ما زال الإمام الخميني الراحل في قلب الأمة ووجدانها وعقلها والغائب الحاضر والشاهد المشهود، وقد أصبح مقياسا للمبادئ والعدالة والحرية وأملاً للقلوب البصيرة التي تبحث عن نفسها وعن واقعها .
أقواله وأفعاله خالدة بخلود المجد والعزَّة والصلابة التي وهبها لأمّته من مشرقها الى مغربها، تُحدث الكثير وكُتب الأكثر عن خصائص الإمام الخميني ونهضته، من اين استمدت هذا الوضوح والنورانية في ادراك الامور؟ كيف يلمس الواقع حتى لا يكاد يخطئه وكأنّه مسدد من عالم آخر . بأي شيء يتصل لينقل العالم كلّه الى قيم ومبادئ أكبر من عالمها الذي أنست به واعتادت عليه الى حياة أخرى.
إنَّ المسالة التي كان يوكد عليها الإمام - ولعل السر في نجاحه يكمن فيها - هو الوظيفة الأساسية للعلماء... وأنهم خلفاء الأنبياء والأئمة، وليس ذلك في حدود معرفة الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية والإخبار بها والإفتاء فحسب وإنما تفعيلها واجراوها في الخارج.
إنَّ هذا المعنى الذي تضجّ به أقوال الإمام وأفعاله يمتد من البحث في الشرعيات الى نظرته التوحيدية للكون والحياة والوجود .
ما هو أصل هذه الخلافة والولاية الذي يوكد الإمام أنَّها من شأن الفقيه الجامع للشرائط؟؟
لو رجعنا الى كتب الإمام الأخلاقية والعرفانية وأصوله الدينية لأدركنا أنَّ نشوء هذه الحركة المباركة منبعها من هناك.
يرى الإمام أنَّ الخلافة الإلهية للأنبياء والأئمة المعصومين (عليهم السلام) لها جذورها في هندسة الوجود وذلك لأن الموجودات بأجمعها مخلوقة لله مرتبطة أشد الارتباط به في تكوينها ولا تستغني أبداً عنه في جهة من جهات وجودها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليس لها طريقاً الى الاتصال بذاته المقدسة لأنَّ الذات عزَّت أن تنالها الموجودات المحدودة المتناهية.
فلابد لها من واسطة كبرى تحقق لها اتصالها بالله في المرحلة التي يمكنها أن تتصل بمنبع الخير والكمال الذي تطلبه ويمكنها أن تناله.
هذه الواسطة يسميها الإمام بالإنسان الكامل أو الخليفة الإلهي الذي يرفع عنها نقصها وجهلها ويربطها بالله في علاقة واعية بربها.
هذا الموجود الذي يعتبر هو قناة اتصالها جميعاً بالله حتى المجرّدات منها، والإنسان الكامل هو الموجود الوحيد الذي يقبل هذا الدور الواسطة.. وهنا قرأ الإمام نفسه وفي صحة هذه القراءة، كُمُون النجاح.
يتحدث القرآن عن خلافة الإنسان هذه فيقول: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} لم يقل القرآن إني جاعل إنسان خليفة لأنَّ الخلافة تسبق الإنسانية في المرتبة أي بالخلافة الإلهية تتحقق الإنسانية، كما جاء في الحديث عن القران في سورة الرحمن: {خُلِقَ الإِنسَانُ}
إنَّ علم الإنسان بالقرآن يسبق وصوله الى مرحلة الإنسانية.. فقد يقال: إنَّ النظم الطبيعي أن يقال خلق الإنسان علّم القران لأن الإنسان هو أحد الثقلين الذي اُنزل إليه القران فلابد من وجوده ليتعلم القران ولكن النظم في الرتبة الواقعية خلاف ذلك..
فلا يكون الإنسان إنساناً ولا تظهر إنسانيته وتبرز آثارها في الخارج إلا بتعلّم القرآن؛ لأنَّ من يقطع ارتباطه بمبادئ الوحي لا يستحق الإنسانية. وإنَّما هو بالصورة إنسان يقول الأمير: (الصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان وذلك ميّت الأحياء) وكذلك مسألة الخلافة.
النقطة الثانية: حيث قال تعالى {إنّي جاعل ..} بصيغة الصفة المشبهة التي تفيد الاستمرار فيُعلم أنَّ أمر الخلافة ليس موقتاً أو مقطعياً فلا تخلو منها الأرض أبداً بل بها حياتها وبقاوها ولولاها لساخت بأهلها .
النقطة الثالثة: إنَّ مِلاك هذه الخلافة هو العلم، وبالطبع ليس المراد العلم المفهومي والمفاهيم العلمية ووجود المواضيع واحكامها في الذهن، وإنَّما العلم هنا هو التحقق بالأسماء الإلهية.. أي العلم بالموجودات ومصالحها ومفاسدها التي تحفُّ بها وتقطعها عن الاتصال بصراطها الصحيح، أي العلم بالنظام التشريعي والتكويني لكل ما دونه.
ففي أحد الأيام دخل عليه أحد مراسلي الصحف الفرنسية بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وساله بماذا انتصرت على الشاه فرفع مسبحته ـ كانت في يده مسبحة يسبّح بها ـ وقال: بهذه انتصرنا على الشاه..
الخليفة يجب أن يعلم بالنظام الأصلح ويعمل بالحكمة لإيصال الموجودات إليه؛ ولذلك عندما أبرز الله الملائكة في صلاحية آدم والإنسان الكامل للملائكة فقد احتج عليهم بأنَّ هذا الإنسان يعلم ما لا تستطيعون العلم به .. ويُظهر اسم العليم ويمكنه أن يكون مرآة لما لا يمكنكم أن تعكسوه؛ اذ حينما قالوا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} لم ينف عنه سفك الدماء والفساد في الأرض وإنَّما قال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}؛ أي أنَّ ظرفيتكم لا تُظهر علمي وللاحتجاج عليهم قال تعالى: {يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ} وأوضح لهم أنَّ المسألة ليست صرف التسبيح والتقديس، وإنَّما قابلية حمل العلم ومرآتية علم الله تعالى .
ومن اللطيف أنَّ القرآن يوكّد أنَّ الله علم آدم الاسماء كلَّها، إذ كان يكفي أن يقول: {عَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء} فتفيد بالإطلاق شمولها لكل الاسماء وحقائقها، ولكن للتأكيد على شمولية هذا العلم قال كلّها ليفيد إحاطته بمعرفة كلّ الموجودات، إذ هذا العلم ومعرفة النظام الأصلح في التكوين والتشريع هو الذي يوهله للخلافة الإلهية، وعليه فإنَّ كلّ من نصَّب نفسه على الناس خليفة وهو فاقد لهذين الشرطين فهو طاغوت يسوق البشرية من النور الى الظلمات ويُخرجها عن الصراط المعّد لها ..
النقطة الرابعة: إنَّ هذا المنصب في نظر الإمام لا يمكن للإنسانية ان تنال سعادتها الواقعية الا بتفعيله وعدم تعطيله.
وفي زمن غيبة ولي الله الكامل واستتاره وعجز الناس عن الاتصال به.. فان الشقّ الأول من هذا المنصب يبقى تحت رعاية الإمام (عليه السلام) وعنايته، ولكن ما ناقش فيه الإمام عليه الرحمة هو الشقّ الآخر؛ أي الجانب التشريعي والاعتباري منه: هل تُعطّل الأحكام الشرعية في زمن الغيبة؟ هل تضيع مصالح الناس؟؟
أم أنَّ هناك قدر متيقن وطريق شاخص لحفظ هذه المصالح ودرء المفاسد عن المسيرة الإنسانية لتكمل سيرها وهذا السلوك هو الذي يحفظ هدفية وجودها في نظام الخلقة وهذا الأمر (الحاجة للولى) لا يخلو منه إنسان في زمان ما أو مكان ما، فان هذه الحاجة لا تقبل التقييد ابد.
واذا طرأ ظرف يمنع من الاتصال بالولى الكامل (صلوات الله وسلامه عليه)، فإنَّ على خليفة الله؛ أي العلماء الأمناء القيام بالحفاظ على مصالح الأمة، وهذا المعنى تضخ به الروايات، وبذلك يكون العلماء ورثة الأنبيا، وبالطبع فإنَّ لهذه الخلافة أيضاً شروطاً واقعياً (مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه) كما انَّه ناظر في الأحاديث والروايات والأدلة الشرعية الأربع.
يقول أستاذنا الشيخ جوادي: كما نشترط أن يكون مرجع التقليد الأعلم في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها ومنابعها الأولية، كذلك يجب أن نشترط أن يكون الأعلم في مغالبة الهوى؛ ولعله لهذا يشترط الإمام في مرجع التقليد أن يكون مُعرضاً عن الدنيا.
لقد امتاز الإمام منذ أول سلوكه في قراءة نفسه ومعرفة إمكانياته واستعداده الجسدي والعقلي والعلمي ليكون وريث الأنبياء والأئمة بحق، وبذلك قام بوظيفة تتناسب ورسالة الأنبياء، فلقد بث ونفح من روحه الطاهره روح العزّة والصمود والفداء والشرف الرفيع في جسم الأمة التي تكالبت عليها ا لوحوش الضارية على مرّ الدهور المتمادية، ولقد رفع عنها قيود الذل التي طوّقها به الاستكبار العالمي، وقد أبصرت الأمة بعد عمى طويل طريقها مسترشدة بنهجه، فالإمام مدرسة في أقوله وأفعاله ومواقفه لا يخطأها من يبحث عن نفسه وموقعه ولا يتيه عنها من أراد الحقيقة من مظانها..
لقد لمس البعيد والقريب والحبيب والرقيب والداني والقاصي ما امتازت به روح الإمام، وما كان يقوم به من اتّصال وثيق بين ما يومن به في كتبه العرفانية وبين تنظيره الفقهي وسلوكه العملي.
ففي أحد الأيام دخل عليه أحد مراسلي الصحف الفرنسية بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وساله بماذا انتصرت على الشاه فرفع مسبحته ـ كانت في يده مسبحة يسبّح بها ـ وقال: بهذه انتصرنا على الشاه..
source : www.abna.ir