هل أنَّ طلب الشفاعة فی أمور الدنیا من غیر الله جائزٌ شرعاً، وهل أنَّ لها أثراً ایجابیاً فی الحیاة الدنیا کالرزق والشفاء من الاَمراض والنجاح فی الاَعمال، أو الاِنقاذ من الاَخطار وغیرها من شؤون الحیاة الدنیا، أم إنّها غیر جائزة، وغیر ذات فائدة فی الدنیا ؟
أما فی مسألة الجواز : فأنَّ الله سبحانه وتعالى قد أخبر عن رجال ارتضاهم لیشفعوا عنده فی عباده الذین ارتضى.. وقد وردت عدة روایات تؤید ذلک وآیات کثیرة منها (یَعْلَمُ مَا بَیْنَ أَیْدِیهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا یَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْیَتِهِ مُشْفِقُونَ)(1)،( هَلْ یَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِیلَهُ یَوْمَ یَأْتِی تَأْوِیلُهُ یَقُولُ الَّذِینَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَیَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَیْرَ الَّذِی کُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا کَانُوا یَفْتَرُونَ)(2) هذا فیما یتعلق بالشق الاَول من السؤال .
أما فیما یتعلق بالشق الثانی منه، وهو : هل أنَّ للشفاعة أثراً وفائدة فی تحصیل المصالح والمنافع الدنیویة أم لا ؟
إنّ الشفاعة تعطی ـ بالاضافة إلى المعانی التی تقدمت فی أول البحث ـ معنى الدعاء أیضاً، فالنبی صلى الله علیه وآله وسلم عندما یشفع لمؤمن فإنه یدعو الله سبحانه وتعالى، فقد ذکر السید العاملی أنَّ «شفاعة النبی صلى الله علیه وآله وسلم أو غیره عبارة عن دعائهِ الله تعالى لاَجل الغیر وطلبه منه غفران الذنب وقضاء الحوائج، فالشفاعة نوع من الدعاء والرجاء . حکى النیسابوری فی تفسیر قوله تعالى : ( مَّن یَشفَعْ شَفَاعةً حَسَنةً یَکُن لَّهُ نَصِیبٌ مِّنها وَمَن یَشفَعْ شَفَاعةً سَیّئةً یَکُن لَّهُ کِفلٌ مِّنها ) (3)عن مقاتل أنَّه قال : الشفاعة إلى الله إنما هی الدعوة لمسلم، لما رُوی عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم : من دعا لاَخیه المسلم بظهر الغیب استجیب له وقال له الملک ولکَ مثلُ ذلک» (4) وعلى هذا الاَساس، فإنَّ دعاء المؤمن لاَخیه المؤمن فی حیاته فی حاجة من حوائج الدنیا أمر مقبول لا غبار علیه ولا مناقشة فیه بعد الذی تقدم، ولما ورد من الحث على دعاء المؤمنین للمؤمنین : عن ابراهیم بن أبی البلاد رفعه وقال : قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم : «من سألکم بالله فاعطو، ومن أتاکم معروفاً فکافوه، وإن لم تجدوا ما تکافونه فادعوا الله له حتى تظنّوا أنکم قد کافیتموه» (5)
وقولک لاَخیک المؤمن «جزاک الله خیراً» هو نوع من الدعاء والشفاعة له عند الله، أو غیر ذلک من الدعاء الذی نمارسه فی حیاتنا العادیة مع أصدقائنا وإخواننا وأقاربنا وهذا اللون من الدعاء والشفاعة لا غبار علیه ولا مناقشة فیه کما قدّمنا.
لکن المناقشة تدور عادة بین المنکرین لجواز الشفاعة وتأثیرها فی حاجات الدنیا، وبین القائلین بجوازها وتأثیرها، حول طلب الشفاعة من الاَموات أو الذین غادروا الحیاة الدنیا على قول أدّق .
رأی ابن تیمیة ومناقشته :
ذهب ابن تیمیة ومن تابعه إلى أنَّ طلب الشفاعة فی حاجات الدنیا أو غیرها من «الاموات» شرک «... وإن قال أنا أسأله لکونه أقرب إلى الله منی لیشفع فی هذه الاُمور، لاَنی أتوسل إلى الله کما یُتَوَسَل إلى السلطان بخواصه وأعوانه فهذا من أفعال الذین یزعمون أنهم یتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء یستشفعون بهم فی مطالبهم، والمشرکین الذین أخبر الله عنهم أنهم قالوا : ( ما نعبدهم إلاّ لیقربونا إلى الله زُلفى ) ..» (6)
وتهافت وفساد هذا الرأی الذی یذهب إلیه ابن تیمیة أنّه جعل طلب الدعاء والشفاعة بمنزلةٍ مساویةٍ لـ «عبادة غیر الله»، مع أنَّ الشفاعة أصلاً لا تعنی العبادة لا بمعناها اللغوی ولا بمعناها الاصطلاحی، کما أنّ الداعی الداخلی والنفسی لطلب الشفاعة تعنی شیئاً آخراً غیر الداعی النفسی لعبادة الاَصنام والبشر أو غیر ذلک مما یتوسل بها المشرکون والکافرون لتقربهم على حدٍ زعمهم إلى الله زلفى .
وقد تقدّم فی هذا البحث أنَّ أبا بکر جاء إلى رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم بعد وفاته وکشف عن وجهه وسلّم علیه وطلب منه الدعاء له عند الله، کما ورد نفس الاَمر عن الاِمام علی علیه السلام . وطلبه ذلک من رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم وهو الذی قال عنه رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم : «أنا مدینة العلم وعلی بابها» (7) یدل بما لا مزید علیه على صحة الطلب من رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم حتى بعد وفاته .
وإذا دققنا فی الآیة القرآنیة الشریفة : ( وَلا تَحسَبنَّ الَّذینَ قُتِلُوا فی سَبیلِ اللهِ أمَواتاً بَل أحیاءٌ عِندَ رَبّهمِ یُرزقُونَ.. ) (8) والآیة الشریفة : ( وَلا تقُولُوا لمِن یُقتَلُ فی سَبیلِ اللهِ أمواتٌ بَلْ أحیَاءٌ وَلَکن لا تَشعُرُونَ... ) (9) نجد أنهما واضحتان فی الدلالة على الحیاة بعد مفارقة الدنیا، ولکن الاِنسان بطبیعته المادیة لا یدرک هذه الحیاة ولا یلمسها ولا یعرف حقیقتها إلاّ بعد الموت . ویقول العلاّمة الطباطبائی فی تفسیره لآیة ( ولا تَقُولُوا لِمن یُقتل.. ) : فالآیة تدلُ دلالة واضحة على حیاة الانسان البرزخیة، کالآیة النظیرة لها وهی قوله تعالى : ( وَلا تَحسبنَّ الَّذِینَ قُتِلوا فی سَبیلِ اللهِ أمواتاً بَلْ أحیَاءٌ عِندَ رَبْهِم یُرزقُونَ..)(10)
أما الموتى من المؤمنین من غیر الشهداء فإنَّهم کما عبّرت روایات کثیرة یعیشون فی البرزخ ویزورون أهلهم.. .
عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عُمیر، عن حفص بن البختری، عن أبی عبدالله علیه السلام قال : «إنّ المؤمن لیزور أهله فیرى ما یُحب ویُستر عنه ما یکره، وانّ الکافر لیزور أهله فیرى ما یکره ویُستر عنه مایُحب، ... ومنهم من یزور کل جمعة، ومنهم من یزور على قدر عمله»(11)
وبعد وضوح کل ذلک، فما المانع من أن یکون هؤلاء الذین غادروا الحیاة الدنیا إلى الحیاة الآخرة، یسمعون ویرون ویدعون الله للذین لم یلحقوا بهم من المؤمنین والشهداء فی قضاء حوائجهم ( فَرحِینَ بِمَا آتَاهُم اللهُ مِن فَضلِهِ وَیَستبشِرُونَ بِالَّذِینَ لَمْ یَلحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلفِهِم ألاّ خَوفٌ عَلَیهِم وَلا هُم یَحزنُون * یَستبشِرُون بِنِعمةٍ مِّنَ اللهِ وفَضلٍ وأنَّ اللهَ لا یُضِیعُ أجرَ المؤمِنینَ..) (12)
وکل ما تقدم یدل دلالة واضحة على أنَّ الاِنسان بعد الانتقال من الحیاة الدنیا فإنَّه یعیشُ حیاة اُخرى، یرى الکافر فیها العذاب فیتألم، ویرى المؤمنون فیها النعیم فیفرحون ویستبشرون، وهکذا یبطلُ زعم القائلین بأنَّ الاِنسان إذا مات انقطعت کل أسباب العلاقة بینه وبین الاَحیاء فی الدنیا وهو مذهب القائلین بعدم جواز التوسل بالاَموات، وهو مذهب فاسد کما علمت لاَنّه مخالف لصریح القرآن الکریم .
وقبل أن نختم هذا الفصل لا بأس بإیراد روایة صحیحة تروى عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم مما تنفع فی هذا الباب .
بعد أن انتهت معرکة بدر الکبرى بانتصار المسلمین، وقف رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم على قتلى المشرکین فقال : «یا أهل القلیب بئس عشیرة النبی کنتم لنبیکم کذبّتمونی وصدّقنی الناس، وأخرجتمونی وآوانی الناس، وقاتلتمونی ونصرنی الناس... ـ حتى قال ـ : هل وجدتم ما وعدکم ربی حقاً»(13)
فلو کان هؤلاء القتلى الذین غادروا الحیاة الدنیا لا یسمعون، فهل کان عبثاً حدیث رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم معهم، وهو الذی لا ینطق عن الهوى إن هو إلاّ وحی یُوحى؟
المصادر :
1- الانبیاء /28
2- الاعراف /53
3- النساء 4 : 85 .
4- کشف الارتیاب، للسید محسن العاملی : 196 .
5- وسائل الشیعة إلى تحصیل مسائل الشریعة، للشیخ محمد الحر العاملی 11 : 537 | 5 کتاب الامر بالمعروف والنهی عن المنکر، أبواب فعل المعروف .
6- زیارة القبور والاستنجاد بالمقبور، لابن تیمیة : 156 . والآیة من سورة الزمر 39 : 3 .
7- فتح الملک العلی فی اثبات صحة حدیث باب مدینة العلم علی، للسید أحمد بن الصدیق الغماری الشافعی ـ طبعة حدیثة 1995 م
8- آل عمران 3 : 169 .
9- البقرة 2 : 154 .
10- المیزان فی تفسیر القرآن، للطباطبائی 1 : 347 ـ 348 .
11- الکافی 3 : 230 | 1 باب ان المیت یزور أهله .
12- آل عمران 3 : 170 ـ 171 .
13- السیرة النبویة 1 : 639 . والسیرة الحلبیة 2 : 179 ـ 180 . کما أشار إلى قصة حدیث الرسول الاَکرم محمد صلى الله علیه وآله وسلم مع قتلى قریش وقوله للسائلین یا رسول الله أتکلم قوماً موتى ؟ «وما أنتم باسمع لما أقول منهم، ولکنهم لا یستطیعون ان یجیبونی» ذکر ذلک الکثیر من المحدثین والمؤرخین من الفریقین، وتجد ذلک فی صحیح البخاری 5 : 76 ـ 77 و 86 ـ 87 فی معرکة بدر. وصحیح مسلم 8 : 163 کتاب الجنة باب مقعد المیت . وسنن النسائی 4 : 89 ـ 90 باب أرواح المؤمنین . وبحار الانوار 19 : 346
source : rasekhoon