی لحقوق الإنسان، الدیباجة.
5- علاء الدین علی المتقی بن حسام الدین الهندی، کنز العمال، مؤسسة الرسالة، بیروت، ج3، الحدیث 5614.
6- فخر الدین الطریحی النجفی، المنتخب، منشورات الشریف الرضی، قم، 1413هـ، ص410.
7- أبو المؤید الموفق بن أحمد المکی أخطب خوارزم، مقتل الحسین، مکتبة المفید، قم، ج1، ص182.
8- أبو جعفر محمد بن جریر الطبری، تاریخ الطبری، دار الکتب الإسلامیة، بیروت، 1406هـ، ج3، ص318.
9- أبو الفداء اسماعیل بن کثیر الدمشقی، البدابة والنهایة، دار إحیاء التراث، بیروت، 1408هـ، ج8، ص203.
10- أبو الفرج الأصفهانی، مقاتل الطالبیین، دار المعرفة، بیروت، ص118.
11- أبو محمد الحسن بن علی بن الحسین بن شعبة الحرانی، تحف العقول، منشورات الشریف الرضی، قم، 1380هـ، ص168.
source : .www.rasekhoon.net