ترجع بدايات نشأة الأشاعرة إلى فرقة أهل الحديث: وهم الّذين تعبّدوا بظواهر الآيات والروايات من دون غور في مفاهيمها، أو دقّة في أسنادها، وكانوا يُشكّلون الأكثريّة الساحقة بين المسلمين، وكثُرت فيهم المشبِّهة والمجسِّمة، والمثبتون لله سبحانه علوّاً وتنقّلاً وحركة وأعضاءً، كاليد والرجل والوجه!!
ولمّا تسلّم المتوكِّل مقاليد الحكم؛ أمر بنشر منهج أهل الحديث بقوّة وحماس، وتبعه غيره من العبّاسيّين في دعم مقالتهم، وتضييق الأمر على أهل الاعتزال، وقد كان الأمر على هذا المنوال إلى عصر أبي الحسن الأشعريّ (260 ـ 324هـ) الّذي كان معتزليّاً ثمّ صار من زمرة أهل الحديث، فكانت السلطة تُسايرهم وتوافقهم.
وقد كوّن الأشعريّ برجوعه عن الاعتزال إلى مذهب أهل الحديث منهجاً كلاميّاً، له أثره الخاصّ إلى يومنا هذا بين أهل السنّة، فمذهبه الكلاميّ هو المذهب السائد بينهم في أكثر الأقطار.
من هو الأشعريّ المؤسِّس للمذهب
هو أبو الحسن عليّ بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ.
وأما جدّه ـ أبو موسى الأشعريّ ـ فقد عُيِّن من جانب الإمام عليّ عليه السلام حكماً، كما عُيِّن عمرو بن العاص من جانب معاوية حكماً، ليقضيا في أمر الفرقتين بما وجدا في كتاب الله، وإنْ لم يجدا في كتاب الله فليرجعا إلى السنّة.
فكانت نتيجة ذلك ـ بعد خدعة من عمرو بن العاص ـ أنّه خلع عليّاً عليه السلام عن الخلافة، وأثبت عمرو بن العاص معاويةَ في الخلافة، وكأنّه وجد دليلاً في الكتاب والسنّة على عدم صلاحيّة الإمام للخلافة، وذاك وجد دليلاً حاسماً على صلاحيّة معاوية!!
أمّا الأشعريّ الحفيد فقد تخرّج في كلام المعتزلة على أبي عليّ الجبائيّ، وهو محمّد بن عبد الوهاب بن سلام من معتزلة البصرة.
ولكنّه تراجع عن مذهب المعتزلة، وذكروا أسباباً متعدِّدة لبيان سبب رجوعه، وممّا ذُكر: أنّه رجع عن ذلك لأسبابٍ سياسيّة تتّصل بالضغط الّذي مارسته السلطة العبّاسيّة على أتباع مدرسة الاعتزال. وذلك لأنّ الأشعريّ قد مارس علم الكلام على مذهب الاعتزال مدّة مديدة وبرع فيه إلى أوائل العقد الخامس من عمره، وعند ذاك السن تكون عقيدة الاعتزال صورة راسخة وملكة متأصِّلة في نفسه، فمن المشكل جدّاً أنْ ينخلع الرجل دفعة واحدة عن كلّ ما تعلَّم وعلَّم، وناظر وغَلب أو غُلب، وينخرط في مسلك يُضادّ ذلك ويُغايره بالكليّة. نعم، نتيجة بروز الشكّ والتردُّد هو عدوله عن بعض المسائل وبقاؤه على مسائل أُخر، وأمّا العدول دفعة واحدة عن جميع ما مارسه وبرع فيه، والبراءة من كلّ ما يمتُّ إلى منهج الاعتزال بصلة، فلا يُمكن أنْ يكون أمراً حقيقيّاً جديّاً من جميع الجهات، فالنتيجة أنّ تركه لمذهب الإعتزال ما هو إلّا نتاجٌ للرياح السياسيّة الضاغطة في ذلك الوقت.
أهمُّ عقائد الأشاعرة
1 ـ الاعتماد على العقل
كانت المعتزلة تعتمد على العقل في المسائل الكلاميّة، ويؤوّلون النصوص القرآنيّة عندما يجدونها مخالفة لآرائهم ـ بزعمهم ـ ولا يكادون يعتمدون على السنّة، ولأجل ذلك نرى أنّهم أوّلوا الآيات الكثيرة الواردة حول الشفاعة ـ الدالّة على غفران الذنوب بشفاعة الشافعين ـ بأنّ المراد رفع درجات الصالحين بشفاعة الشفعاء، لا غفران ذنوب الفاسقين.
وكان المحدّثون يرون الكتاب والسنّة مصدراً للعقائد، ويُنكرون العقل ورسالته في مجالها، ولم يُعدّوه من أدوات المعرفة في الأُصول، فكيف في الفروع، ولا شكّ أنّ هذا خسارة كبيرة لا تُجبر.
وقد جاء الأشعريُّ بمنهج معتدل بين المنهجين، وقد أعلن أنّ المصدر الرئيس للعقائد هو الكتاب والسنّة، وفي الوقت نفسه خالف أهل الحديث بذكاء خاصّ عن طريق استغلال البراهين العقليّة والكلاميّة على ما جاء في الكتاب والسنّة.
كان أهل الحديث يُحرّمون الخوض في الكلام، وإقامة الدلائل العقليّة على العقائد الإسلاميّة، ويكتفون بظواهر النصوص والأحاديث، ولكنّ الأشعريّ بعد براءته من الاعتزال وجنوحه إلى منهج أهل الحديث، كتب رسالة خاصّة في استحسان الخوض في الكلام.
2 ـ أفعال العباد مخلوقة لله عزَّ وجلَّ، ونظريّة الكسب
إنّ من آراء الأشعريّ، عموم إرادة الله سبحانه لكلّ شيء، ويُعدُّ ذلك من المسائل الرئيسة في مذهبه، وحاصله: أنّ كلّ ما في الكون من جواهر وأعراض حتّى الإنسان وفعله، مراد لله سبحانه، تعلّقت إرادته بوجوده، وليس شيء في صفحة الوجود خارجاً عن سلطان إرادته، ولا يقع شيء من صغير وكبير إلّا بإرادة منه سبحانه.
وهذا الأمر أدّى به إلى أنْ يلتزم بأنّ الأفعال الصادرة من الإنسان بإرادة منه كالإيمان والكفر والطاعات والمعاصي هي تحت الإرادة الإلهيّة، فإذاً هو مجبر على فعلها غير مختار لها بتمام معنى الكلمة.
ولذا خرج الأشعريّ بنظريّة جديدة للفرار من مشكلة الثواب والعقاب على الفعل المجبر عليه الإنسان، وهي نظرية الكسب فقال: الله هو الخالق، والعبد هو الكاسب، وملاك الطاعة والعصيان، والثواب والعقاب هو "الكسب" دون الخلق، فكلّ فعل صادر عن كلّ إنسان مريد، يشتمل على جهتين "جهة الخلق" و"جهة الكسب" فالخلق والإيجاد منه سبحانه، والكسب والاكتساب من الإنسان.
3 ـ رؤية الله بالأبصار في الآخرة
ذهب الأشعريّ إلى أنّ الله عزَّ وجلَّ موجود، وكلّ موجود يصحُّ أنْ يُرى.
فقال في كتابه "الإبانة": "وندين بأنَّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون"(1).
واستدل لإثبات ذلك ببعض الآيات نحو قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾(2). والأشاعرة ترى أنّ الأصل حمل النصوص على الحقيقة. فلا بُدَّ من حمل هذه الآيات على معناها الحقيقيّ.
4 ـ إنكار الحسن والقبح العقليّين
يرى الأشاعرة أنّ الحسَنَ هو ما يفعله الله عزَّ وجلَّ والقبيح هو ما لا يفعله. أي أنّ الله له أنْ يُعذِّب الأطفال في الآخرة ويكون في فعله ذلك عادلاً. كما أنّ له أنْ يُدخل المؤمنين النار ويُدخل الكافرين الجنّة لأنّه المالك لكلِّ شيء ولا يوصف أيُّ فعل بالقبح حتّى يتركه.
ويلاحظ عليه: أنّه إذا رأى الأشعريّ طفله يُعذّب في الآخرة بألوان العذاب، دون ذنبٍ اقترفه أو جريرة أقدم عليها، أو عُذِّب بنفسه من الباري سبحانه وهو مؤمنٌ بالله غير مستحقّ للعقاب، هل يجد ذلك عين العدل، أم أنّه في قرارة نفسه يجده أمراً منكراً؟
وثانياً، هم افترضوا هذه النظريّة لاعتقادهم أن حكم العقل بالحسن والقبح حكم على الله وسطوةًٌ عليه سبحانه، وبالتالي أنكروه، لكنّ الصحيح أن الله سبحانه وضع وجعل قدرة التمييز بين الحسن والقبح في العقل غاية الأمر أنّ العقل كاشف عن الحُسن والقبح وليس فارضاً له على الله عزَّ وجلَّ.
فالله قادر على فعل القبح ولكنّه لا يفعله لأنّه حكيم والحكيم لا يصدر عنه إلّا كلّ فعل حسن(3).
5 ـ كلام الله سبحانه وتعالى
محلّ الخلاف
ثمّ إنّ الخلاف في كلامه سبحانه واقع في موضعين
الأوّل : ما هي حقيقة كلامه سبحانه؟ وهل هو من صفات ذاته كالعلم والقدرة والحياة، أو من صفات فعله كالإحياء والإماتة والخلق والرزق إلى غير ذلك من الصفات الفعليّة؟
الثاني: هل هو قديم أم حادث، مخلوق أم غير مخلوق؟ والاختلاف في هذا المقام من نتائج الاختلاف في الموضع الأوّل.
فذهب أبو الحسن الأشعريّ إلى كونه من صفات الذات، لا بالمعنى الّذي تتبنّاه الحنابلة، بل بمعنى آخر، وهو القول بالكلام النفسيّ القائم بذات المتكلّم.
توضيحه
في مورد كلِّ كلام صادر من أيّ متكلِّم ـ خالقاً كان أو مخلوقاً ـ وراء العلم في الجمل الخبريّة، ووراء الإرادة والكراهة في الجمل الإنشائية، معاني قائمة بنفس المتكلّم، وهو الكلام النفسيّ، يتبع حدوثه وقدمه، حدوث المتكلّم وقدمه.
وقال أبو الحسن الأشعريّ: ونقول إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق وإنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر.
قال الأشعريّ: وممّا يدلّ من كتاب الله على أنّ كلامه غير مخلوق قوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون﴾(4). فلو كان القرآن مخلوقاً لوجب أن يكن مقولاً له: "كن فيكون"(5).
ويلاحظ عليه: إنّ الاستدلال مبنيّ على كون الأمر بالكون في الآية أمر لفظيّ مولّف من حروف وأصوات وأنّه سبحانه يتوسّل عند خلق السماوات والأرض باللفظ، فيخاطب المعدوم بكلمة "كُنْ". ولا شك أنَّ هذا الاحتمال باطل، إذ لا معنى لخطاب المعدوم، وحقيقة الموضوع أنّ الأمر في الآية أمرٌ تكوينيّ معبّر عن الإرادة لإيجاد الشيء، ويفسّر أمير المؤمنين عليه السلام الأمر التكوينيّ بقوله: "يقول لما أراد كونه، فيكون. لا بصوت يُقرع ولا بنداء يُسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعلٌ منه، أنشأه ومثّله، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً"(6).
أهمُّ شخصيّات المذهب الأشعريّ
1 ـ القاضي أبو بكر الباقلاني (المتوفّى 403هـ)
هو أبو بكر محمّد الطيّب بن محمّد القاضي المعروف بابن الباقلاني، وليد البصرة وساكن بغداد.
والباقلاني نسبه إلى الباقلاء (الفول).
ويظهر من فهرس تآليفه أنّه كان غزير الإنتاج وكثير التأليف، فقد ذُكِر له اثنان وخمسون كتاباً، غير أنّه لم يصل إلينا من هذه إلّا بعضها ككتاب إعجاز القرآن.
2 ـ أبو منصور عبد القاهر البغداديّ (المتوفّى 429هـ)
أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمّد البغداديّ، أحد العلماء البارزين في معرفة الملل والنحل، وكتابه "الفَرق بين الفِرق" من الكتب المعروفة في هذا المجال، ويُعدّ سنداً وثيقاً لمعرفة المذاهب الإسلاميّة.
3 ـ إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجوينيّ (419 ـ 478هـ)
هو عبد الملك بن الشيخ أبي محمّد عبد الله بن أبي يعقوب الجوينيّ.
وهو المعروف بالفقيه الشافعي، ولد في جوين (من نواحي نيسابور)، له رسالة اسمها: النظاميّة.
4 ـ حجّة الإسلام الإمام الغزاليّ (450 ـ 505هـ)
الإمام زين الدين حجّة الإسلام أبو حامد محمّد بن محمّد بن محمّد بن أحمد الطوسيّ الشافعيّ، تتلمذ على إمام الحرمين ثمّ ولّاه نظام الملك التدريس في مدرسته ببغداد.
5 ـ أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم الشهرستانيّ (479 ـ 548هـ)
الشهرستانيّ، أحد المهتمّين بدراسة المذاهب والشرائع، ويُعدّ شخصيّة ثالثة بين الأشاعرة في معرفة الملل والنِّحل.
6 ـ الفخر الرازي (543 ـ 606هـ)
محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيميّ البكريّ أصله من طبرستان، ومولده في الريّ وإليها نسبته ولد فيها سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وتوفّي في "هراة" من نواحي خراسان سابقاً وهي في أفغانستان اليوم سنة ست وستمائة.
إنّ الرازي كان كثير الإنتاج، وقد طُبِع قسم من آثاره نذكر منها ما له صلة بالموضوع
1- -"أسماء الله الحسنى" وهو المسمّى "لوامع البيّنات" وهو كتاب يُفسِّر الأسماء بين التشبيه والتعطيل.
2- "مفاتيح الغيب" في ثمان مجلّدات كبار في تفسير القرآن الكريم، وهو مشحون بالأبحاث الكلاميّة في مختلف الأبواب، ويُناضل فيه المعتزلة، وينصر الأشاعرة، ويردّ فيه على سائر الطوائف، وله مع الشيعة الإماميّة في الكتاب مواقف تحكي عن عناده ولجاجه.
3- "محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين من العلماء والحكماء والمتكلّمين" وقد لخّصه المحقّق الطوسيّ وأسماه "تلخيص المحصّل"ونقد منهجه في كثير من الموارد، وقد طُبع حديثاً أيضاً.
4- "المباحث المشرقيّة" في جزءين جمع فيه آراء الحكماء والسالفين ونتائج أقوالهم وأجاب عنها.
المصادر :
1- المذاهب الإسلامية، السبحاني، ص 56, عن الإبانة، ص 21
2- القيامة: 27
3- المذاهب الإسلامية، السبحاني، ص 53 – 55
4- النحل: 40
5- الإلهيّات، السبحاني، ج1، ص 213، نقلاً عن الإبانة، ص 52-53
6- نهج البلاغة، الخطبة 186
source : rasekhoon