لماذا ندرس السيرة النبوية؟
تأليف: الشيخ كاظم السباعي
بسم الله الرحمن الرحيم
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (صدق الله العلي العظيم)
في البدء لابد أن نطرح سؤالاً... وهو لماذا ندرس السيرة النبوية؟ هل لمجرد الاطلاع على جانب من جوانب التاريخ، أو لكي نحصل على بعض المعلومات التاريخية، يعني التاريخ لمجرد التاريخ، أو السيرة لمجرد السيرة فهذا ليس هدفنا... وليس مهمتنا هي مجرد الإعجاب العاطفي لشخصية النبي محمد (صلّى الله عليه وآله).
صحيح انه لم يأت إلى هذه الحياة شخصية عظيمة كشخصية النبي من حيث التأثير على الحياة الإنسانية... والآثار التي تركها على حياة الإنسان، وحياة هذا العالم، إلا أن مجرد الإعجاب العاطفي لشخص النبي (صلّى الله عليه وآله) وليس هو المطلوب منا، نحن المسلمون، إنما المطلوب أن نتجاوز مرحلة الإعجاب العاطفي إلى مرحلة الاقتداء والاتباع واقتفاء الأثر.
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) و(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا)..
المطلوب هو الاتباع وتلمس نقاط الضوء في حياة النبي، وإلا فإن هناك من غير المسلمين من عبروا عن إعجابهم بشخصية النبي (صلّى الله عليه وآله) اكثر منا.. إذا كان المطلوب هو مجرد الإعجاب بشخصية النبي وعظمائنا.
رجل مسيحي ألف كتاباً بعنوان (شخصيات غيرت وجه التاريخ) ويحدد في هذا الكتاب مائة شخصية غيرت وجه التاريخ، مجموعة من الشخصيات والقادة والعظماء والنابغين الذين أثروا في التاريخ الإنساني، بما فيهم بعض الأنبياء والعباقرة والمخترعين، لكن اختياره لم يكن لتسلسل الأسماء حسب التاريخ الزمني لكل عظيم، أو حسب التسلسل الأبجدي لأوائل أسمائهم... إنما تم اختيار ترتيب هذه الشخصيات في هذا الكتاب على حسب مقدار التأثير على تاريخ البشرية... فأول اسم في هذا الكتاب والشخصية رقم واحد فيه هو شخصية النبي (صلّى الله عليه وآله)، يقول المؤلف في هذا الكتاب أنه اختار هذا المقياس حسب تعيين الكومبيوتر، يعني الكومبيوتر هو الذي يحدد تأثير كل شخصية من هذه الشخصيات التاريخية، وهو رجل مسيحي أمريكي، والمفروض في هذا الرجل أن يقدس المسيح أكثر ممّا يقدس نبينا.. لكن اسم المسيح يأتي في هذا الكتاب حسب هذا المقياس الكومبيوتري في الرقم (13) من تسلسل أسماء الشخصيات التاريخية بينما نبينا (صلّى الله عليه وآله) هو أوّل شخصية وأول اسم في هذا الكتاب.
هذا دليل على الإعجاب بشخصية النبي مجرد الإعجاب لأنه عظيم لا يكفي، وليس هو المطلوب منّا، بل المطلوب منّا اكثر... ففي هذا المجال، ربما يسبقنا أناس آخرون من الذين يعرفون أن يقيموا الشخصيات تقييماً علمياً، إنما المطلوب منا العمل بسنة النبي باعتبار أن السنة تأتي بالدرجة الثانية بعد القرآن من مصادر التشريع ومنابع الإسلام الأولية، والسنة النبوية الطاهرة تعتبر هي الجانب العملي والتفصيلي من الإسلام، ليس السنة النبوية بمفهومها الفقهي الضيق بل السنة النبوية بمعناها الواسع التي تعني طريقة النبي في الحياة.
السنة لغة: الطريقة
طريقة النبي.. كيف كانت في مختلف المجالات الحياتية؟
طريقته في مجال الحياة الفردية والاجتماعية، وفي التعامل مع الزوجة والأولاد، وطريقته في السلم والحرب، والعلاقات الدولية، وطريقته في السلم والحرب، والعلاقات الدولية، وطريقته في الاقتصاد، ونظام الحكم، كل هذه تعتبر جزء من سنة النبي (صلّى الله عليه وآله) ويجب علينا أن نعرف السنة في هذه الموارد حتى نتمكن من تطبيقها واستنباط الأحكام والمواقف منها... أن سنة النبي حسب ما يقدر علماء الأصول تعني كل شخصية النبي (صلّى الله عليه وآله) وحياته، وكل حركة وسكنة وهمسة بل وحتى سكوته ونظرات عينيه ولفتاته، كل هذه الأجزاء الدقيقة والصامتة من سلوك النبي الخارجي تعتبر سنة فيقولون: بأن تقرير النبي حجة، تقرير النبي يعني مجرد سكوته على عمل شيء...إذا لاحظ النبي تصرفاً معيناً من شخص معين فإذا كان ذلك التصرف منافياً للإسلام فالمروض أن ينهى النبي عن هذا التصرف، وإن هذا العمل مسموح به شرعاً... فسكوت النبي يعطي شرعية لهذا العمل، أو ذاك التصرف، أذن كل حياة النبي بكل أبعادها هي جزء لا يتجزأ من رسالته ودعوته، جزء من الوحي، والملاحظ في شخصية النبي إنه كان ذائباً في رسالته، كان لا يمثل نفسه، وإنما كان يمثل دعوته، ويمثل المبدأ الذي يدعو إليه.
(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى).
أذن المفروض علينا هو البحث عن سنة النبي أي معرفة طريقته في الحياة وكل جوانب الحياة ـ هذه النقطة الأولى ـ.
الهدف الثاني: من دراستنا لسيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) إن الإنسان بحاجة إلى قدوة وهناك كثير من النظريات الجيدة في الحياة وهناك كثير من المبادئ والفضائل والقيم والأخلاق، لكن قليلاً من الناس من يطبق المبادئ.
الكثير من الناس يعرف بأن الصدق واجب وأن الأمانة حسنة، وأن الوفاء خلق حسن، وأن الكذب سيئ وأن الخيانة والغدر وعدم الوفاء خلق رديء، لكن قليلاً من الناس تراه يصدق في كلامه... أو يعمل بالأمانة؟
فقليل من الناس يلتزم بهذه الأخلاق... لماذا؟
لأن مجرد النظريات الذهنية والأفكار الباردة لا تستقطب اهتمام الناس، ولا تؤثر على روح الإنسان ولا تجذبه إلى تطبيق المبادئ... والأخلاق، بل الإنسان بحاجة إلى القدوة إلى الرمز الذي يرمز إلى هذه الأخلاق والمبادئ، كثير من الناس يحب أن يلتزم بالأخلاق والفضائل والقيم... وهناك الكثير ممن يقول أريد أن أكون إنساناً فاضلاً، إنساناً كاملاً ناجحاً في الحياة، ولكن كيف؟ ومثل من؟ هذا السؤال يبقى بدون جواب في حياة الكثير من الناس.
الغرب وأزمة القيم:
والغرب بما وصل إليه من تقدم صناعي وتطور تكنولوجي، لكن الإنسان في الغرب يعاني من أزمة تخل في توازنه النفسي، تجعل حياته مختلة، قلقة، غير هادفة وهي (أزمة أخلاق).
فالأخلاق والقيم التي يطبقها في حياته قيم مادية نابعة من منطلق مادي، ومن عقلية مصلحية، عقلية انتهازية، ويتعامل الناس في الغرب تعاملاً تجارياً ومصلحياً، وهذه أزمة أوصلت الغرب إلى طريق مسدود، فهو يشكو من الفراغ الروحي، ويشكو من الأزمة الأخلاقية لعدم اقتناعه بقضية القيم والمبادئ نتيجة عدم وجود القدرة والمثل الأعلى والمناهج التطبيقية.
فمثلاً نجد سارتر يقول: (نحن لا نجد تحليلاً منطقياً للأخلاق) ما هي الأخلاق، وما هو الداعي إلى أن يكون الإنسان صادقاً، مهذباً، وفياً، أميناً، أو كريماً، فمثل هذه القيم والأخلاق ما دامت لا تخضع للتجربة لا تخضع للمختبرات ولا تدخل تحت المجاهر والمكرسكوب، ولا تقاس بالأمتار والكيلومترات.. أذن لا وجود لها، هذا هو المنطق المادي الذي يقيس الأمور بمقياس مادي، مقياس الربح والخسارة، فكل ما يسمع ويرى ويشم ويلمس له وجود، والشيء الذي يخضع للتجربة، ويدرك بالحواس يؤمن به.. أما الشيء الخارج عن نطاق الحواس لا يؤمن به... هذه الأزمة التي يعاني منها الغرب نتيجة تقدمه المادي على حساب تقدمه الروحي والإيمان بالقيم... فما هو السبب؟
الحل.. في الإسلام:
فلأنه لم يجد أمامه قدوات أو مثل عليا تجسد له القيم والأخلاق، لأن الإنسان الغربي لم يجد أمامه القدوة والرمز، ولا يجد أمامه أفراداً طبقوا هذه المبادئ، فلا يتمكن أن يدرك قابلية هذه المبادئ للتطبيق... بينما الإسلام حل هذه المشكلة، فوضع لنا قدوات ومثلاً عليا، ورموزاً تجسد القيم والأخلاق.
وطبعاً أن الأفكار والمبادئ التي طبقها الإنسان، والقيم التي تتجسد في قالب البشر، تكون أقدر على التأثير من مجرد النظريات الذهنية، فالرسول (صلّى الله عليه وآله) هو الإسلام المجسد، وهو القيم التي تجسدت في قالب الإنسان، وهو القرآن الذي يمشي على قدمين.
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ).
أذن الحاجة إلى القدوة والمثل الأعلى تدفعنا إلى التعرف على قادتنا... وفي مقدمة القدوات الخيرة في تاريخنا الإسلامي شخصية النبي (صلّى الله عليه وآله)... إن الله سبحانه وتعالى يقول:
(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)، (لِئَلاَ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).
فدور الرسل ودور النبي هو إتمام الحجة على الناس.
فإذا كان المطلوب منا أن نعبد الله فما هي درجة العبادة، وما هو مقياس العبادة؟ يمكن أن نجد المقياس في سلوك النبي الذي كان يقف للعبادة طيلة الليل حتى تورمت قدماه، حتى نزل قوله تعالى:
(طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى إِلاَ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)
فهذا يعني أن النبي وهو في قمة المسؤولية، تجده اكثر الناس عبادة وانقطاعاً إلى الله، فالقيادة تعني التزام المسؤولية، والإنسان القائد اكثر الناس مسؤولية من غيره، وليس القيادة مجرد لقب أو مجرد امتياز أو مجرد وسيلة للحصول على الامتيازات الشخصية.
القيادة في مفهوم الإسلام وكما تبرزها سيرة النبي تعني قمة المسؤولية، أو كلما كان تحمل الإنسان للمسؤولية أكثر كان أجدر بالقيادة، وكلما كان مستوى الإنسان أعظم من غيره فهو أكثر مسؤولية، ويجب أن يدفع ضريبة القيادة بتحمل مزيد من الآلام والصعوبات وتقديم التضحيات في سبيل المبدأ والقضية، ويكون في طليعة الأمة وفي الخطوط الأمامية في ساحات الجهاد والفداء... كما قال الإمام علي (عليه السلام) عن رسول الله:
(كنا إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله وكان أقربنا إلى العدو).
وفي الحديث: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، الأمثل فالأمثل).
القيادة مسؤولية وليست امتيازاً، هذه النقطة الثانية.
النقطة الثالثة: نريد أن نعرف من خلال السيرة النبوية تلك الروح التي بعثها النبي (صلّى الله عليه وآله) في جسد الأمة تلك الروح التي بعثها رسول الله في الحياة، فأصبحت هذه الروح هي الحاكمة على الحياة، يقول النبي:
(بعثت أنا والساعة كهاتين)
وجمع بين السبابة والوسطى، يعني أن رسالة النبي تحكم الحياة وتكون خالدة كخلود الزمن لا يطرأ عليها تغيير ولا تبديل، وتكون رسالة الإسلام متصلة بيوم القيامة، والإسلام يحكم الحياة والعالم.
فهذه الروح التي أطلقها النبي وحوّل تلك المجموعة الجاهلة المسحوقة المحرومة من الثقافة والعلم ومن كل شيء حوّلها بعد أقل من ربع قرن إلى حملة مشاعل الحضارة والحرية إلى العالم.
فقد كانوا مجموعة من الحفاة المسحوقين كعمار، وأبي ذر، وسمية، وياسر، وصهيب، بلال، فما هي تلك الروح التي بعثها النبي فيهم.
هذه الروح التي تجسدت في ذلك الصمود الرسالي الذي أبداه (بلال) تحت سياط التعذيب الجاهلي على أيدي أسياد قريش، فكانوا يأتون به ويعرونه من ملابسه ويرمون به على رمضاء الصحراء العربية، ويحمون الصخور بالنار، ويلقونها عل صدره وظهره، ويلهبون جسده بالسياط وهو لا يزداد إلا إصراراً وصموداً، كلما زادوا في تعذيبه وتنكيله وطلبوا منه أن يكفر بمحمد (صلّى الله عليه وآله) أو يتراجع عن عقيدته، فلا يفتأ أن يردد كلمة: أحد، أحد أو نقرأ صورة أخرى تجسد هذه الروح أيضاً في هذه النماذج الرائعة من صحابة النبي:
جاء رجل من الأعراب إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فآمن به وتبعه فقال: أهاجر معك، فأوصى النبي به بعض الصحابة.. فلما كانت غزوة خيبر غنم الرسول شيئاً فقسمه وأعطى لهذا الأعرابي حصة من الغنائم، فقال الأعرابي للرسول: ما على هذا اتبعتك. قال له رسول: على ماذا اتبعتني؟ قال: اتبعتك على أن أرمى هاهنا (وأشار إلى حلقه) بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال الرسول: إن تصدق الله ليصدقنك الله.
ثم نهض إلى القتال فأوتي به إلى النبي وهو مقتول وقد أصيب في منحره بسهم وقضى شهيداً، فقال رسول الله: (صدق الله فصدقه). يعني كان صادقاً مع الله وأعطاه الله حسب نيته.
فهذا الوعي بل قمة الوعي بلغ إليها هؤلاء بفضل الروح التي نفخها النبي فيهم.
ورواية أخرى عن (عبد الله الجموح) الرجل المعروف كان أعرج وأراد الخروج مع النبي إلى حرب أحد فحاول أولاده أن يمنعوه من الخروج، فاشتكى لرسول الله وقال: إني أرجو أن أعرج الليلة إلى الجنة، أو (أطأ بعرجتي هذه الجنة) فأذن له رسول الله وقتل هو وأولاده الأربعة وشقيق زوجته فجاءت أرملته بعد المعركة وحملت زوجها وأخاها وأولادها الأربعة على جمل ودفعت بهم إلى المدينة فقابلتها النساء واستقبلنها على باب المدينة، وسألنها عن الأخبار فقالت:
(أما رسول الله فبخير وكل مصيبة بعده تهون)، فسألنها: وما هذه الجثث، فقالت: هؤلاء أولادي وزوجي وأخي أكرمهم الله بالشهادة وأحملهم لأدفنهم.
هذه الروح التي جسدتها هذه المرأة المسلمة وعائلتها المؤمنة... وجسّدها عبد الله بن جموح، إنما هي دليل العظمة في سيرة الرسول ونحن بحاجة إلى مثل هذه الروح، ونريد أن ندرس السيرة النبوية بهذا المنطلق، أن نستلهم الروح من سيرة النبي ليكون كل واحد منا، أبا ذر، وعمار، وياسر، وتكون نسائنا، كسمية وامرأة عبد الله بن جموح وسائر النساء المجاهدات في تاريخنا الإسلامي.
نريد أن ندرس السيرة النبوية لنحصل على هذه الروح.
هذه الروح لو عادت إلى جسد الأمة الإسلامية لوجدنا أن واقعنا يتغير، وأن بلادنا تتغير، وأوضاعنا الاجتماعية والسياسية والوحدوية تختلف عما هي عليه الآن من تشرذم وتخلف وحرمان وجهل لأن في سيرة النبي يمكن أن نجد شفاء لأمراضنا الروحية ودواء لمشاكلنا الاجتماعية وتخلفنا.
source : sibtayn